يشهد مجتمعنا العربي الفلسطيني هذه الايام الظاهرة اعلاه التي تترك اثارا سلبية على حياة الناس اليومية وتضر بنسيج العلاقات بينهم افرادا وجماعات واقارب وأصدقاء، وتجعل منهم اعداء لبعضهم البعض وتسيطر المصالح النفعية عليهم بدلا من المحبة التي كانت سائدة بيننا "ايام زمان"، حيث كان الاخ يحب اخاه والجار يجب جاره لا نفور بينهم ولا بغضاء، لا بعدا ولا كراهية. كانوا يتصفون بثقافة الايثار، يؤثرون ويفضلون غيرهم على انفسهم اذ لا فرق بين انسان وانسان الا بمدى المحبة وبالتميز بالسلوك الحسن والكلمة الطيبة والمساعدة المتبادلة وابداء التسامح كلًّا للآخر، حينها كانت "الدنيا بخير".
هذا من ناحية، ومن الناحية الاخرى كان الجوهر يغلب على المظهر ويسيطر على نفوس الناس، فكانوا لا يجرون وراء المظاهر البراقة الخادعة والكذابة، ولا يشغلهم ليل نهار التشبه بـ"فلان" او "علّان" ويسيطر على عقولهم الجري وراء هذه المظاهر والتشبه الممزوج بالغيرة والحسد الواحد تجاه الاخر، فإذا اشترى "الجار" سيارة "اشتري انا مثله لأنه مش احسن مني". واذا اشترت السيدة فستانا اشتري انا فستانا احسن واغلى منها. بل أكثر من ذلك فإن الاعتقاد السائد عند الكثيرين بأن الاشياء التي تعرض من قِبل محلات الملابس وغيرها بسعر مخفض sale)) تكون باعتقادهم اشياء قليلة القيمة وان البضاعة الغالية هي الاحسن بنظرهم. كل هذا على حساب الوضع الاقتصادي الحقيقي للفرد والعائلة والاوضاع الاقتصادية الصعبة عند جميع الناس.
وقد يصل التشبه بالغير الى اتباع وتقليد الواحد ما يفعله غيره. فإذا خرج أحدهم مع عائلته في رحلة استجمام الى خارج البلاد "فأنا افعل مثله" حتى لو كلّف ذلك اخذ قروض او بيع ارض. فترى الكثيرين ينسون المثل القائل "على قد فراشك مد رجليك" حينها يقعون تحت طائلة من الديون قد تضطرهم الى التوجه للسوق السوداء ورهن البيوت. وإذا حصل واعلنت شبكات المشتريات عن حملة تخفيضات يتسابقون فيما بينهم ليس بسبب الحاجة الى ما يشترونه بل لأنه يُعرض بأسعار مخفّضة، الامر الذي يجعلهم يقعون تحت ضائقةٍ وديونٍ من البنوك ومن السوق السوداء ولا يطيقون سدها فيما بعد وليس لديهم القدرة على ارجاعها، فيبيعون بعد ذلك الغالي والرخيص ويرهنون بيوتهم وسياراتهم وقد يصل الامر الى بيع بيوتهم، ويعلن بعض اصحاب المصالح افلاسهم وتتحول حياتهم الى جحيم. هذا ناهيك عن القروض التي يأخذها الناس من البنوك من اجل البناء ولا يقومون بسداد الاقساط المطلوبة ولا يفطنون الى ان بيوتهم مرهونة للبنك فيأخذ البنك البيت ويعلن عن بيعه ليستردّ ما له من دين على صاحبه.
يخطر ببالي بهذا الصدد قصة الاب وابنه اللذين ذهبا الى السوق للتجول وشراء ما يحتاجه البيت، وعندما رأى الولد شيئا معروضا للبيع مع تخفيض كبير قال لأبيه "هيا نشتريه يا ابي" حينها قال له الاب "لا" واصر على قوله. وفي السنة التي تلت كانا يتجولان في السوق فرأى الولد نفس الغرض وبسعر عادي (غير مخفض) فقرر الاب شراءه لأنه يحتاجه ولا يملكه في بيته او ان ما كان عنده قد بطل استعماله، حينها اشترى الاب هذا الغرض بنفس راضية ورغبة اكيدة. قال الولد لأبيه "لماذا لم تشتريه في السنة الماضية عندما كان معروضا بسعر أرخص بكثير"، أجاب الاب "لأننا لم نكن بحاجة له" ثم اردف مخاطبا ابنه وقائلا: "عليك يا بني ان تتعلم في حياتك درسا مما حدث وان لا تسارع في شراء شيء لست بحاجة اليه ولأنه فقط وفقط "رخيص". ان سلوكا كهذا يجعل منك انسانا سعيدا قانعا وآمنا من مصائب قد تحدث لك اذا ما ركضت دائما وراء المظهر لا الجوهر فتندم حينها على افعالك ولكن "لات ساعة مندم". عليك عدم الانجرار وراء ما يفعله غيرك وان تبتعد عن هذا الجنون الذي يصيب كثيرين ممن لا يفكرون كيف يصرفون اموالهم وحين يحتاجونها لاحقا لا يجدونها. تعلم يا بني ان القرش الابيض ينفع في اليوم الاسود عليك ان لا تنجر في مسالك المجتمع والنظام الاستهلاكي المسيطر على الناس والعلاقات المصلحية التي لا تفعل شيئا سوى اشباع الغرائز والجري وراء الشعارات الزائفة الرنانة".
وكما قال احدهم: "اذا انفصل الدال (المظهر) على المدلول (الجوهر) برزت ظواهر اجتماعية تحمل بذرة انهيارها في داخلها لأن الحياة قائمة على التوازن بين السطح الظاهري والعمق الباطني وكل خلل في هذا التوازن سيؤدي الى الانهيار ولا يمكن لفروع الشجرة ان تنطلق في السماء الا اذا كانت جذورها راسخة في اعماق الارض".
إضافة تعقيب