news-details

توفيق زيّاد شخصيّة جمعت كلًّا وطنيًّا متعدّدًا ومتجانسًا في واحد فاُتّفق عليه

كتب: علي هيبي

ولد توفيق زيّاد في السابع من أيّار سنة 1929 وتوفّي في الخامس من تمّوز سنة 1994. خمسة وستّون عامًا حافلة بالنضال الدؤوب، وحياة زاخرة بالمواقف الخالدة والحركة الدائمة في خدمة القضيّة الوطنيّة والمسيرة الكفاحيّة وكتابة الأدب المقاوم: شعرًا ونثرًا، جعل توفيق زيّاد الشعر مساويًا للناس، للوطن، للحياة، بواقعها الأليم وأحلامها الجميلة. وأبو الأمين شخصيّة مرموقة، شجاعة، سمت إلى الأعلى من صميم قلب الجماهير واكتسبت شعبيّتها من علاقاتها الطيّبة بالناس وجرأتها في اتّخاذ القرارات في المواقف الصعبة والحاسمة. 

نعيمة الأحمد الشاعرة والباحثة الفلسطينيّة عندما كتبت عن سرّ اختيارها لدراسة شخصيّة توفيق زيّاد: المناضل والشاعر،قالت: "إنّها إلقاء ضوء على مسيرة الكفاح والشعر الذي لا يموت طالما هناك قضيّة، أسلوبه الشيّق وشجاعته وجرأته وشخصيّته الثائرة والمثوّرة، هي مضمون دراستي عنه كنموذج وطنيّ".فتحيّة لها على الموقف الوطنيّ والدراسة الرصينة، مع أنّي أومن بأنّه لا يمكن تجزئة توفيق زيّاد إلى أجزاء، والحديث عن كلّ جزء على حدة، فهو شخصيّة عضويّة العناصر الممتزجة والمتداخلة، والتي لا يمكن أن تنفصم عراها، فهو الشاعر والكاتب والمناضل والسجين والسياسيّ المجرّب والقائد الشعبي في الساحات والميادين والقائد البلديّ النصراويّ، العامل من منطلق حبّه للناصرة وأهلها وأحيائها وفقرائها، وهو القائد البرلمانيّ المتربّص بالعنصريّة والعنصريّين والسياسات الحكوميّة الرسميّة المنتهجة ضدّ جماهيرنا العربيّة، ووقوفه الراسخ ضدّ سياسة الحرب والاحتلال والاستيطان والعدوان على شعبنا الفلسطينيّ وشعوبنا العربيّة عامّة. توفيق زيّاد شخصيّة التعدّد والجامعة لذلك كلّه في واحد، قد يقال عن بعض الشخصيّات: "إنّها شخصيّة اُختلف فيها، ولكنّ توفيق زيّاد بكافّة مكوّناته المذكورة شخصيّة اُتّفق عليها".

هل مات أبو الأمين حقًّا؟ في كتابه "داجون فلسطين" يحيي الشاعر مفلح طبعوني أولئك الموتى الذين لم يموتوا ولن يموتوا، وعلى رأسهم توفيق زيّاد، هذا ما قلته عن في مداخلة لي عن الكتاب القيّم في منتدى حيفا الثقافيّ، في السابع والعشرين من أيلول سنة 2015. وكذلك أنا لا أنسى تلك اللحظات من سنة 1977 ذلك الشابّ الصغير الذي كنته، عندما كان عمري اثنتيْن وعشرين سنة، وكان أبو الأمين في أوج ازدهاره وتألّقه السياسيّ والأدبيّ، وقبيل المعركة الانتخابيّة للكنيست ذلك العام، حين ألقيت أوّل قصيدة كتبتها في حياتي وهو حاضر خطيبًا بارعًا، من على منبر مقرّ الحزب الشيوعيّ، في مهرجان انتخابيّ في كابول، دعوت فيها الناس للتصويت للجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة التي تخوض معركة الانتخابات للكنيست لأوّل مرّة بعد تأسيسها بمبادرة الحزب سنة 1976، وكان توفيق زيّاد فارسها وأحد أبرز قادتها. 

 

أبرز مكوّنات شعره وإبداعه عامّة:

عادة ما تعود جذور الشاعر إلى مكوّنات لها أثر كبير في إبداعاته، ومن ثمّ تنعكس تلك التفاصيل التي تبدو صغيرة وبسيطة في بعض قصائده وإنتاجه الأدبيّ عامّة، وقد كان للبيئة الأسريّة التي نما وترعرع فيها توفيق زيّاد دور هامّ، خاصّة أثر شخصيّة الأب البسيط والمناضل والعنيد ضدّ الانتداب البريطانيّ على ذلك الطفل الذي كان عمره اثنيْ عشر عامًا، عندما جاء الجنود للبحث عن بندقيّة والده واعتقلوا الشيخ الوقور المتديّن، وكانت أمّه الصابرة والمكافحة على أسرتها، "تصرّ" الزوّادة لوالده المعتقل، فيحملها ويوصلها بجرأة وبلا خوف من رجال الأمن والشرطة، هذا الطفل بالفطرة والتربية الأولى وقف ضدّ الظلم الذي أحسّه، في مثل هذه الأحداث وتفاصيلها ومثيلاتها نما توفيق زيّاد، ويا لمفارقات الحياة، هذه الدار التي كان يدخلها طفلًا حاملًا القوت البسيط لوالده السجين، هي الدار نفسها التي دخلها محمولًا على الأكتاف بعد انتصاره كرئيس لبلديّة الناصرة ممثّلًا لجبهة الناصرة الديمقراطيّة سنة 1975. وكان هذا حدثًا مفصليًّا في تاريخ جماهيرنا العربيّة ومقارعتها للسلطة، وفي تاريخ شعبنا الفلسطينيّ، وكان لهذا الانتصار التاريخيّ أثر إيجابيّ في اتّخاذ القرار بالإضراب العامّ عشيّة الثلاثين من آذار عام 1976، ضدّ سياسة مصادرة الأرض وهدم البيوت، وغيرها من الممارسات العنصريّة السلطويّة الحكوميّة، وكان لتوفيق زيّاد المناضل والقائد الوطنيّ دور بارز ومتميّز في نجاح القرار والإضراب في يوم الأرض الخالد، رغم تهديدات السلطة لبعض الرؤساء المتخاذلين الذين انحازوا لها ضدّ أهاليهم ومواطنيهم، وكانت مقولته الشهيرة: "لا حاجة لاتّخاذ الرؤساء في قاعة الاجتماع الضيّقة في بلديّة شفاعمروقرارًا بالإضراب فالجماهير العريضة في الشوارع الواسعة خارج القاعة قد حسمت الموقف وقرّرت الإضراب"، وأذكر أنّ عدد جريدة "التايم" الصادرة بعد انتصار توفيق زيّاد والحزب والجبهة، نشرت مقالًا تحت عنوان"نجمة حمراء فوق الناصرة"، وكان لمجمل هذه الانتصارات لجماهيرنا في الداخل تأثير كبير وهامّ على انتصار القيادات الوطنيّة في انتخابات المجالس البلديّة في نابلس (بسّام الشكعة) ورام الله (كريم خلف) والبيرة (إبراهيم الطويل) وعنبتا (وحيد الحمد الله) وحلحول (محمّد ملحم) ممّا مهّد لأفول وانخماد روابط القرى العميلة للاحتلال وانتصار إرادة الناس الوطنيّة.

وكان للنكبة بكلّ انعكاساتها السياسيّة والاجتماعيّة والمعيشيّة تأثيرها على توفيق زيّاد، فهو ابن النكبة، كان عمره آنذاك تسعة عشر عامًا، ومن هنا ومن صميم هذه الأحداث المأساويّة على فلسطين شعبًا وترابًا وطنيًّا، بدأت تتبلور شخصيّة زيّاد الشاعر والمناضل، لقد شكّلت تفاصيل النكبة وممارسات العصابات الصهيونيّة والترحيل والتشريد وهدم القرى وسلخ الناس عن الأرض والبيوت، والجوع والحرمان والبؤس، كانت كلّها مضامين رئيسيّة في إبداع الشاعر الفلسطينيّ توفيق زيّاد، وقد تبلور وعيه الطبقيّ إلى جانب الوعيّ القوميّ والوطنيّ في هذه الفترة، فصقل الصراع القوميّ والطبقيّ فطرته في الوقوف ضدّ الظلم، بعد انتمائه للحزب الشيوعيّ والفكر الماركسيّ، الأمر الذي أمدّه بالثقافة الماركسيّة الاشتراكيّة والإنسانيّة، بعد زياراته للاتّحاد السوفييتي للدراسة، فتعلّم اللغة الروسيّة واطّلع على الآداب الروسيّة وأشعار الشعراء الماركسيّين والعالميّين من أمثال الشاعر التركيّ ناظم حكمت، ومن المعروف أنّ زيّاد كان منذ شبابه المبكّر وهو طالب ثانويّ قارئًا نهمًا، يرتاد مكتبة سمعان نصّار ويستأجر الكتب بقروش، يقرأها ويستبدلها بكتب أخرى، فهذه القراءات الأولى والثقافة التالية لها هي رافد هامّ من روافد مكوّناته الإبداعيّة والقياديّة.    

أمّا التراث الوطنيّ والشعبيّ الفلسطينيّ وأهميّة البحث عنه، ومن ثمّ توظيفه في الإبداع فكان في غاية الأهميّة، كان توفيق زيّاد يسافر ويبحث ويتقصّى مثل هذه الأقاصيص والخرافات في حواري الناصرة وأسواقها الشعبيّة وفي القرى والتجمّعات السكنيّة المجاورة،يدوّنها ويستخدمها في شعره ويوظّفها تعويضًا عن الإحساس بالهزيمة ورفض البؤس والذلّ ولشحذ همم الناس والحثّ على البطولة والثبات والصمود، فكانت مصدرًا أمدّه بالكثير من الصور والتجارب ووصف المعاناة الجماعيّة، وقد ساهم في هذا المكوّن أيضًا مكوّن آخر، وقد يكون أهمّ بل أبرز المكوّنات، كون زيّاد الإنسان البسيط الذي نما وسما من صميم قلب الجماهير، ألا وهو الانخراط في هموم الناس وفي معترك حياة البؤس وفي خضمّ النضال والوقوف في المقدّمة، وعلى رأس الجماهير، مؤمنًا برسالة الشعر وعمق الانتماء للناس، للوطن، للعدالة، والإيمان بمعادلة الشعر = الشعب، وما ليس من الشعب وعن الشعب ومن أجل قضايا الشعب العادلة ومن أجل انتصارها ليس شعرًا.

 

 

مراحل في شعره:

كما ذكرت سابقًا أنّ توفيق زيّاد شخصيّة جامعة، أعتقد كذلك أنّ شعره له ذات الصفة، أعني أنّ شعره على امتداد سنِي إبداعه كلّ واحد، منذ بدأ الكتابة وحتّى توفي، ولذلك لم يكن شعره كسائر الشعراء ذا حدود وفواصل ومراحل فارقة وواضحة، فمحور كتاباته في الشعر وفي معظم دواوينه والأغراض منها، ومنذ النكبة وحتّى نكبتنا بوفاته، يدور في محور رئيس واحد هو قضيّة التحرّر القوميّ الفلسطينيّ والعربيّ من الاحتلال وآثار النكبة،والطبقيّ الاجتماعيّ العالميّ وفقًا لقناعاته الفكريّة النابعة من نظريّة الاشتراكيّة العلميّة، وكلّ ما كتبه منذ أن تبلور وعيه في خدمة هاتين القضيّتين: الوطنيّة والإنسانيّة.

فقصائده كلّها وفي دواوينه الشعريّة وكتاباته النثريّة بكلّ مضامينها وأشكالها، كانت حالة استنفار دائمة استدعتها الظروف الأليمة الناتجة عن المأساة الكبرى، النكبة،وكان لمهرجانات الشعر دويٌّ صاخب وحضور دائم، كان شعره وشعرغيره من شعراء المقاومة صوت النضال الوطنيّ،صوت وجدان الجماهير وحسّها الرافض للهوان، الذي صحا من الصدمة والذهول بعد النكبة بسنوات، وكان للشعر دور في التحريض والدعوة للملمة الجراح وعدم الركون لليأس وللنضال الدؤوب.

ففي قصيدة "أدفنوا أمواتكم وانهضوا" يقول زيّاد تعبيرًا عن المعاني السابقة، في وصف المعاناة وأشكال الإحساس بالذلّ والموت ورفض النكسات المتلاحقة والدعوة للصمود والأمل بالغد المشرق الجديد:  

وعلينا كان أن نشربه حتّى الزجاج

كأسنا المرّ المحنّى

وعلينا كان أن نذبح ذبحًا كالنعاج

ساعة التاريخ جُنّا

وعلينا كان أن نهرب سربًا من دجاج

ونحسّ العار حتّى العظم منّا

إنّما لا بأس! هذا لحمنا جسر على البحر الأجاج

لضفاف لم نخنها لم تخنّا

يا ترابًا كلّه تبر وياقوت وعاج

حبّنا أقوى من الحبّ وأغنى

فادفنوا أمواتكم وانتصبوا

فغد - لو طار – لن يفلت منّا

نحن ما ضعنا .. ولكن

من جديد  .. قد سُبكنا (ديوان سجناء الحريّة ص 41 – 42 مطبعة أبو رحمون– عكّا)

 وكان الشاعر ابن الناس يقف في مقدّمة هذا النضال وفي أحلك الظروف،فكم مرّة وقف زيّاد شاعرًا في المهرجانات وتحوّلت قصيدته لدعوة لمظاهرة أو لمنشور سياسيّ:كما في قصيدة "أيلول الأسود" وقصيدة "سجناء الحريّة"، وكم مرّة اعتقل من مهرجان خطابيّ أو شعريّ،وكم مرّة حاولوا اغتيال صوته كشاعر يلهب الحماس الجماهيريّ وكم مرّة حاولوا اغتيال دوره كقائد سياسيّ ومناضل عنيد، يقود الجماهير بوعي وحكمة نحو التحرّر من الخوف وكسر القيود والانتصار على الجراح والهموم، ففي مقطع من قصيدة "سجناء الحريّة" يقول:

حُطّوا في رجلي القيد

حُطّوا في كفّي القيد

قُصّوا صوتي ولساني

واكووا أعضائي بسجائركم

وارموا ماء النار على وجهي

وكلوا لحمي . . يا محتلّين

حُطّوا في عنقي حبل المشنقة الأسودِ

حُطّوا بدني المقتول في لحد داخل لحدِ

فأنا من شدّة حبّي لبلادي

لا أفنى وأموت

لكن أتجدّدْ . . دومًا أتجدّدْ (ن . م،  ص 16 – 17)

 

مضامين شعره المقاوم ونزعته الإنسانيّة:

محور المضامين الأساسيّة في شعر توفيق زيّاد هو الموضوع الكبير، هو القضيّة الفلسطينيّة بعد النكبة، وما أدّى إليْها من إرهاصات ومؤامرات دوليّة خارجيّة تتعلّق بالقوى الاستعماريّة، وفي حالتنا الانتداب البريطانيّ وربيبته ووليدته الحركة الصهيونيّة وصنيعتهما إسرائيل، وتخاذل ذاتيّ عربيّ وصل حدّ التخاذل والتآمر والخيانة، وفلسطينيّ وصل حدّ الركون للمتآمر دوليًّا وعربيًّا، وقد أحاق بهذه القضيّة الكثير من الملابسات والتطوّرات الخطيرة على المستوى الوطنيّ الفلسطينيّ والقوميّ العربيّ ضيّعت الوطن وهجّرت أهله إلى المنافي، ومن هذا الواقع الأسود والمقيت تفجّر صوت الشاعر المعبّر عن حلمه بالعودة:

من هنا مرّوا إلى الشرقِ

غمامًا أسودا

يطأون الزهر والأطفال والقمح

وحبّات الندى

ويبيضون عداوات وحقدا

وقبورًا ومدى

من هنا سوف يعودون

وإن طال المدى(ن . م، ص 30)

 ولهذه القضيّة أبعادها وصورها التي اتّخذها الشاعر تيمات ذات دلالات كثيرة، ولكنّها كلّها تصبّ في غرض واحد هو التحدّي والصمود والبقاء في الوطن والاستعداد للتضحية والموت من أجل هويّة الأرض وهويّة الشعب، ولهذا كان شعر زيّاد دائمًا يميل إلى تحريض الناس بالحماس الثوريّ الواعي وبثّ الأمل، وكثيرًا ما تردّد في شعره معنى التجدّد في الحياة والصمود والنضال وليس الغرق في وحل النكبة وعذاباتها وأشكال موتها، برأيي هذا الأمل الدائم رغم الرزوح تحت طيّات الآلام المتراكمة ليس حلمًا رومانسيًّا خياليًّا، بل هو موقف كفاحيّ وثوريّ لأنّ الشاعر مؤمن حتّى النخاع بالواقعيّة الاشتراكيّة كتيّار أدبيّ، هبّ بعد الانتصار السوفييتي وهبوب ريحه وتأثيره على شعرائنا وفي شعرنا عامّة، وهو الصيغة والانعكاس الأدبيّ للنظريّة الاشتراكيّة التي تتناول جوانب المجتمع السياسيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة وغيرها، ولعلّ توفيق زيّاد هو النموذج الأبرز لهذا الاتّجاه.

ومن هنا باعتقادي انطلق الشاعر إلى القضايا العربيّة والعالميّة، فكتب لعمّال موسكو: "معكم أنا يا إخوتي العمّال في موسكو" (ديوان أشدّ على أياديكم، ص 22) كما كتب عن عمّال آتا المضربين: "إخوتي في الكفاح/ هذي التحيّة/ فالذي لصَّ خبزكم لصَّ خبزي/ نحن للطغاة ضحيّة".(ن . م، ص 120)

وكتب عن الثائر الأفريقيّ باتريس لوممبا في الكونغو وعن ماياكوفسكي الشاعر الروسي، وعن انتصار كوبا وعن لينين كما كتب عن عمّان وبور سعيد وجمال عبد الناصر وثورة 14 تمّوز وأمّ درمان/ كما كتب حلم العودة وعن عوّاد الأمارة وسرحان العليّ ومعاناة السجون وعن تفاصيل حياة البسطاء والفقراء الذين انحاز لهم بكلّ جوارحه ووجدانه وضميره.

بهذا يكون توفيق زيّاد قد جمع مئات بل آلاف المواضيع في بوتقة واحدة، صهر فيه معاناته الذاتيّة مع المعاناة الوطنيّة الفلسطينيّة ذات البعد والعمق القوميّ العربيّ، مع معاناة الإنسان المظلوم أينما وجد في هذا العالم، وهذا ما أكسب تجربته الشعريّة نزعة إنسانيّة واضحة في كلّ الدواوين. إنّ هذه النزعة الإنسانيّة عند زيّاد سلاح بوجه الظلم والاغتصاب والعنصريّة الصهيونيّة اللاإنسانيّة بل الهمجيّة.

ومن هنا أدّعي دائمًا إنّ شعراء المقاومة الفلسطينيّين، وزيّاد من أبرزهم خدموا القضيّة الوطنيّة أكثر من السياسيّين وأوصلوها إلى أصقاع الأرض بفعل إنسانيّة شعرنا وشعرائنا، ويزيد زيّاد عن غيره من الشعراء ببساطته وسهله الممتنع وفكره العميق، لغة وأسلوبًا، أفكارًا ومضامين تمسّ حياة الناس، كونه الشاعر الكبير والسياسيّ المجرَّب والقائد الشعبيّ. وتعبيرًا عن الموقف الإنسانيّ تعالوا نقرأ زيّاد يخاطب إحدى الشخصيّات اليهوديّة (أيبي نتان) في قصيدة تحمل اسمه، يدعو فيها إلى نبذ لغة العنف والحروب وإغلاق السجون ومحو دائرة الموت واستبدالها بلغة الحوار المؤدّي إلى المصافحة والسلام والأمان:

 

ألم يحنِ الحينُ

أن نلتقي للحوار ككلّ البشر

نحيّي . . نصافح بعضًا

ننادي بأسمائنا بعضنا البعض

نضرب أسيافنا سككًا

نزرع الأرض زهرًا

ونجمع ضوء القمر(ديوان أنا من هذه المدينة، ص 52)

 

التراث:أنواعه ودلالاته وتوظيفه:

لو تصفحّنا عناوين الدواوين وعناوين القصائد فقط لدى توفيق زيّاد، لوجدنا الشعر عنده وسيلة نضاليّة بيد الجماهير، تمتشقه كما يمتشق الفارس سيفه، وهو كأيّ وسيلة نضاليّة مقاتلة فال "كلمات مقاتلة"، ولذلك يكرّس ويوظّف زيّاد كلّ العناصر الأدبيّة معنويًّا وفنيًّا وأسلوبيًّا لخدمة هذه الوسيلة النضاليّة.

وشعر زيّاد يزخر بالموادّ التراثيّة التي استقاها من مصادر كثيرة، والشاعر يمتح من هذه النبوع الطافحة بالصور والمعاني والدلالات، ليس ليعيدها إلى الذاكرة ويرسّخها فحسب، بل ليجعلها مادّة للثبات والصمود، يشحذ بها الهمم لاستمرار النضال، والأهمّ حتّى يعوّض بهذه البطولات والشخصيّات والمعاني والمواقف عن الإحساس باليأس والذلّ والإذعان للهزيمة نكبة أو نكسة.

وقد استخدم موادّ هذا التراث الوطنيّ كأسلوب فنيّ يسقطه على دلالات تستدعيها الحالة الوطنيّة السياسيّة، إلى جانب أهميّة التوثيق لترسيخ الرواية الفلسطينيّة الصادقة أمام الرواية الصهيونيّة الكاذبة، فالصراع ليس ذا وجه قوميّ فقط، بل هو ذو وجه حضاريّ وإنسانيّ أيضًا. 

يشكّل التراث الدينيّ الإسلاميّ مصدرًا هامًّا للتناصّ في مبنى القصيدة الفنيّة عند زيّاد، يوظّفه الشاعر كما في قصيدة "رمضان كريم"،يوظّف الصيام وقراءة القرآن وكعك العيد والأولياء وآية "وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل":

ويدير أبو عبد الرحمن

زرّ الراديو في رفق

يتصاعد في دفء وأمان:

"اتّحدوا وأعدّوا العدّة للظلّام

كيلوا لهم الصاع اثنين

ويصيح أبو عبد الرحمن:

الله الله: يا عبد الباسط

يا أطيب من قرأ القرآن

غدًا العيد ونعيّد

نذبحُ واحدة من أبقار أبي

لكنّ أبي لا يملك أبقار

فلنذبح واحدة من بقر السيّد

ويقول أبو عبد الرحمن:

لا واحدة من بقر السيّد يا أطفال

بل السيّد

وتتمتم أمّ سليم:

رمضان كريم . . رمضان كريم (ديوان كلمات مقاتلة، ص 78 – 91)

كما يوظّف التراث الدينيّ الفارسيّ في قصيدة "نيران المجوس" فيجعل نار المجوس وفقًا للديانة الفارسيّة القديمة رمزًا للثبات على الموقف وعلى ثبات المناضلين متوقّدين إلى الأبد أو حتّى الانتصار على قوى الشرّ والاحتلال ومغتصبي الحقوق في كلّ مكان وزمان، فيقول في تلك القصيدة:

على مهلي . . على مهلي

أشدّ الضوء خيطًا ريّقًا

من ظلمة الليلِ

وأرعى مشتل الأحلام

عند منابع السيلِ

على مهلي لأنّي لست كالكبريت

أضيءُ لمرّةٍ وأموتْ

ولكنّي كنيرانِ المجوسِ أضيءُ

منْ مهدي إلى لحدي

ومن سلفي إلى نسلي

طويل كالمدى نفسي

وأتقن حرفة النملِ

على مهلي

لأنّ وظيفة التاريخ

أن يمشي كما نُملي (ن . م، ص 40 – 42)

ليدلّ على الموقف المتحدّي للظلم والعربدة. وفي قصيدة "قسمة ضيزى" يقول للتعبير عن الظلم الاجتماعيّ وعن التفاوت الشاسع بين الفقراء والأغنياء:

لهمُ النعمةُ والهمُّ لنا

والجوعُ والطاعونُ والموتُ لنا

سدّة الحكم لهم

والله والمعبد والثروة والبنك وشهد الأرض

والمستقبل الآتي لهم

والمنّ والسلوى لهم

والتبر والبترول والأسفار

والفقر لنا والجهل والمرض القتّال

والتيه لنا والسجن والقيد

وإن شاؤوا فحبل المشنقة (ديوان أنا من هذه المدينة، ص 74 – 75)

ووظّف زيّاد الكثير من التناصّ المستمدّ من التراث المسيحيّ،فالمسيح فلسطينيّ جليليّ وناصريّ، وتمثيلًا لهذا التراث، يقول في قصيدة "أمّة فوق الصليب":

علّقونا أمّة كاملة فوق الصليبْ

علّقونا فوقه حتّى نتوبْ

هذه النكسة ليست آخر الدنيا

ولا نحن عبيدْ

فامسحوا أدمعكم وادفنوا القتلى

وقوموا من جديدْ (ن . م،  ص 8)

هذه الصورة يستقيها الشاعر من قصّة صلب المسيح "عليه السلام" ويوظّفها كي يظهر معاناتنا مع المحتلّ الظالم، وهي ليست بأفضل من حال المسيح مع قاتليه، ولكنّ زيّاد ذا الشعر المجنّد للقضيّة يستخدمها كصورة نضاليّة تبشّر بقيامة الحزانى والمظلومين القريبة من جديد ضدّ الظالمين، كما سيقوم المسيح ليملأ الأرض عدلًا وسلامًا ونقاء، لأنّ هؤلاء الناس الأحرار هم منبع الخير في الدنيا، وهم المستقبل الباسم الذي سيشرق بعد مسار كفاحيّ شاقّ على طريق اللهيب، لكنّه الطريق المؤدّي حتمًا إلى الغد والحريّة، فلا حريّة بلا نضال كما لا قيامة بلا صلب وموت.    

كما وظّف زيّاد الكثير من الصور والدلالات من التراث الشعبيّ والخرافيّ الذي استقاه من الناس،فمن القصص الشعبيّ والشخصيّات من تراثنا القصصيّ القديم تحدّث عن عنترة وبطولاته وعن أبي زيد والتغريبة وعن ذياب وجسّاس، كلّ ذلك يوظّفه من أجل الحثّ على البطولة والصمود وتعويضًا عن الإحساس بالهزيمة والبؤس والذلّ، لذلك نحن بحاجة لهذه الشخصيّات الشعبيّة لشحذ الهمم. كما في قصيدة "سمر في السجن"، حيث ربابة إبراهيم السجين تحيي سهرات السمر الطويلة فتعين على التخفيف من معاناة السجن، وعلى الانتصار على السجّان.

يقول في قصيدة "سمر في السجن":

أتذكّرُ . . أتذكّرْ

لمّا كنّا في أحشاء الظلمة نسمرْ

وربابة إبراهيم تعمّرْ

تحكي عن عبسٍ . . عن عنترْ

عن عبلة . . عن سالفها الأسمرْ

عن جسّاس . . وأبو زيد . . وذيابْ

وعن التغريبة والأحباب الغيّابْ

وعن "البطلينْ . . كأنّهما جبلان"

وعن السيف المصقول . . "أبي الحدّينْ"

وعن العشّاق . . عن الحبّ الأخضرْ(ديوان سمر في السجن، ص 35 – 36)

كما وظّف الشاعر الأمثال والعادات والتقاليد،التي تعبّر عن تفاصيل الحياة وحكمة الآباء والأجداد والحياة اليوميّة، كصنع الكعك والأفراح في الأعياد والأعراس وزفّة العريس (الطوفة) والأغاني الشعبيّة، مثل "بالهنا يا أم الهنا يا هنيّة"و " عذّب الجمّال قلبي" وقصص الأبطال والمناضلين: عوّاد الأمارة من قرية كفر كنّا الذي يسرد زيّاد قصّة مقتله كثائر ضدّ الإنجليز في قصيدة "مقتل عوّاد الأمارة" وسرحان العلي من عرب الصقر الذي نسف أنبوب البترول في ثورة 1936 في قصيدة "سرحان والماسورة". يوظّف زيّاد هذه الجزئيّات من أمثال وقصص وعادات وأغانٍ كتفاصيل تعيد الحيويّة إلى الذاكرة فتحفظ الرواية من الضياع وتكوّن نسيجًا يبرز الهويّة الوطنيّة والقوميّة المهدّدة بالطمس والتغييب والتشويه، ويحوّل الشهادة والموت إلى غناء، ودم الشهيد يبعث في الناس الصمود والقدرة على الاستمرار والانغراس في التراب، إذ يتحوّل مأتمه إلى عرس وطنيّ يرسّخ شخصيّتنا الفلسطينيّة العربيّة السمراء في وطننا ذي التراب العربيّ الفلسطينيّ الأسمر.

بلحن موسيقيّ وإيقاع هادئ ولغة بسيطة وجمل قصيرة مألوفة يوصّل زيّاد أفكاره العميقة للناس، ويشحن عواطفهم بثراء جماليّ رفيع وعقولهم بفكر رصين وخلّاق، وذلك بتحويل المألوف والعاديّ إلى مدهش، فمن التراث القصصيّ الخرافيّ يوظّف قصّة مصباح علاء الدين فيقول:

آه لو عندي مصباحُ علاءِ الدين

لفركتُهُ حتّى يأتي العملاقُ

قدّامي يرتعشُ المسكينْ

ولكن هل تكفي الأحلامْ

هذا الشعبُ الزاحفُ بالأعلامْ

هوَ خاتمُ شبيك لبيك

هو مصباحُ علاءِ الدينْ (ديوان كلمات مقاتلة، ص 87 – 89)

وكان زيّاد يؤمن زيادة على ما قيل في الفقرات السابقة، ومن هنا نفهم سرّ اهتمامه بهذا التراث الشعبيّ بالذات، كان يؤمن بأنّ هذا التراث من القصص والخرافات جزء هامّ من كيان الأمّة ووجدانها الدائم والخالد لربط حاضرها بماضيها ومستقبلها ليكون هذا الجزء ماثلًا دائمًا أمام محاولات الطمس والتشويه والهدم التي تمارسها حكومات إسرائيل منذ قيامها، وتزداد المحاولات كلّما ازدادت الحكومات يمينيّة وتطرّفًا وفاشيّة وهمجيّة.

 

الأنماط الشعريّة:

من المتّبع والمتّفق عليه نقديًّا أنّ شعراءنا الفلسطينيّين وبشكل عام كتبوا في بداياتهم، أي في مستهلّ حياتهم الأدبيّة، كتبوا القصيدة الكلاسيكيّة العموديّة المبنيّة على الوحدات الثلاث: وحدة الوزن،وحدة القافية ووحدة البيت. وذلك لإثبات الحضور الذاتيّ فيما هو سائد شعريًّا، وللعيش في اللحظة الأدبيّة الراهنة، حيث كانت هذه القصيدة هي المنتشرة حتّى أواسط سنوات الخمسين من القرن الماضي، في شعرنا الفلسطينيّ، وكنوع من الحفاظ على تراثنا الشعريّ التقليديّ، ومن ثمّ الخروج عنه خروجًا واعيًا، والثورة عليه والذهاب للتجديد الذي يواكب التحرّر السياسيّ والاجتماعيّ وفقًا للمقاييس الحداثيّة. وهذا باعتقادي ينسحب على الشاعر توفيق زيّاد، ولكن عندما بحثت في دواوينه لم أجد للقصيدة العموديّة أيّ مثال يكون شاهدًا، ولعلّ توفيق زيّاد ابن النكبة لم يكتب شعرًا قبل 1950، وفي سؤال وجّهته للسيّدة نائلة زوجة الشاعر المرحوم قبل هذه المقابلة، إذا كان توفيق زيّاد قد كتب قصائد قبل 1950، وهل هي موجودة، وهل هي مكتوبة على النمط القديم من صدر وعجز، أجابت بالإيجاب وذكرت بعض العناوين، ولكنّها كانت قصائد ذاتيّة لشابّ رومانسيّ حالم، لمّا تشغله القضيّة الوطنيّة والسياسيّة، ووفقًا لقولها تعمل الآن على إصدارها وعلى إعادة إصدار غيرها، مثل كتاب "نصراويّ في الساحة الحمراء".

لقد طغى بعد منتصف القرن الماضي شعر التفعيلة/ الحرّ الذي بدأ نشوؤه في العراق على يد الشاعريْن: بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة، متأثّرًا بالشعر الغربيّ،وهو نمط جديد متحرّر من قيود الشعر العربيّ الكلاسيكيّة بوحداته الثلاث،نمط يواكب قضايا العصر ورياح التغيير والاستقلال في العالم العربي والعالم عامّة، وقد تبع شعراؤنا المقاومون بلا استثناء هذا النمط، وكان وما زال أكثر الأنماط رواجًا وانتشارًا في شعرنا الفلسطينيّ والعربيّ عامّة.

القصّة الشعريّة وأنا أتحدّث عنها كنمط امتاز به توفيق زيّاد عن غيره من شعراء المقاومة، ولا أقصد توظيف القصّة في القصيدة، بل بجعل نمط القصّة بناء فنيًّا متكاملًا للتعبير عن المضامين والتجارب الشعريّة التي تعكس المعاناة الفرديّة في القصيدة، ولكنّها جاءت شكلًا معبّرًا أكثر عن المعاناة الجماعيّة. وثمّة نماذج تبيّن ذلك في قصيدتيْ: "مقتل عوّاد الأمارة" و "سرحان والماسورة". 

لقد تميّز زيّاد بهذا النمط لأنّه نما في وسط شعبيّ فقير، وترعرع في الحارات العاديّة مع الناس البسطاء، فهو من هؤلاء الفقراء، همّه همّهم وألمه ألمهم وأمله أملهم وقصصهم جزء من حياته. وهو فيما بعد قائدهم الفذّ وشاعرهم الواضح بما يقوله عنهم ولهم والقريب من وجدانهم، وهذا ما جعل زيّاد شاعرًا كبيرًا وممتازًا من شعراء الرعيل الأوّل للمقاومة بعد النكبة، وكان من الممكن أن يكون أعظمهم وأكثرهم عطاء لو لم يأخذه منّا العمل السياسيّ البرلمانيّ والبلديّ، وقد عبّر عن ذلك بما معناه "أحبُّ السياسة ولكنّي أحبّ الأدب أكثر". وقد قال عنه الكثيرون إنّه شاعر الوضوح والمباشرة، وليس ذلك نقصًا فنيًّا أو صفة سلبيّة، بل النقيض هو الصحيح، فهذا الوضوح وتلك المباشرة تتحوّل في شعر زيّاد إلى ميزة فنيّة باحتوائها على التعبير الجماليّ واللغة البسيطة القريبة من الناس والواقع المعيش، وبها تميّز الشاعر عن غيره، لأنّ الشعر عنده تعبير جميل عن هموم الناس وقضاياهم وأداة كفاحيّة ولغة مشرقة وموسيقى راقية ورسالة إنسانيّة وحضاريّة.

 

مؤلّفاته النثريّة:

لزيّاد الشاعر صاحب الدواوين العشرة والتي كتبت منذ منتصف الخمسينيّات وحتّى منتصف التسعينيّات نشاطات أدبيّة أخرى ترقى به إلى حدّ صفة الكاتب الشموليّ، فقد كتب القصص: "صور من الأدب الفلسطينيّ" 1974 و "حال الدنيا" 1975، والمذكّرات والانطباعات والقصص: "يوميّات نصراويّ في الساحة الحمراء" 1972، والدراسة: "في الأدب الشعبيّ"1970.

قد يعتبر هذا الاتّجاه الإبداعيّ عند زيّاد هادفًا للتوثيق فحسب، هذا صحيح ولكنّه إلى جانب التوثيق، والتوثيق وسيلة في خدمة الهدف الأسمى وهو الحفاظ على الذاكرة الفلسطينيّة، لتبقى حيّة بأغانيها وقصصها وأمثالها وعاداتها وتقاليدها وأعراسها ومآتمها وأتراحها وأفراحها وآلامها وآمالها.

وهو ما قاله بوضوح على الغلاف الأخير لمجموعته القصصيّة "حال الدنيا": "تراثنا الشعبيّ غنيّ وزاخر كما كفاح شعبنا، والأبطال وإن كثروا فهم واحد – الشعب. إنّ خطر الضياع قضى على كنوز كثيرة، وهو يهدّد الكنوز الباقية، وعلينا أن لا نسمح بهذا الضياع". ومن هنا يدعو زيّاد كلّ الأدباء وكلّ من له صلة بهذا التراث الشعبيّ أن يدلوا بدلائهم.

وأخيرًا نقول: إنّ توفيق زيّاد كتب الوطن والقضيّة بتفاصيلها، وملحها وسكّرها بعسلها ومرّها، وعاش حياة كفاحيّة عريضة من المهد إلى اللحد، وكتب المكان والزمان وهموم الناس، كتب السياسة والاجتماع والاقتصاد والفقر والجوع، كتب الأدب والشعر والمقالة والدراسة والترجمة والقصّة، كتب الطبيعة والخضرة والحبّ والحرب والسلام، كتب النضال الفلسطينيّ الحضاريّ، كتب السجن والحريّة والاضطهاد والمقاومة، كتب الهزيمة والنصر، كتب جمال عبد الناصر ولينين، كتب الحزن والفرح والمأتم والعرس والشهادة، كتب الحبّ للناس البسطاء والكراهية والحقد على أعداء الشعوب، كتب للعربيّ ولليهوديّ، للأفريقيّ وللأميركيّ اللاتينيّ، كتب توفيق زيّاد الحياة وجعل كلّ ما كتب في خدمة قضيّة التحرّر الوطنيّ والإنسانيّ بنفس اشتراكيّ طويل وفكر ماركسيّ واعٍ.

سجّل ووثّق ورسّخ التفاصيل والكليّات والجزئيّات وأسّس وجذّر مفاهيم جديدة بأشكال وأفكار ومضامين مختلفة للبقاء في الوطن وللنضال الدؤوب والدائم من أجل التطوّر الوجوديّ والوجدانيّ، في هذا الوطن الذي ليس لنا وطن سواه، وعلى هذا التراب الأسمر الذي سُمرتنا من سُمرته.

لذلك ليس غريبًا أن تقام في مدينته الناصرة التي أحبّها "مؤسّسة توفيق زيّاد للثقافة الوطنيّة" تخليدًا له ولرمزيّة حضوره الخالد في وجدان الشعب شعرًا وكتابة أدبيّة قيادة وكفاحًا. ومن اللافت والجميل والراقي أن نرى اسمه خالدًا في كلّ قرانا ومدننا العربيّة، على رأس شارع أو مؤسّسة ثقافيّة أو معْلم ما، إجلالًا لدوره الكبير في تاريخ الشعب الفلسطينيّ، والأهمّ أن يبقى اسمه وحضوره محفوريْن في ذاكرة الجماهير العربيّة ووجدانها إلى الأبد. هذا أقلّ ما يقدّمه مجتمع حيّ ومناضل لا يقبل الذلّ والواقع المرّ نحو شخصيّة بقامة وقيمة توفيق زيّاد، هذا القائد الشعبيّ الذي أجمع الشعب الفلسطينيّ بكافّة مشاربه الاجتماعيّة وانتماءاته السياسيّة على محبّته بعمق وتقديره واحترامه بصدق. وبالعود على البدء، هو كلّ في واحد.

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب