لم تقتصر الأحزاب السياسية ذات الطابع الديني على الإسلام فقط، بل وُجدت أيضًا في السياقات الدينية اليهودية والمسيحية. فالحركة الصهيونية، على سبيل المثال، استندت في جانب من خطابها إلى "الوعد الإلهي"، وفي إسرائيل نشأت عدة أحزاب دينية كـ"المفدال" (الحزب الديني القومي)، "أغودات يسرائيل"، "شاس"، "البيت اليهودي" وغيرها. وفي أوروبا كذلك، ظهرت أحزاب دينية كمثل "الحزب الديمقراطي المسيحي" في ألمانيا، فضلًا عن أحزاب دينية في إيطاليا، فرنسا، وهولندا. غير أن نشأة الأحزاب السياسية في السياق الإسلامي تختلف، إذ ارتبط الإسلام منذ بداياته الأولى في الجزيرة العربية بتكوين كيان سياسي. فقد بدأت الدعوة في مكة، ولكنها لم تتخذ طابعًا سياسيًا إلا بعد الهجرة إلى المدينة المنورة (يثرب)، حيث أسس النبي محمد نظامًا سياسيًا جديدًا تجاوز النظام القبلي السائد، متجسدًا في ما عُرف بـ"وثيقة المدينة" التي كانت بمثابة عقد اجتماعي بين المسلمين واليهود وبعض القبائل الأخرى. في زمن النبي محمد، لم يكن هناك خلاف على قيادته للدولة الناشئة، سواء من المهاجرين أو من الأنصار. لكن بعد وفاته سنة 11هـ/632م، واجه المسلمون سؤالًا جديدًا: من يقود الدولة بعد النبي؟ لم يُوصِ النبي بخليفة بشكل صريح، فترك الأمر لاجتهاد المسلمين. ومن هنا بدأ أول صراع سياسي في الإسلام، لا على الدين، بل على قيادة الدولة. ظهر هذا الخلاف بوضوح في "اجتماع السقيفة" (سقيفة بني ساعدة) حيث اجتمع الأنصار، وهم أهل المدينة، لاختيار سعد بن عبادة خليفة للنبي. وعندما علم أبو بكر وعمر بن الخطاب بذلك، توجها إلى السقيفة، ودار نقاش حاد بين الأنصار والمهاجرين حول أحقية الخلافة. كان لكل طرف منطقه الذي يستند إليه، وأظهرت الحادثة بُعدًا قبليًا واجتماعيًا عميقًا في ذلك الخلاف، رغم محاولة الإسلام الحد من هذه الانقسامات. من شواهد ذلك روايات تشير إلى استمرار الفوارق بين المهاجرين والأنصار في الحياة اليومية؛ مثل ما يُنسب إلى عمار بن أبي عامر أن الأنصار كانوا يُسلّمون تسليمتين في مسجدهم، بينما كان للمهاجرين مسجد وتسليمة واحدة. كما نُقل أن شجارًا بين مهاجري وأنصاري كاد أن يُفضي إلى اقتتال قبلي، فاستنكر النبي ذلك بقوله: "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟". في السقيفة، احتج أبو بكر بقوله إن المهاجرين أول الناس إسلامًا، وأنهم عشيرة النبي وأوسط العرب نسبًا، فيما قال عمر: "من ينازعنا سلطان محمد وميراثه؟" في إشارة واضحة إلى أن قريش - لكونها قبيلة النبي - أولى بالحكم. وانتهى الاجتماع ببيعة أبي بكر، لتبدأ بذلك الخلافة الراشدة. مع ذلك، لم يكن هذا القرار محل إجماع، فبعض كبار الصحابة لم يبايعوا أبا بكر، مثل العباس بن عبد المطلب، علي بن أبي طالب، الزبير بن العوام، وسلمان الفارسي. وهناك روايات تفيد بأن العباس قال لعلي: "ابسط يدك أبايعك"، لكن علي رفض. ويُنسب لعلي قوله في قصيدة: "فإن كنتُ بالشورى ملكتَ أمورَهم فكيف بهذا والمشيرون غُيّبُ؟ وإن كنتَ بالقربى حججت خصيمهم فغيرُك أولى بالنبي وأقربُ". تشير بعض المصادر إلى أن الأنصار أنفسهم مالوا إلى علي بعد تهميش سعد بن عبادة، إذ يُنسب إلى سعد قوله: "ما أردتها - أي الخلافة - إلا لعلي"، لكنه لم يبايع لا أبا بكر ولا عمر. الصراع الأول بين المهاجرين والأنصار انتهى بترجيح كفة المهاجرين، وتحديدًا قريش. ثم نشب خلاف آخر داخل قريش بين بيت بني هاشم (علي وأتباعه) وأغنياء المهاجرين. وتعمّق الخلاف بعد مقتل عثمان وبيعة علي، ما أدى إلى صراع دامٍ مع الأمويين في معركة صفين سنة 37هـ/657م، والتي كانت من أكثر المحطات المفصلية في التاريخ الإسلامي. ولادة الأحزاب السياسية / الفرق الإسلامية من معركة صفين وما تلاها من أحداث (التحكيم، رفع المصاحف، مقتل علي...) بدأت تتبلور ثلاث مواقف سياسية رئيسية شكّلت لاحقًا ما يُعرف بالفرق الإسلامية الكبرى: المرجئة (أهل السنة لاحقًا): لم تحصر الخلافة في بيت معين، بل أرجأت أمرها إلى الله. وافقت ضمنًا على شرعية الخلافة الأموية، رافضة مواقف الشيعة والخوارج، مما جعل الأمويين يسمونهم بـ"أهل الجماعة"، لاحقًا أُضيفت "والسنة"، ثم سقطت "الجماعة" تدريجيًا. ومن هنا نشأ مصطلح "أهل السنة"، كموقف سياسي أولًا، وليس كمذهب عقدي بحت. الخوارج: رفضوا التحكيم في صفين، واعتبروا أن "الحكم لله" وحده. وقالوا إن الخلافة لا تُورَّث ولا تُحصر في قريش، بل لكل مسلم تقي أن يكون خليفة. وكانوا يرفضون الظلم السياسي، ويُكفّرون مرتكب الكبائر، ويجيزون الخروج على الحاكم الجائر. تسميتهم بالخوارج جاءت لأنهم "خرجوا" على علي ومعاوية معًا. الشيعة: رأوا أن عليًا هو الأحق بالخلافة بعد النبي، مستندين إلى أحاديث كثيرة مثل حديث الغدير ("من كنت مولاه فعلي مولاه")، وحديث "أنا مدينة العلم وعلي بابها"، وحديث "أهل بيتي أمان لأهل الأرض". وبعد مقتل علي، اعتبروا أن الإمامة ينبغي أن تستمر في ذريته: الحسن، ثم الحسين، وهكذا. يرى كثير من الباحثين أن الانقسام السنّي-الشيعي لم يبدأ كخلاف ديني أو عقدي، بل كصراع سياسي، ثم تطوّر لاحقًا إلى تمايز مذهبي متكامل. تطوّر الفرق والمدارس الفكرية من هذه التيارات الثلاثة، نشأت لاحقًا عشرات الفرق والمذاهب، بعضها اندثر، وبعضها بقي حتى اليوم. 1. الكيسانية: فرقة شيعية قالت بإمامة محمد بن الحنفية (ابن علي من غير فاطمة) بعد مقتل الحسين، وكان لها دور في تمهيد الثورة العباسية لاحقًا. 2. مدارس فكرية كبرى: في ظل تطور علم الكلام والتواصل مع الحضارات الأخرى كالفارسية واليونانية، ظهرت مدارس فكرية كبيرة. اخترنا منها مثالين بارزين: المعتزلة فرقة عقلانية ظهرت في أواخر العصر الأموي وتبلورت في العصر العباسي. تنسب إلى واصل بن عطاء الذي "اعتزل" مجلس الحسن البصري حين اختلف معه حول حكم مرتكب الكبيرة. سمتهم الشائعة "المعتزلة"، بينما سمّاهم خصومهم "القدرية" أو "الخوارج الجدد". كانوا يؤمنون بخمسة أصول: التوحيد، العدل، المنزلة بين المنزلتين، الوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ورفضوا فكرة الجبر، معتبرين أن الإنسان حر ومسؤول عن أفعاله. وقد تبنوا العقل منهجًا في فهم النصوص، وقالوا إن العقل يُقدّم على ظاهر النص إذا تعارضا. أثرهم كان كبيرًا في فكر الدولة العباسية، خاصة في عهد المأمون والمعتصم والواثق، حيث اعتُمد "علم الكلام" رسميًا، وأُجبر الفقهاء على اعتناق بعض معتقداتهم (مثل القول بخلق القرآن). جمال الدين الأفغاني لاحقًا عبّر عن امتداد هذا التيار العقلاني بقوله: "إذا تعارض النص والعقل، يُفسَّر النص بما يتلائم مع العقل". المذهب الحنبلي وابن تيمية المذهب الحنبلي أسسه الإمام أحمد بن حنبل (164هـ - 241هـ)، وتميّز بالتمسك الشديد بالنص (القرآن والحديث)، ورفض التأويل العقلي والتوسع في الرأي. خالف علم الكلام والفلسفة، واعتبر أن الحق يُؤخذ مما جاء عن السلف، لا من الفلاسفة أو المتكلمين. ابن تيمية (661هـ - 728هـ) جاء بعد أحمد بخمسة قرون، واعتبره وريثًا روحيًا له. هاجم الأشاعرة والمعتزلة والفلاسفة، وكفّر من قال بخلق القرآن، وحرّم تهنئة النصارى بأعيادهم، وكفّر بعض فرق الشيعة. قال عن أحمد بن حنبل: "كلامه هو المعيار الذي يُفرق به بين السنة والبدعة". اتخذت حركات كثيرة في العصر الحديث فكر ابن تيمية أساسًا لها، ومنها: السلفية الوهابية، الإخوان المسلمون، القاعدة، داعش، طالبان، وغيرها. جميعها اعتمدت على مبدأ "نصرة الدين الحق" عبر "التكفير والقتال"، حسب فهمها للنصوص، وأوّلت ذلك ضمن ما تعتبره "سنة السلف". خلاصة الصراعات الكبرى التي بدأت بعد وفاة النبي محمد لم تكن في أصلها صراعات دينية، بل سياسية على السلطة. ثم تطوّرت إلى مذاهب كلامية، ثم إلى مدارس فقهية وعقائدية. الأحزاب الثلاثة الأولى - الشيعة، الخوارج، والمرجئة - تشكلت وفق مواقفهم من "الخلافة"، لا العقيدة. ومع مرور الوقت، أصبح كل فريق يبرر موقفه بنصوص دينية. أما المذاهب الفكرية الكبرى مثل المعتزلة والحنابلة، فشكّلت التيارين الأكثر تأثيرًا حتى اليوم: - التيار العقلي المتسامح (المعتزلة ومن تأثر بهم كالأفغاني وعبده). - والتيار النصي السلفي الصارم (الحنابلة، وابن تيمية، ومن جاء بعده). وتبقى العلاقة بين الدين والسياسة في الإسلام من أكثر العلاقات تعقيدًا، تتطلب فهمًا دقيقًا للسياقات التاريخية، والتمييز بين ما هو نص ديني، وما هو اجتهاد بشري قابل للنقاش. /مصادر 1 -سعد رستم: الفرق والمذاهب الإسلامية منذ البدايات - النشأ، التاريخ، العقيدة، التوزع الجغرافي 2 - الدكتور عبد الله بن المحسن التركي - المذهب الحنبلي 3 - الامام عبد الله احمد بن محمد بن حنبل - أصول السنة 4 - عواد بن عبد الله المعتق - المعتزلة واصولها الخمسة وموقف اهل السنة منها