news-details

وفاة القسيس الوطني الفلسطيني  رفيق فرح في تورنتو بكندا

لندن: من إلياس نصرالله

توفي في تورنتو صباح الأثنين 11 أيار/مايو 2020 بكندا الأرشديكن رفيق أمين فرح عن عمر ناهز التسعة والتسعين عاماً على أثر أزمة صحية طارئة. يُعدّ رفيق شخصية وطنية معروفة على المستويين الفلسطيني والعربي، إلى جانب شهرته في العالم الغربي من خلال مؤلفاته التي صدرت باللغة الإنجليزية. نمت هذه الشهرة رغم السنوات الطويلة التي قضاها رفيق في المهجر، تارة بحكم الظروف السياسية القاهرة التي عاشها وأخرىً لظروف عمله رئيساً روحياً للطائفة الأنجليكانية (البروتستانتية) العربية في كل من حيفا والقدس ورام الله وعمان وبيروت ولندن وتورنتو، مما جعله شخصية بارزة على مختلف المستويات، دينياً وسياسياً واجتماعياً، بالإضافة إلى نشاطه الثقافي والفكري، مؤرخاً ومؤلفاً.

ولد رفيق في عائلة ميسورة الحال في شفاعمرو، وبعد إنهاء دراسته الثانوية في فلسطين درس في الجامعة الأميركية في بيروت، حيث درس الفلسفة وعلم اللاهوت وتخرج منها عام  1945، وعاد إلى فلسطين فعمل مدرّساً في مدرسة مار يوحنا في حيفا، وهي واحدة من أقدم المدارس في فلسطين وتأسست عام 1868. وفي نيسان/أبريل عام 1948 التحق رفيق بسلك الكهنوت ضمن الكنيسة الأسقفية التي انتمت إليها عائلته، وترقى في سلك الكهنوت حتى حصل على رتبة أرشديكن.

يُذكر أن حفل رسامة رفيق قسيساً تم قبل يومين من سقوط حيفا في 22 نيسان/أبريل 1948، وأقيم الحفلفي كنيسة القديس فيليبُس الأسقفية التابعة للطائفة في نابلس وترأسه القسيس العراقي سمعان ديبوني، الذي كان يعمل في فلسطين، وشاءت الأقدار أن يُقتل سمعان في حادث سير على طريق القدس رام الله بعد أيام قليلة من إشرافه على حفل رسامة رفيق.

تزامنت رسامة رفيق مع وقوع نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948.وعقب انتهاء حفل الرسامة في نابلس عاد إلى حيفا في آخر رحلة قطار بين المدينتين لخطوط السكك الحديدية في فلسطين. فخط قطار حيفا نابلس الذي افتتحه العثمانيون في العقد الأول من القرن الماضي أصبح جزءاً من تاريخ فلسطين الماضي وكان رفيق شاهداً عليه. لم يكن القطار يحمل سوى عدد قليل من المسافرين في تلك الرحلة إلى المجهول، إذ وجد سكان حيفا يهربون من وجه القصف المدفعي الذي صبّته عصابات الهاغاناة عليهم.

عُيّن رفيق قسيساً للطائفة الأنجليكانية في حيفا التي لم يبق من سكانها الذين بلغ عددهم أكثر من سبعين ألفاً سوى 3500 نسمة فقط. ومنذ اليوم الأوللسقوط مدن وقرى فلسطين فُرض على السكان الفلسطينيين الحكم العسكري الإسرائيلي، مما حوّل حياة الناس إلى جحيم. فزيادة على مهامه الدينية راعياً للطائفة، انشغل رفيق في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين الذين نجحوا في البقاء بوطنهم وشارك من موقعه في المعارك التي خاضوها بقيادة الشيوعيين الذين أصبحوا القوى السياسية الوحيدة المنظمة التي بقيت بعد سقوط فلسطين. وعُيّن أيضاً مديراً لمدرسة مار يوحنا التابعة للكنيسة الأسقفية في المدينة، فلعبت المدرسة دوراً بارزاً في تخريج أجيال من أبناء حيفا والقرى الفلسطينية المجاورة وتنشئتهم تنشئة وطنية صالحة.

في عام 1950 تزوج رفيق من الأديبة نجوى قعوار من الناصرة التي كرست كتاباتها لفلسطين ولعبت دوراً رائداً في إحياء الحياة الثقافية والفكرية الفلسطينية بعد النكبة.

في عام 1965 انتقل رفيق وعائلته ليعمل قسيساً للطائفة الأنجليكانية في القدس الشرقية التي سيطرت عليها القوات الأردنية في حرب 1948 وبقيت تحت الحكم الأردني، فلحق بهم الاحتلال الإسرائيلي في حرب حزيران/يونيو عام 1967. فنشط رفيق وزوجته نجوى في بث روح الصمود ومقاومة الاحتلال في نفوس الفلسطينيين الذين وقعوا تحت سطوة الجيش الإسرائيلي. وأصبح منزل رفيق ونجوى في حي بيت حنينا شمال القدس ملتقى للمثقفين الفلسطينيين الذين كانوا يستمعون بشغف لنصائح مضيفيهم ذوي الخبرة السابقة منذ أيام حيفا حول كيفية التعامل مع المحتلين.

في 1969 عُيّن رفيق قسيساً للطائفة الأنجليكانية في رام الله فانتقل مع عائلته للعيش فيها. فلم يتوقف نشاطهما فيها، حيث انتقل الملتقى الأدبي إلى منزلهما في رام الله واتسع إطاره بانضمام شخصيات بارزة في الحياة الاجتماعية والسياسة في المدينة.

لم يمض وقت طويل على أقامة رفيق في رام الله حتى تم نقله إلى الأردن، وذلك بعد فترة وجيزة من مذابح أيلول/سبتمبر 1970 فعمل قسيساً للطائفة الأنجليكانية في عمان. كانت الظروف التي مرّ بها الأردن بعد مذابح أيلول وإخراج تنظيمات المقاومة الفلسطينية المسلحة منها في غاية الصعوبة. لكن إقامة رفيق فيها لم تكن طويلة وتم نقله إلى لبنان قسيساً للطائفة الأنجليكانية في بيروت.

وصل رفيقوعائلته إلى بيروت وسط الحرب الأهلية في لبنان ليصبح شاهد عيان على فصل دموي آخر من فصول النكبة الفلسطينية التي لم تتوقف منذ عام 1948. وازدادت الحرب في لبنان فظاعة جراء الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان عام 1982 والمذابح التي ارتكبت فيه وفي شكل خاص في مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين.

أدت ويلات الحروب في لبنان إلى هجرة عشرات آلاف اللبنانيين واللاجئين الفلسطينيين، ومن ضمنهم عدد من أبناء الطائفة الأنجليكانية الذين توزعوا على الدول الغربية. ففي عام 1982 انتقل رفيق إلى بريطانيا قسيساً للطائفة الأنجليكانية العربية الموجودة في لندن وضمت لاجئين من فلسطين ولبنان وسورية والأردن والعراق.

استغل رفيق فترة وجوده في لندن وجدد نشاطه الأكاديمي بعد أكثر من ثلاثين عاماً على تخرجه من الجامعة. وأجرى بحثاً واسعاً في تاريخ الكنيسة الأسقفية الأنجليكانية في الشرق ومطرانيتها في القدس في شكل خاص، حيث ألف واحداً من أهم الكتب التي تتعلق بالتاريخ الحديث لفلسطين بعنوان "تاريخ الكنيسة الأسقفية في مطرانية القدس 1841 – 1991" وأشرف على نشره فرع الكنيسة في عمان عام 1995.

عمل القسيس رفيق بجد واجتهاد على تأليف الكتاب وأجرى بحثاً معمقاً في وثائق الكنيسة الأنجليكانية في بريطانيا التي كانت هي المبادرة لتأسيس فرع لها في فلسطين عام 1841 وتحتفظ في أرشيفاتها في لندن وبيرمنغهام على ملفات تتعلق بتأسيس هذا الفرع. وكشف رفيق لأول مرة كيف أن الهدف من تأسيس هذه الكنيسة في فلسطين كان تهجير اليهود من بريطانيا وأوروبا إلى فلسطين وذلك عن طريق تنصيرهم. غير أن الخطة لم تنجح ولم يتجاوب اليهود في أوروبا معها. فكانت النتيجة أن تحوّل المبشرون الذين أوفدوا إلى فلسطين للعمل بين الفلسطينيين، فمثلهم مثل مبشري الكنيسة الكاثوليكية استغلوا النزاع القائم منذ القرن السادس عشر بين الأرثوذكس العرب ورجال الدين اليونانيين المفروضن عليهم عنوة من جانب السلطات العثمانية، فنجحوا في اقناع أعداد منهم بالانتماء إلى الكنيسة الأنجليكانية ومن ضمنها عائلة فرح التي انتمى رفيق إليها، وتدريجاً نشأت الكنيسة الأسقفية في القدس وتأسست لها فروع في عدد من المدن والبلدات الفلسطينية.ورغم ما يوحيه عنوان الكتاب إلا أنه في الواقع يروي أحداث ووقائع فترة مهمة من تاريخ فلسطين، وسيظل كنزاً تستقي منه الأجيال المقبلة المعلومات الصحيحة عن حقيقة ما حصل لآبائهم وأجدادهم خلال القرنين الماضيين، وهي فترة من أخطر فترات تاريخ الشعب الفلسطيني.

بعد صدور الكتاب، قرر رفيق التقاعد، فانتقل مع عائلته إلى تورنتو بكندا. وتفرّغ للكتابة والتأليف، حيث أصدر ترجمة مختصرة من العربية إلى الإنجليزية لكتابه عن تاريخ الكنيسة الأسقفية. وبدأ بكتابة الأطروحات الفلسفية التي ناقش فيها بأسلوب علمي المعتقدات الدينية المسيحية والفكر الديني في الغرب، على نحو كشف عن خلفية راديكالية غير معهودة عند رجال الدين المسيحيين. بل كشفت عن ثائر فلسطيني قضى حياته التي ناهزت قرناً من الزمن، منهمكاً في معارك الحياة اليومية الصعبة للفلسطينيين أينما حلوا أو ارتحلوا، لكنه ظل وفياً لأفكاره الثورية.

وكانت نجوى قد وقفت إلى جانب زوجها رفيق ودعمته خلال تقلبات الحياة الصعبة وأنجبت منه ابنين أمين ونبيل وابنتين رندة وكرمة.

أخبار ذات صلة