news-details

مطران العرب بشارة (غريغوريوس) حجّار (3-3)| علي هيبي

 

العظماء (21)

 

المطرانيّة وحبّ فلسطين والكفاح:

في سنة (1901) انتخب "غريغوريوس حجّار" ليصبح مطرانًا لأبرشيّة "عكّا" لمدّة 40 عامًا (انقطع عنها مدّة خمس سنوات، بين (1914 - 1919) فترة دوام الحرب العالميّة الأولى، ولكن ليس بسبب ذلك فقط، سنأتي على ذكر هذه الفترة لاحقًا) أربعة عقود من الخدمة الرّعوية والوطنيّة، الاجتماعيّة والسّياسيّة، ومن هذا المنصب الكنسيّ الرّفيع بدأ يكتسب سمعة وطنيّة وكفاحيّة لمواقفه ضدّ كثير من العناصر والأعداء وعلى عدّة جبهات، ويقيم علاقات متينة مع الشّخصيّات العربيّة والغربيّة، ويشارك في النّشاطات واللّقاءات والمؤتمرات والمحافل الإقليميّة والدّوليّة، خدمة للكنيسة والرّعيّة، ولكنّ الأساس الأقوى والنّشاط الأبرز والخدمة الأوسع والأعمق كانت من أجل فلسطين وحقّها المهدّد بالدّمار والتّخريب، لقد آلت فلسطين إلى ما حذّر منه مرارًا وليل نهار المطران "حجّار"، ضاعت لضعف الحالة العربيّة والتّشرذم وفساد الزّمان وأطماع الاستعمار وشراسة الصّهيونيّة والتّوحّش والظّلم الغربيّ.

أربعة عقود من الحبّ لفلسطين وأهلها وقراها وجبالها وترابها وجليلها وساحلها، أربعة عقود من الوفاء للوطن فلسطين ولقضيّتها العادلة، ضدّ الأتراك والإنجليز ومحاولي مغتصبيها من حيثما جاءوا. لقد عبّر المطران "حجّار" عن هذا الحبّ بكلمات جميلة وساحرة تكتسي بصبغة الوفاء وبلغة دلّت على عمق انتمائه وصدق وطنيّته وحبّه للأرض والأهل والوطن، وعلى رقّة مشاعره الرّومانسيّة وتدفّق عاطفته الشّاعريّة، إنّها قصيدة حبّ للحبيبة الوطن قال: "آه يا فلسطين ما أحبّك إلى قلبي، وما أجملك في نظري، وما أقدسك في فمي، أيّها الوطن المفدّى إنّني أحبّك بجمالك ووهادك، بمروجك ووعورك، بخريفك وربيعك، بشتائك وصيفك، أحبّك سواء تجهّمت سماؤك أو ابتسمت كواكبها من خلال صفائها، أحبّك في محنتك، وأحبّك في هنائك، أحبّك في غنيّك يبسط يده في سخاء، وأحبّك في فقيرك يعمل بجدّ ونفس ذات إباء، أحبّك في شيوخك وقد جلّلهم وقار الشّيب وسطعت في أدمغتهم أنوار الحكمة، أحبّك في شبابك المفتول السّواعد وقد اتّقدت من بين أضلاعهم نيران الهمم، أحبّك في فتيانك وفتياتك وهم يناغون المستقبل وتناغيهم منه الأماني الكبيرة وقد انبسطت أمامهم الحياة بمباهجها، أحبّك في أطفالك... أحبك بدويًّا يُكلّل بعقاله وتحصّن فوق صهوة جواده مدللًا بسيفه ورمحه، أحبّك حتّى في تلك الفلّاحة البدويّة معتزّة بطهارتها فوق سنام جملها أو تحت أثقال جرّتها، أحبّك في فلّاحك يشقّ الأرض بمحراثه ليودع في أحشائها بذار آماله، ويحصدها خيرات يفيضها على الإنسانيّة جمعاء محسنًا كبيرًا تدين له كلّ مراتبها ملكًا ومملوكًا غنيًّا وفقيرًا، فما أعظم الفلّاح! أحبّك في ذلك الرّجل البسيط الطّيّب السّريرة الحسن الطّويّة في صدق مهجته وبساطة حياته يقنع بالكفاف ويشكر الله في حالة البؤس والسّرّاء والضّرّاء".

دفعه هذا الحبّ والشّعور الوطنيّ إلى التّصدّي لمشاريع التّتريك الّتي اتّبعها الأتراك ضدّ العرب عامّة، وبخاصّة عندما كانت تنمو المشاعر القوميّة العربيّة الّتي تطالب بالاستقلال عن الدّولة العثمانيّة، في فترة حكم السّلطان "عبد الحميد" وقد امتازت بالقمع والاستبداد، وقد أدّى ذلك الظّلم إلى بداية تبلور فكر قوميّ وشعور عربيّ، فقامت حركات سرّيّة للتّخلّص منه، وتمخّضت الأحداث عن عزله وإعلان دستور سنة (1908) وتحكّمت بالأوضاع جمعيّة "الاتّحاد والتّرقّي" باستبداد فاق استبداد "عبد الحميد"، وقد تخلّت عن مبادئ المساواة الّتي أعلنت في الدّستور، ونادت بالوحدة "الطّورانيّة" الّتي تتجاهل الشّعوب المنضوية تحت الحكم العثمانيّ، فزاد نموّ الوعي القوميّ العربيّ الّذي أدّى إلى بداية الكفاح القوميّ ضدّ سياسة التّتريك. لقد كان المطران "حجّار" في خضمّ هذه الأحداث والتّطوّرات وشارك في المؤتمرات الّتي عقدت، وأوّلها المؤتمر العربيّ الّذي عقد في "باريس" سنة (1913) خطب المطران "حجّار" في فرنسا ضدّ الألمان والأتراك وكذلك أبدى تأييده ونشاطه للحركات الوطنيّة ولدعاة القوميّة العربيّة في بلاد الشّام، فوصلت مضامين الخطاب الحماسيّ إلى القنصل التّركيّ، وبلا تردّد حكمت الحكومة التّركيّة بتجريده من مناصبه الدّينيّة، وكذلك بحكم الإعدام دون إعلامه. لقد كان حكم الإعدام يمتاز بسهولة اتّخاذه لدى الأتراك ضدّ الكثيرين من المناضلين العرب: اللبنانيّين والفلسطينيّين والسّوريّين الّذين عارضوا سياساتهم الاستبداديّة.

رغب المطران "حجّار" بالعودة إلى فلسطين لمزاولة عمله ورعاية مصالح رعيّته، لكنّه سافر إلى مصر والتقى بالبطريرك "كيرلس الثّامن" الّذي أبلغه بقرار حكم الإعدام عليه. وأشار عليه بالبقاء في مصر حتّى تهدأ الأحوال، فمكث المطران "حجّار" فيها خمسة أعوام حتّى نهاية الحرب الأولى سنة (1919) وانتهى حكم "الرّجل المريض" بعد خسارة دول المحور الحرب. خمسة أعوام قضاها بعيدًا عن أبرشيّته ورعيّته وشعبه وفلسطينه الّتي أحبّها حتّى النّخاع، ومع خطورة الظّروف على حياته في حال عودته إلى فلسطين، كان دائم الإلحاح للعودة إلى فلسطين عند البطريرك "كيرلس الثّامن" الّذي توفّي سنة (1916) فأبّنه، وكان "سعد زغلول" حاضرًا فأعجبته خطابته وبيانه فمال على صديقه الشّاعر "خليل مطران" وقال: "كيف لا يكون هذا المطران الجليل ذا شهرة عظيمة وهو أبلغ خطيب عربيّ سمعته". كان يلحّ للعودة إلى رعيّته ووطنه ويدعو البطريرك لترتيب الأمر، لكنّ دعواته تلك قوبلت بالرّفض القاطع حفاظًا على حياته. في هذه الفترة نشهد انتقالًا ملموسًا لدى المطران "حجّار" من الفكر الوطنيّ إلى تلمّس الطّريق نحو الفكر القوميّ العروبيّ، وبخاصّة بعد إحساسه بالأطماع الغربيّة ومن ثمّ الصّهيونيّة في تحقيق الوطن القوميّ اليهوديّ، أيّ تحقيق ما نصّ عليه "وعد بلفور" الّذي أصدره وزير المستعمرات البريطانيّ "آرثر بلفور" سنة (1917) ووفقًا لذلك تكون الحكومة البريطانيّة الّتي لا تملك سلبت الحقّ من مَن يستحقّ ويملك وأعطته لمن لا يستحقّ ولا يملك" في أكبر عمليّة تزوير في التّاريخ، ولكن ستبقى فلسطين حقيقة من تراب وصخور وماء وسماء ملكًا لأهلها العرب، الفلسطينيّين وليمحق الزّور إلى الأبد.             

 

المطران فلسطينيّ وعربيّ وممثّل لشعب:

مع بداية الانتداب البريطانيّ على فلسطين وتكشّف العلاقات المتواطئة بينه وبين الحركة الصّهيونيّة بدأ يتعمّق الشّعور العروبيّ لدى المطران "حجّار" وبدأ يميل إلى رؤية الرّوابط القوميّة العربيّة بالاستناد إلى المكوّنيْن الوطنيّيْن الرّاسخيْن: الإسلاميّ والمسيحيّ ابتداء من ثورة سنة (1919) وبداية الوعيّ الوطنيّ المصريّ بزعامة "سعد زغلول" الّذي ربطته به علاقة خاصّة إلى جانب علاقة المواقف المناهضة للظّلم التّركيّ والبريطانيّ، ومن ثمّ تأييده لثورة "الشّيخ عزّ الدّين القسّام" في بداية ثلاثينيّات القرن الماضي، وقد كان صديقه في "حيفا"، حيث كان "القسّام" إمامًا لمسجد "الاستقلال" وزعيمًا مكافحًا ضدّ الانتداب والصّهيونيّة، ومع "فارس الخوري" أشهر الزّعماء الوطنيّين في سوريا، ومع الرّئيس الوطنيّ اللّبنانيّ "إميل إدّة"، وكذلك ربطته علاقات وثيقة مع "الشّريف حسين" وأولاده وبخاصّة ابنه "فيصل".

في سنة (1924) سافر المطران "حجّار" إلى "عمّان" مهنّئًا "الشّريف حسين" بمبايعته خليفة للمسلمين، ووقف المطران خطيبًا فقال مستهلًّا: "إنّ الطّائفة الكاثوليكيّة الملكيّة العربيّة بمجموعها وأفرادها ورؤسائها، باسْمي وباسْم المسيحيّين الفلسطينيّين الّذين لي شرف تمثيلهم أقف أمامكم لأعلن لكم بأنّنا نحن نصارى فلسطين عرب نتمسّك بأرضنا وندافع عنها ونحن سكّان الأرض الأصليّون". وكالعادة إذ يكون الخطيب مفوّهًا وصادقًا يحسن التّصوير والبيان، وهي صفات صميميّة في مطران العرب البليغ، يعجب به المتلقّي فيقول "الشّريف حسين" متوجّهًا للخطيب الفذّ بفخر واعتزاز بعد سماع خطبته السّياسيّة والبلاغيّة: "أيّها المطران العربيّ أنت أخطب من كلّ من سمعت! ولَأنت مفخرة هذه الأمّة وعلم من أعلامها". لقد وفّق المطران "حجّار" بين الدّين والقوميّة باعتباره الشّعب الفلسطينيّ بمسلميه ومسيحيّيه جزءًا عضويًّا من الأمّة العربيّة الّتي يجمعها رباطان محوريّان بارزان: الدّم واللّغة. لقد جعل المطران "حجّار" الدّين مركّبًا أساسيًّا لانتمائه الوطنيّ الفلسطينيّ ورأى في الوطنيّة مركّبًا هامًّا في هيكل القوميّة العربيّة، تلك الرّؤية تجلّت في تعريفه لهويّته التّراكميّة: "أنا مسيحيّ فلسطينيّ عربيّ". ومن هذه الرّؤية السّاطعة تبنّى المطران "حجّار" الانتماء العروبيّ ومفاهيمه، فالمسيحيّ الفلسطينيّ جزء من العرب والعالم العربيّ، ولا يقلّ بذلك عن أخيه المسلم الفلسطينيّ. ولهذا أيّد المطران "حجّار" الثّورة العربيّة الكبرى عند قيامها في "الحجاز" سنة (1916) ضدّ الدّولة العثمانيّة الّتي امتازت بالظّلم والتّدمير والقمع والاستبداد، ولنا في الوالي العثمانيّ "جمال باشا" الملقّب بِ "السّفّاح" (1873 – 1922) خير دليل في بلاد الشّام وفلسطين، حيث تولّى حكمها سنة (1915).     

فرح المطران "حجّار" لفرح فلسطين وأهلها وحزن لأحزانهم، وعرف بفكره النيّر وعقله الثّاقب ماذا يتربّص بها من أطماع منذ تكشّفت أنياب الحكومة البريطانيّة ومخالب الحركة الصّهيونيّة، منذ صدور الوعد المشؤوم، ولذلك كان المطران الوطنيّ لا ينفكّ عن طلب المساعدة لهذا الشّعب المظلوم ولهذه القضيّة المهدّدة بالتّغييب من خلال سلخ الإنسان عن الأرض لتبقى أرضًا بلا شعب كما أدّعت كاذبة الحركة الصّهيونيّة، بغية احتلالها واستيطانها بالمهاجرين اليهود الّذين ما فتئوا يفدون إليها بمساندة وتغطية من الانتداب البريطانيّ والخمول العربيّ. لذلك أرسل المطران "حجّار" مذكّرة عبّر فيها عن غيرته على فلسطين، أرسلها للجالية العربيّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة يحثّهم فيها على مناصرة الفلسطينيّين الّذين يتعرّضون للتّدمير والخراب. ولأنّه كان على وعي بقدرة الصّهيونيّة ومدى تقديم إغراءات للتّخلّي عن فلسطين وقضيّتها الوطنيّة أرسل تحذيرًا لعدد من الشّخصيّات الدّينيّة المسيحيّة اللّبنانيّة ورجال الإكليروس ورجال الأعمال والتّجّار والسّياسيّين، نشرته جريدة "الصّحافيّ التّائه" قال فيه منبّهًا من مغبّة الوقوع في حبائل مكائدها وإغراءاتها المادّيّة: "أنتم في لبنان مخدوعون في أمر الصّهيونيّة، ولا ترون فيها غير المال الّذي جاءت به إلى بلادنا، إنّه مالٌ باقٍ لليهود، وإذا استفاد منه بعض الملّاكين القلائل عندنا، فهذا لا يعني أنّ فلسطين العربيّة استفادت منه، إنّ الفقر والحاجة اللذين يعيش بهما أبناء الشّعب في فلسطين لم يسبق لهما مثيل، إنّ الاستثمار الّذي قام به الصّهيونيّ أخذ البقيّة الباقية من أموال الفلسطينيّين". وقد حذّر الشّعراءُ من هذه الهجرات اليهوديّة ومن مخاطر البيع والسّمسرة، فقال شاعر فلسطين "إبراهيم طوقان" في تتابع الهجرات اليهوديّة وخطورتها:

"هوَ الألفُ لمْ تعرفْ فلسطينُ ضربةَ           أشدَّ  وأنكى  منهُ  يومًا  لضاربِ

يهاجرُ     ألفٌ     ثمَّ     ألفٌ     مهرّبًا          ويدخلُ   ألفٌ  سائحٌ  غيرَ  آيبِ

وألفُ    جوازٍ    ثمَّ     ألفُ    وسيلةٍ           لتسهيلِ ما يلقونَهُ منْ مصاعبِ

وفي    البحرِ    آلافٌ    كأنَّ     عبابَهُ           وأمواجَهُ   مشحونةٌ   بالمراكبِ"

وقال الأديب "محمّد إسعاف النّشاشيبي":

"يا فتاةَ العُربِ جودي بالدّماءْ        بدلَ الدّمعِ إذا رمْتِ البكاءْ

فلقدْ ولَّتْ  فلسطينُ  ولمْ يبقَ         يا أختَ  العلا غيرُ  الدّماءْ

إنَّها    أوطانُكُمْ      فاستيقظوا         لا  تبيعوها  لقومٍ  دخلاء"

 طيلة فترة وجوده في فلسطين لم يقدّم للحكومة البريطانيّة أو لليهود الصّهاينة شيئًا، ولعلّ وقوفه أمام "اللّجنة الملكيّة البريطانيّة" سنة (1937) وخطابه الشّهير أمامها يشكّل رؤية وطنيّة بالاعتماد على الحقّ الفلسطينيّ والأرض الفلسطينيّة وبتفنيد دعاوى الصّهيونيّة ومطالبتهم بوطن قوميّ في فلسطين، وقد فاجأت مضامين خطابه أعضاء اللّجنة الّذين اعتقدوا لأنّه مطران مسيحيّ سيكون خطابه أقلّ حدّة من خطاب المسلمين، لكنّه في الحقيقة حمل أشدّ المضامين والمطالب السياسيّة والوطنيّة، وقد قال فيه: " أتيت لأتكلّم لا باسْمي الشّخصيّ فقط، كرئيس دينيّ مستقلّ، وإنّما لأنقل إليكم صدى ما سمعته وأسمعه من شعبنا العربيّ الفلسطينيّ في المدن والقرى، وأنا مختلط به اختلاطًا تامًّا منذ 36 سنة كأسقف عربيّ، أحسُّ مع الشّعب، فأتألّم لألمه وأفرح لفرحه، وهو يفضي إليّ بذات صدره في كلّ فرحة، العرب هنا في هذه البلاد من آلاف السّنين قبل اليهود، ولم يقوَ اليهود على طردهم، وبقيت البلاد باسمهم إلى الآن"، وتابع محذّرًا من مغبّة يهوديّة الدّولة في فلسطين فقال: "ومتى أصبحت فلسطين دارًا لدين واحد، فسيصبح أصحاب الوعد (يقصد وعد بلفور) أصحاب البلاد ونحن سنصبح كزنوج أميركا". 

 

إنّه اغتيال دُبّر بليل:

قد أدري أو لا أدري لماذا كلّما قرأت عن حادث السّير الّذي قضى فيه المطران "حجّار" نحبه يساورني الشّكّ القريب جدًّا من اليقين بل أكاد أجزم أنّ الحادث كان اغتيالًا دُبّر بليل، فكلّ من كتبوا عن ذلك الحدث الجلل أشاروا إلى شكوكهم ولم يحسموا في الأمر. لماذا أدري أنّه قد يكون اغتيالًا لأنّ شخصيّة وطنيّة لها ثقلها الدّينيّ والوطنيّ والشّعبيّ ومكانتها عند الشّعب الفلسطينيّ وتأثيرها، تشهد لها مواقفها الكفاحيّة في الذّود عن فلسطين الوطن والقضيّة وعن حقوق الشّعب الفلسطينيّ، وسعيه الدّؤوب لصيانة الوحدة الوطنيّة بين المسلمين والمسيحيّين، وخدماته للأهالي في جميع المجالات، وعلاقاته المتشعّبة مع السّياسيّين والمناضلين والقادة والأدباء والمثقّفين في العالم العربيّ، ووقوفه في وجه الأتراك وحكمهم المستبدّ وسياسة التّتريك وفي وجه الانتداب البريطانيّ وسياساته المنحازة للحركة الصّهيونيّة وتغطيته لجرائمها زيادة على جرائمه، كما تجلّت مواقفه العنيدة أمام "لجنة "بيل" سنة (1937) وتصدّيه للهجرات اليهوديّة المتتابعة إلى فلسطين ووقوفه إلى جانب المقهورين والمسحوقين من العمّال والفلّاحين ومناصرة حقوقهم في العمل الكريم والأرض، واقتران اسمه بنضال أولئك الفلّاحين والمجاهدين الفلسطينيّين ضدّ الغزو الصّهيونيّ. ألا يخلق له كلّ ذلك كمًّا هائلًا من الأعداء المتربّصين به للحدّ من قدراته ونشاطه وفاعليّته ووطنيّته. ألم يصلبوا "السّيّد المسيح"! ألم يدبّروا محاولة لقتل "النّبيّ محمّد"! ألم يقتلوا "تشي جيفارا" وَ "مارتن لوثر كينغ"! ألم يصلبوا "سبارتاكوس" حتّى الموت! ألم يغتالوا "المهاتما غاندي"! ألم يحكموا بالموت والسّم على "سقراط" الحكيم! ألم يسجنوا المناضل "نيلسون مانديلا" لثلاثة عقود! ألم يحاصروا "جمال عبد النّاصر" ونظامه الوطنيّ! والنّجوم السّاطعة في سماء العظمة والمجد لا تعدّ. ولماذا لا أدري لأنّي رغم ملكي لإحساس قويّ بأنّ الرّجل قد اغتيل لا أملك دليلًا مادّيًّا ملموسًا.

في آخر نشاط وطنيّ له عشيّة عيد الفطر يوم 30 تشرين الأوّل سنة (1940) سافر المطران "حجّار" من "حيفا" إلى "القدس" لزيارة المندوب السّامي البريطانيّ ساعيًا للعفو عن المناضلين الفلسطينيّين المعتقلين بسبب مشاركتهم في الثّورة الفلسطينيّة والمحكومين بالإعدام، وقد تكلّل سعيه بالنّجاح وتقرّر الإفراج عنهم، فقصد "الحرم القدسيّ الشّريف" ليزفّ بشرى الإفراج عن السّجناء، فقوبل باحتفاء كبير جعل الأهالي والمصلّين المتواجدين يحملونه على الأكتاف فرحًا بهذه الخطوة الوطنيّة اللّافتة.

وفي طريق عودته إلى "حيفا" اصطدمت السّيّارة الّتي كان يقلّها بعربة خيل، فنزل ليستطلع الحادث فجاءت سيّارة مسرعة وصدمته فنقل إلى المستشفى ومات بعد ساعة واحدة. فماتت بموته الطّهارة الإنسانيّة.

وما يزيد من شكّي ويوصلني إلى عتبات اليقين بأنّ المطران قد اغتيل ما أخبرني به الدّكتور "جوني منصور" بأنّ الرّجل الّذي كان يقود السّيّارة الّتي دهست المطران حيفاويّ مات قبل حوالي عشر سنوات، وربّما وهو ينطوي على سرّ خطير، وقيل أغدقت عليه الحكومة الإسرائيليّة بالكثير من الامتيازات وَ "المكرمات"، ورغم محاولات د. "منصور" للقائه للاستفسار عن الحادث إلّا أنّ كلّ محاولاته ودعواته للرّجل باءت بالفشل، ولذلك كلّه أكاد أجزم من تجميع تلك القرائن أنّه اغتيال دُبّر بليل. فشلّت يد الظّلم والغدر وظلام اللّيل!

 

مكانة المطران وخلوده:

لقد كانت حياة المطران "حجّار" طريق آلام شاقّة، ولقد كانت تلك الطّريق بآلامها وآمالها ومعاناتها ومآسيها وأفراحها وإنجازاتها الوطنيّة الجسام هي الّتي صنعت من ذلك الطّفل البسيط "بشارة" هذه العظمة الّتي تستحقّ وصفها بالظّاهرة "الحجّاريّة" لتميّزها وانقطاع نظيرها.

نعم كتب الشّعراء القصائد وقدّم الخطباء الخطب العصماء وخلّدته القرى والمدن الفلسطينيّة بإطلاق اسمه على الشّوارع والسّاحات والميادين والمؤسّسات، وبمثابرة الأستاذ "جوني منصور" والمرحوم حسين إغباريّة" وبعد جهد جهيد ودأب حثيث ولمدّة سبع سنوات متواصلة من المطالبة ومعارضة قوى اليمين في بلديّة "حيفا" استطاعا أن يجعلا إدارة البلديّة توافق سنة (1998) على إطلاق اسم المطران "غريغوريوس حجّار" على أحد شوارعها، ولكنّ المطران العظيم ظلّ أعظم ممّا عظّمه وممّن عظّموه.  

في مقدّماتي الكثيرة والطّويلة دائمًا أتساءل: "لماذا نعود إلى هؤلاء العظماء ولماذا من المهمّ أن نعود إلى المطران "حجّار" اليوم"؟ هل هي حاجة ضروريّة نحسّها لإحياء كياننا الدّاخليّ؟ كما يقول د. "منصور" في توطئة كتابه أم لكتابة تاريخه من جديد وقد سبقنا إلى فعل ذلك من هم أفضل منّا، قد يكون إحساسًا داخليًّا ينمو فينا كلّما غصنا في ظلمات وهزائم وانكسارات، كلّما طالت دروب آلامنا العربيّة، كلّما غرقنا في بحور المادّة والمال وابتعدنا عن النّقاء والقيم الروحيّة الّتي يسمو الإنسان بها، كلّما عاث الظّلم والاستبداد والاضطهاد فسادًا في عالم الحرّيّة والكرامة، كلّما طغى التوحّش والجاهليّة على الإنسانيّة والنّور، كلّما افتقدنا "المسيح" والطّهارة والتّسامح، وكلّما افتقدنا "محمّد" والعدالة وحرّيّة العبيد وسواسية النّاس كأسنان المشط، كلّما تشتّتنا وتشرذمنا عائليًّا وطائفيًّا وتناحرنا إقليميًّا على مصالح نفعيّة واهية وانجررنا إلى ما يبثّه فينا الأعداء من "فرّق تسد" ونكون تربة وافرة الخصوبة لجاهليّتنا وقبليّتنا وعصبيّتنا وظلاميّتنا فيحيق بنا الدّمار.

نعم نعود! ويجب أن نعود إلى المطران "حجّار" الّذي جسّد المسيح فكان "مسيح الشّرق" المعذّب في الأرض والمتألّم والسّجين والمقتول والمصلوب والمسموم، إنّه المسيح الّذي يمثّل فلسطين الجريحة، المعذّبة، المرفوعة على الصّليب. إنّه نور العالم المنبعثة من الذّات السّماويّة والمنتشرة في الأرجاء لتنير لنا الطّرقات الموحشة والمدلهمّة بالبشارة والقيامة.

المطران "حجّار" هو الفلّاح الجليليّ البسيط والمتواضع راعي اليتيم والمسكين وعائد المريض والسّجين. إنّه المطران الفلسطينيّ العربيّ لأنّ المسيح كان في وجدانه فلسطينيًّا عربيًّا.

عندما أبّنه المطران "باسيليوس حجّار" قال بحقّ: "يوم مشهود! أمأتم هذا أم عيد وهذا الجمع الغفير والحشد الكبير الّذي يزحم بعضه بعضَا بالمناكب"، نعم يستحقّ كلّ ذلك، فقدناه فحزنّا واستنرنا بنوره ومآثره فعيّدنا. أبّنه كثيرون وشاركت في تشييعه شخصيّات مرموقة من سائر بلاد الشّام وبكته الملايين. ورثته الشّعراء، فهذا صديقه "شاعر القطريْن خليل مطران" يرثيه في ثلاث قصائد، وكان قد كتب له قصيدة مشهورة يوم تكريمه في "حيفا" بحلول اليوبيل الفضّيّ لجلوسه على كرسيّ المطرانيّة في فلسطين سنة (1925) وقال في مطلعها:

"بوركَ في خلقِكَ المليحِ          يا   أشبهَ   الخلقِ  بالمسيحِ

وفي   ذكاءٍ    لهُ    شعاعٌ          يبدو  على  وجهِكَ  الصّبيحِ"

وفي ذلك الاحتفال وقف الشّيخ "أسعد الشّقيري" وهو من وجهاء "عكّا" خطيبًا، وكانت كلمته بعد كلمة المطران "حجّار" الّتي نالت إعجابه فقال: "يا حجّارنا! اعتقدنا أنّ "الكرمل" فوق البحر، ولكنّنا وجدنا أنّ البحر فوق "الكرمل"، وأشار بيده نحو المطران ومن ثمّ ضجّ الاحتفال بتصفيق حادّ ووسط التّصفيق قام الرّجلان وتعانقا بمحبّة ومسرّة.   

وللشّاعر "عادل الغضبان شاعر الشّباب" قصيدة في رثائه يقول فيها:

ما للسّوادِ يلوحُ  في  الأستارِ         ذهبَ الكريمُ الحرُّ في الأحبارِ

هاتوا دموعَكُمُ لنقضيَ حقَّهُ         ونصونَ  حقَّ   مودّةٍ   وذمارِ"

 

وأخيرًا:

لقد تطهّرت أرض فلسطين واكتسبت حيفا جلالًا وازدانت جمالًا واشرأبّ الكرمل شموخًا وترامى البحر اتّساعًا وران على كنيسة "السّيّدة" بهاء ونقاء وسناء وانبثق منها نور انتشر في كلّ ناصية وحارة وبيت، عندما ضمّ هذا التّراب الفلسطينيّ الجثمان الطّاهر للمطران "غريغوريوس حجّار" الكليّ الوقار والمثلّث الرحمة غمرته الطّهارة والرّحمة والوقار. يجب أن لا نعزّي فيه بل علينا أن نسترشد من طريقه العظيم، كما استرشد منها المطران الفلسطينيّ الأوّل "جبرائيل أبو سعدى" (1907 – 1965) ابن "بيت ساحور"، وقد كان قائدًا وطنيًّا وعضو المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ والّذي نادى "لا للاحتلال الصّهيونيّ" وتعرّض لمحاولات الاغتيال مرّات عديدة. والمطران الفلسطينيّ السّوريّ الأصل "هيلاريون كبوتشي" الّذي سمّي بحقّ في المسلسل التّلفزيونيّ بِ "حارس القدس"، والّذي كانت مسيرته الوطنيّة والنّضاليّة صورة تجسّد مسيرة المطران "حجّار" الوطنيّة، يكفي المطران "جبرائيل أبو سعدى" والمطران "هيلاريون كبوتشي" هذا الاسترشاد العامر بالنّور والوطن، ويكفي المطران "بشارة غريغوريوس حجّار" راحة نفسيّة واطمئنانًا روحانيًّا أن هناك من غذّ الخطى الواثقة في طريق الآلام وسار في سبيل النّور والحرّيّة والكرامة الوطنيّة والإنسانيّة. ونعم الطّريق! وأبدًا على هذا الطّريق! رحم الله المطارنة وكلّ رجال الدّين الأنقياء والأتقياء وجميع شهداء الشّعب الفلسطينيّ الأبرار.

صورة المقال: المطران حجار مع رجال دين في حيفا عام 1935.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب