news-details

نودّع نموذجاً للنّبل وللموقف الإنساني والاممي الراقي والرائع الذي لا تأتأة فيه: داليا بيكر| محمد بركة

عرفتها في مطلع الثمانينات عندما كنت في جامعة تل ابيب، شريكةً قويةً وملتزمةً في نضالنا ضد العنصرية وضد الاحتلال وضد الصهيونية، سواء في إطار حركة "كامبوس" اليهودية العربية او في لجنة التضامن مع جامعة بير زيت، ولاحقا في اللجنة ضد الحرب في لبنان في العام 1982.

داليا كانت من أوائل المناضلين الذين تحدّوا قانون منع اللقاءات مع قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، وتعرّضت للتحقيقات وللملاحقة، وكانت داليا آخر من تبقى على قائمة الشاباك السوداء، حتى عندما ازيلت هذه القائمة بعد اوسلو، وظلت تتعرض للمساءلة والتأخير من عناصر المخابرات في المطار قبل المغادرة وبعد العودة، وكنت شاهدا على ذلك عندما سافرنا سوية في اطار وفدٍ لأحد المؤتمرات الدولية في القاهرة.

لاحقا التقينا في العديد من المحطات الكفاحية وبالأخص التي تتعلق بحقوق شعبنا الفلسطيني.

 في مطلع التسعينات اختارها رفيقنا القائد توفيق زياد لتعمل سكرتيرة لكتلة الجبهة البرلمانية في الكنيست الى جانب الرفيق والاخ الحبيب ناظم بدر مدير الكتلة.

عندما انتخبتُ للكنيست في العام 1999، كان ناظم وداليا بمثابة مرجعا في العمل البرلماني ليس بالنسبة لنا كنواب جدد، انما مرجعا موثوقا يعود اليه كل من في الكنيست.

في فترة عملي في الكنيست رأيت عن قرب مزايا داليا النادرة في التفاني والالتزام المبدئي والتنظيمي، والتمكن من دهاليز وخبايا العمل البرلماني وقدرتها على التأثير مع ناظم ومع درور نيسان، الناطق بلسان الكتلة، حتى على جدول اعمال الكنيست.

الى جانب ذلك تحوّل طاقم العمل البرلماني الى اشبه ما يكون عائلة متكاتفة وملتزمة، ويدل على ذلك الحب المتبادل الذي لم ينقطع حتى رحيلها اول أمس، بينها وبين المستشارين البرلمانيين لجميع نواب الكتلة، وبالأخص الرفيقين الغاليين، برهوم جرايسي وساهر أبو دبي، اللذين عملا معي، ولم ينقطعا عنها ابدا.

كانت داليا تكنّ محبة خاصة للقائد الرمز ياسر عرفات، وكانت تصر على مرافقتي لزيارته في رام الله عندما كانت تسنح الفرصة، وكم كانت شديدة الاعتزاز والانفعال عندما أهداها أبو عمار ثوبا فلسطينيا تراثيا جميلا، وكم كانت معتزة بارتدائه.

داليا تزوجت لعدة سنوات، من الراحل امير ابرامسون وهو مواطن إسرائيلي أصيب إصابة بالغة في احدى العمليات الفدائية على شارع تل ابيب القدس، أمضى حياته بعدها على كرسي عجلات، لكنه أصبح ملتزما بالنضال من اجل السلام وضد الاحتلال، مع داليا.

في 20\5\2006 قام الاحتلال الإسرائيلي بجريمة قصف في غزة كان من ضمن من راح ضحيته، أربعة فلسطينيون من عائلة واحدة، واصيبت ابنة العائلة مارْيا حمدي آمن ابنة الأربع سنوات، بإصابة بالغة جدا جعلها غير قادرة على التحكم بكل جسمها الا الرأس، الامر الذي استوجب نقلها مع ابيها ومع اخيها الأصغر الى مستشفيات في القدس الغربية، لان حياتها كانت مرتبطة بأجهزة طبية غير موجودة في غزة.

منذ ذلك الوقت تحولت داليا الى عائلة مارْيا ووالدها وأخيها وكانت تحرص يوميا (ويوميا تعني يوميا) على احتياجاتهم وعلى علاجهم وعلى حقوقهم، وعلى ترتيب اقامتهم في القدس وبالأخصّ عندما أصرت إسرائيل على إعادتهم الى غزة، الامر الذي كان بمثابة حكما بالموت على ماريا.

بقيت داليا حتى رحيلها بمثابة عائلة ماريا المُحِبّة، وإذا كان النبل والشهامة والإنسانية بحاجة الى نموذج انساني بشري: داليا هي النموذج.

داليا، رفيقة ملتزمة واخت ودودة وصديقة قريبة ومناضلة جسورة، رحلت عنّا ولا اذكر خلافا معها ذا شأن، الا غضبي الدائم عليها بسبب عدم المحافظة على صحتها، وعدم التزامها بالإقلاع عن التدخين، حتى انها كانت تدخن "بالتهريب" عندما أكون قريبا.

اعترف ان لقاءاتنا في السنوات الأخيرة كانت اقلّ، نظرا للانغماس في مهماتنا وانشغالاتنا، ولكنني لم انقطع عنها ابدا، وبالأخص أن الرفيق أبو الورد (برهوم جرايسي) وهو الأقرب اليّ، كان يحرص يوميا على بدء نهاره بالحديث معها، وتبادل الرأي معها والاطمئنان عليها، وهذا شكل رفيع من أشكال النبل والوفاء.

داليا كانت جزءً من عائلتي الصغيرة وكانت تتابع اخبار الأبناء، وتفرح لتقدمهم في الدراسة والحياة، وكأنها تشعر انها امٌّ ثانية، وكانت علاقتها قريبة وحميمية جدا مع ام السعيد، رفيقة حياتي.

داليا ترحل عنا في أجواء قاتمة واستشراء غير مسبوق في العنصرية وجرائم الحرب ضد شعبنا الفلسطيني، وكم كان صوتها صافيا وضروريا في هذا الوقت بالذات.

أبكيكِ.... وافتقدكِ يا أختاه

(في الصورة المرفقة :داليا تتوسطنا انا والرفيق النائب المناضل عوفر  كسيف)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب