مئات، آلاف من البشر يتزاحمون تصطدم أجسادهم بأجسادهم فلا فراغ، فالكون لا يعرف الفراغ، كالحو الوجوه.. عابسو الملامح.. لم يعودوا كما كانوا كأنهم سخطوا كقرود النار، فشارع عمر المختار لم يعد يحتملهم، يترنح من هول الكارثة الوطنية والمجتمعية، يتصاعد الرفض والتمرد الشعبي على الأوضاع المأساوية التي شدت بتلابيبهم، والسخط على أولئك الذين حولوا الوطن إلى سلعة… نسوة تلفعن بالسواد، ينزفن بلا دماء، ويبكين بلا دموع، يعبرن عن نقمتهن وسلبهن حتى لحقوق أزواجهن في زمن الردة الوطنية، وبيع التراث العربي المتخم بالنخوة والشرف، فالتجارة الرائجة في سوق عمر المختار بضاعة التهريب، فهل يعثرن على ضالتهن لإرضاء أطفالهن الذين لا يعرفون معنى للعيد سوى الكسوة الجديدة، وألعاب الفرقعة في زمن سطوة المليشيات على الوطن…. شباب بعمر الورود بعضهم بلحى غير مهذبة وبشوارب لا تنم عن رجولة بمقدار ما تعبر عن قرف من غياب حتى شفرة الحلاقة، والكسل من عمل الواجب تجاهها، عيونهم زائغة وغائرة من سوء التغذية، والقلق على المستقبل، وأصابعهم محترقة بلون الحناء اختارت السبابة والوسطى فقط،، فسجائر التهريب قل سعرها بعد أن قامت بتأدية الواجب المالي لأصحاب فتاوى السجائر حرام، الصمت يهيمن على الجميع، وصوت الدلال في منتصف شارع عمر المختار (هذا الشيخ الجليل الذي قاد الثوار في ليبيا وأعدم برصاص المستعمرين الايطاليين)… يزعق الدلال بأعلى صوته دون خوف، وكأنه مدعوم من أولى الأمر والسطوة، هذه البضاعة هي الأرخص فهي من نفق أبو هاجم...!!!! وآخر من نفق أبو المقلاع لا ينبس ببنت شفة، وبضاعته المهربة لا أحد يقترب منها بسبب سعرها الغالي مع أنها نفس البضاعة، وآخرون يتزاحمون لمشاهدة مخلفات التهريب فجيوبهم خالية سوى من بعض وريقات من المحارم الورقية المتجعدة، علب الشوكولاطة من كل نوع وصنف صناعة مصرية وأخرى غير معروف خالقها أو حتى انتهاء صلاحيتها، أشكال مختلفة الأوزان والأحجام، وعلب الشيبسى، ومصابيح النور، والكشافات الكهربائية تتكدس بجوارها أحجار البطارية، وعلب الشمع الخربان، وبعض الملابس، والمكسرات المختلفة، وأنابيب الغاز المهربة المملوءة بالغاز حجم 18 كيلو يجرى اغتصاب محتوياتها لتتحول إلى 12 كيلو، ويشتريها البعض وهو ليس بحاجة إليها سوى حاجته للغاز الذي انقطع منذ أكثر من شهر، على الرغم من سرعة نفادها قبل وقتها المحدد، وأشياء أخرى عديدة، وبضائع تعج بها شارع عمر الأنفاق، وساحة ميدان فلسطين كلها سلع لا تمت بصلة للإرادة والصمود في وجه الحصار الاسرائيلى الظالم، وهى كما يقول التجار بضائع للحرق، فالمواد الأساسية والضرورية للحياة مثل الأرز، والسكر وحتى الطحين، ومواد البناء والمنظفات المختلفة مفقودة من السوق، كل شيء مباح مروره عبر هذه الأنفاق حتى حبوب الهلوسة، وحبوب الترمان Tramal والفياجرا الجنسية لتعيد الشيخ إلى صباه، وكأننا بحاجة لهلوسة شبابنا وإفقادهم عقولهم وتوازنهم، وتخديرهم وحرفهم عن المعركة الحقيقية ضد الاحتلال …. وأما تجار غزة فقد تحول مسار أموالهم نحو الأنفاق ليقعوا فريسة الابتزاز، وهجرة الأموال، وتبيضها، وعلى الرغم من ذلك فالأسعار قد تضاعفت مثنى وثلاث ورباع، لا يجرؤ المواطن العادي العاطل عن العمل منذ أكثر من سبع سنوات على الاقتراب منها رغم حاجته إليها. وحسب تصريحات مستشارو الأنفاق فان عدد الأنفاق على الحدود المصرية الفلسطينية قد وصل حد التخمة ليقارب 1200 نفقا وأكثر على طول 12- 13 كيلومترا أي بمعدل نفقا لكل اثنا عشر مترا، ومن كثرتها فإنها أحيانا تتقاطع،وتقع المعركة بين أصحابها ومستأجريها، وبلدية رفح كما يصرحون تمنح رخصا لكل من يريد أن يحفر نفقا بمبلغ 10000 شاقل ما يعادل 2500 دولارا، وتمنحه رخصة للعمل على الحدود..!!! التضليل الإعلامي جار على قدم وساق، فالأنفاق في نظر المليشيات تكسر الحصار على غزة، ويزعمون أنهم نجحوا في كسره برا، ويجرى محاولات كسره بحرا عبر سفن التضامن، فهل هي محاولة لإثبات وجودهم وسلطتهم، وأنهم قادرون على كسر الحصار، وكسب الرأي العام العربي والإسلامي عبر الخداع والاختباء وراء هذه الشعارات؟؟.. إن الهدف الحقيقي هو تثبيت حكمهم، والحصول على الشرعية من الحكومة المصرية والجامعة العربية، والاختباء وراء شعارات المقاومة وفك الحصار، وتخفى حقيقة جمع المال والجاه والاستمرار في السلطة الموهومة، وإعطاء رسائل للممولين الداعمين في إيران وقطر بقدرتهم على اللعب في الساحة الفلسطينية بما يخدم الملالي، ويعطى الدور البائس لعراب السياسة الأمريكية والصهيونية في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي. لقد تحولت الحدود المصرية الفلسطينية إلى وكر لرجال التهريب من كل نوع وصنف برعاية المليشيات، وتحت إشراف شركات احتكارية ترأسها مجموعة من مصاصي دماء الشعب، تسلب إرادته، وتمارس كل أساليب القهر لإخضاعه لإرادتها،ومشروعها، لقد شكلت هذه الأنفاق كارثة جديدة، وحولت جزءا من المواطنين لعمال السخرة فيها يحفرون طولا وعرضا، رأسيا وأفقيا، ولا يهم من يسقط منهم، فالغاية تبرر الوسيلة كما يراها ميكيافيلي، تتصارع الأنفاق ويسقط من هول العمل من يسقط، وبقوة الفتوى والوحي يتحول هؤلاء إلى شهداء الأنفاق . ويتزايد حديث الشارع الرفحي حول الأنفاق لقربهم منها، فبعضها ملكية عامة مؤممة تحرسها المليشيات المسلحة وهى أنفاق ذات خمسة نجوم تدر ملايين الدولارات على مدار الساعة، وأخرى ملكية لتجار محسوبين عليها وذات علاقة حميمية بها، وأخرى لبعض التجار الذين لا هم لهم سوى الحصول على ألأرباح ولكن بعد أن تدفع ما يقرره الأمير؟ والحراسة مشددة في الذهاب والإياب، في الدخول والخروج، ولم يعد احد يرصد تحركات العدو الاسرائيلي، وفقدت وظيفة وأهمية المرابطين والمقاومين فالجميع لاهي في جمع الأموال والدولارات وشراء العقارات والأراضي فيوم الحشر قادم، ودوام الحال من المحال وعلى كل واحد أن يرتب وضعه قبل عملية التغيير، ولهذا كانت التهدئة حاجة وضرورة لتجار الأنفاق لاستمرار تدفق الأموال حتى وان أعادت إسرائيل فتح المعابر الخمسة فان الصواريخ جاهزة للانطلاق من جديد لإغلاقها من جديد، لتبقى الأنفاق تعمل على مدار الأربع والعشرين ساعة . وفى زحمة هذه التوجهات والسياسات المحمومة لزيادة عدد الأنفاق،يتساءل الموظفون العموميون في السلطة الوطنية الفلسطينية عن مغزى تأخير رواتبهم تحت حجة غياب السيولة النقدية في البنوك المحلية، والإصرار الإسرائيلي على عدم حلها أم يجرى التعامل مع مقولة البعض، أو تنفيذا لتصريحات بعض المسئولين المتنفذين في السلطة الوطنية الفلسطينية باعتبار غزة كيانا متمردا !!!! هل تصدقون أننا محاصرون؟؟ هل تصدقون أن الإسرائيليين لا يعرفون ولا يراقبون ما يجرى على الأرض وعمل هذه الأنفاق، وحتى ماذا يجرى التهريب منها، وخصوصا أن بعض هذه الأنفاق لا يبعد عن أبراج المراقبة الإسرائيلية عشرين مترا!!! لقد تقاسم الإسرائيليون والمليشيات المسلحة حصارهم لغزة كل على طريقته، فالإسرائيليون كانوا يحلمون بمن يعفيهم من التزاماتهم السياسية والقانونية والإنسانية على غزة، ويتخلصوا من عبء المليون والنصف مليون نسمة ليتحولوا إلى رهينة للمليشيات، ويفصلوا غزة عن الضفة سياسيا وجغرافيا وبهذا يضربون المشروع الوطني القائم على وحدة الشعب والأرض والقضية، وإجهاض مشروع إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وعاصمتها القدس حسب قرارات الشرعية الدولية، وجاءت المليشيات لتحقق هذا الهدف ولتضع نفسها في خدمة المصالح الإقليمية ولتكون أول من يضحى بالوطن من أجل الحكم والسلطة والجاه ولو على أنقاض التاريخ والمشروع الوطني الفلسطيني، والتنكر للتضحيات الجسيمة، فمن إذا يحاصر غزة ؟؟ وهل هذه الخطوة الاضطرارية هي المقدمة لإلحاق الضفة الغربية بالأردن الذي يرفض إعادة النظر في فك الارتباط، وخصوصا بعد أن فشلت إسرائيل في إجبار منظمة التحرير الفلسطينية التنازل عن الثوابت الوطنية الفلسطينية بالرغم من المفاوضات العقيمة طيلة السنوات الماضية . ويبقى السؤال المشروع للمواطن الفلسطيني، ما دور الأشقاء المصريين فيما يجرى على الحدود المصرية الفلسطينية؟؟ وهل هم غافلون عن لعبة السياسة الإقليمية والمؤامرة الإسرائيلية التي يجرى تنفيذها بأيد فلسطينية، وحجم الضرر الفادح الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، وكذلك المخاطر التي تهدد الشعب المصري وأمنه القومي والحيوي ؟؟ أم أن هناك ضغوطا إقليمية ودولية تمارس على الحكومة المصرية للتغاضي عن ما يجرى على حدودها ؟؟؟ !!! ولهذا كله لا بد من تضافر كل الجهود الفلسطينية والعربية وفى مقدمتها مصر الشقيقة، للوقوف بحزم ضد سياسة الترويج للأنفاق باعتبارها تشكل خطرا ليس على المشروع الوطني فقط بل، وعلى الوجود الفلسطيني على أرضه، وهى تكرس الانقسام وتعزز عملية الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ولإفشال ما كانت تهدف إليه سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وخطة شارون الانسحاب الأحادي الجانب من غزة .
(غزة- فلسطين)
talat_alsafadi@hotmail.com