أحسّ بتردّدات هذه الأزمة حتى في نقاشي مع طالباتي وطلّابي في مساقات الدراسات العليا في الجامعة. حتى هناك أشعر بذبذبات أزمةٍ تتعمّق باطّراد. وهي أزمة في النظر إلى اللغة والأدب، وإن كان بعضهم يراها قد امتدّت إلى كلّ مجال معرفيّ. هي أزمة لأنّ أسباب التفكير الإنتاجيّ قد تعطّلت. وأول أسبابه هو العقل. والعقل السويّ قد يكون استهلاكيًّا وقد يكون إنتاجيًّا. وبين حدّي الاستهلاك والإنتاج تمظهراتٌ عديدة للعقل، كأن يكون ناقلًا أو ناسخًا أو شارحًا أو مفسّرًا أو توصيفيًّا.. والعقل الإنتاجيّ قد يستعمل كلّ هذه التمظهرات ولا ينعكس. العقل الجامح والمشاكس والمناكف هو أصل التفكير المختلف. والاختلاف والخلاف أصل الإنتاج المعرفيّ. والإنتاج المعرفيّ شرطه الأول هو الاحتفال بآليّات توليد المعرفة، وليس الاحتفاء بالمعرفة نفسها. وكنت قد عاينت هذه الجزئيّة في كتابي الأخير "القبض على الدلالة: مقدّمة للنقد السيميائيّ في الخطاب العربيّ" (2022). أمّا هذه المقالة فهي تؤسّس لكتاب جديد أعاين فيه ثلاثة أشراط لأزمة العقل الإنتاجيّ، هي أنماط التفكير التقريبيّ والقياسيّ والقطعيّ في اللغة والأدب. ومن المرعب أن تصير هذه الأنماط التفكيريّة أنساقًا ثقافيّة معتمدة.
التفكير التقريبيّ
وهو يبدأ من القول بالترادف، هذا الذي يسمّيه سيبويه "اختلاف اللفظين والمعنى واحد". والمقصود به التطابق التامّ بين لفظتين في المعنى إلى درجة الصفر لا أقلّ من ذلك ولا أكثر. ولمّا كانت اللغة نشاطًا انتقائيًّا توافقيًّا فالأصل فيها هو الاختلاف والتباين. إذا اختلف اللفظان فلا يكون المعنى واحدًا. حين نجعل الأفعال أتى وأقبل وجاء وحضر وقدم وورد ووفد كلّها مترادفة بمعنى واحد تكون نظرتنا إلى اللغة العربيّة تقريبيّة من باب "الحسن أخو الحسين". وحين نجعل قوله تعالى "واسأل القرية" مطابقًا لقولهم "واسأل أهل القرية" تكون مقاربتنا للغة القرآن الكريم من باب "الزايد أخو الناقص"، والسماء لن تطبق على الأرض ولن تقوم القيامة إذا ما أضفنا إلى الكلام لفظة أو استبدلنا لفظًا بلفظ!
مردّ القول بالترادف إلى ثلاث خطايا كبرى: (أ) الخلط بين الإحالة إلى مسمّى "واحد" وبين معاني الأسماء المختلفة التي تُحيل إليه. (ب) الخلط بين المفردات الوصفيّة والإسميّة. أقصد ترقية التوصيف الجزئيّ إلى درجة التسمية المطلقة. (ت) والنظر إلى المعاني المتشابهة كما لو كانت متطابقة تمامًا... لو نظرنا إلى لفظتي السِّكّين والمُدية، اللتين جعلوهما مثالًا أعلى للترادف في الأدبيّات الكلاسيكيّة، لرأينا أنّهما تُحيلان إلى مسمّى هو هذه الآلة التي نستعملها للذبح والطعن والتقطيع.. وإذا كانت هذه أكبر وظائفها فجاز لنا أن نسمّيها أيضًا "المِذباح" أو "الطعّان" أو "القِطّيع" إضافة إلى تسميتها الرسميّة المعتمدة. وهذه الآلة أيضًا ليست شيئًا واحدًا، وليست على هيئة واحدة لا في الذهن ولا في الواقع. لكنْ ليست هذه هي المشكلة الآن. المشكلة في الإصرار على علاقة الترادف بين هذه الصفات التي تحيل إلى هذا المسمّى التقريبيّ. وكلّ واحدة منها تُحيل إلى شيء هو بعضٌ من أبعاض هذا المسمّى. وهكذا كان قولهم "تعدّدت الأسماء والمسمّى واحد"، وهو قولٌ من شقّين، مظلّلًا ومضلّلًا بشقّيه. قال ابن فارس في "مقاييس اللغة" والسكِّينُ لأنه يُسَكِّنُ حركةَ المذبوحِ به. والمُدْيَة شفرةٌ مسحوبة من المَدى. والذبيحةُ إذا ذُبحت بها كان ذلك مداها، أي غايتها ونهايتها. لا بدّ أن تختلف اللفظتان في المعاني، بالقوّة والفعل، لاختلاف الجذر والتصريف في كلّ منهما. تسكين حركة المذبوح شيءٌ وإيصاله إلى نهايته وغايته مباشرة شيءٌ آخر وإن تشابها في المحصّلة الأخيرة. في التسميتين نهاية افتراضيّة هي موت المذبوح. غير أنّ التعبير عن الموت مختلف. السكّين تؤكّد في صيغتها الصرفيّة على قوّة الآلة الفاعلة وقدرتها على الفعل، والمُدية تركّز على مصير المفعول. منحى السكّين فيزيائيّ مادّيّ محسوس ومنحى المُدية مجازيّ عامّ تجريديّ. السكّين تنشغل بالطريق إلى موت محتمل والمُدية تنقل السامع مباشرة إلى الموت نفسه بصرف النظر عمّا يحدث للمذبوح عند ذبحه. وجهة السكّين إجرائيّة ووجهة المُدية غائيّة. السكّين تشدّك إلى صورة المذبوح وهو يُسكَّن والمُدية تعفيك من رؤية المذبوح وهو يَسكُن ويموت. المُدية أرحم من السكّين. إذا كانت السكّين لغة أهل الحجاز والمُدية هي لغة أهل اليمن، هل يجوز لي بعد هذا أن أشرد في اجتهاداتي وأقول إنّ أهل اليمن يميلون إلى الشاعريّة الروحانيّة وأهل الحجاز يميلون إلى العمليّ الميدانيّ الإجرائيّ؟ وهم لذلك أرحم من أهل الحجاز؟! إنّ التغافل عن هذه التفاصيل في الألفاظ يعيق الوصول إلى المعاني الدقيقة المتباينة أو يعطّلها. هذه التفاصيل الصغيرة تُحدث أثرًا بطيئًا في المعاني الدقيقة كأثر فراشة. والشيطان نفسه قد يندسّ بين التفاصيل. وتظلّ التفاصيل الدقيقة تعظم وتطغى حتى تتعطّل وحدانيّة المعنى وتتكدّر وتفقد صفاءها ونقاءها.. إذا اختلف اللفظان فلن يكون المعنى واحدًا، لن يكون! والقول بالترادف سكونٌ وركونٌ إلى الدعة وفرارٌ من البحث والاجتهاد.
التفكير القياسيّ
وهو يعني وجوب القياس على أصل، ومن لا يفعل فقد ضلّ وكفر. بهذا المفهوم يصير التجاوز والتجريب ضلالة وكفرًا. ما زلنا نذكر ما قاله محمد مهدي الجواهري ساخرًا من كلّ محاولات التجريب في الشعر العربيّ بجملته الشهيرة: "ليس بهذا ينهدّ عمود الشعر العربيّ!" الأصل في التجريب هو التجاوز. والتجاوز لا يعني الشطب والمحو بل يعني التراكم والتجاور. لا أحد يقدر على محو شعر المتنبّي مثلا من الذاكرة الممتدّة إلى يوم الدين. ليس هذا هو السؤال. السؤال الآن مقلوب: هل نسمح لتجربة المتنبّي، يا أبا الفرات، أن تعطّل تجارب المتأخّرين وتُهلكها؟! هل نسمح لتجربة نجيب محفوظ في الرواية، وتجربة إدريس في القصّة، وتجربة محمود درويش في الشعر أن تهدّد التجارب اللاحقة أو تعرّضها للخطر؟! الحداثات تتراكم وتتجاور. وعند التراكم قد تأنس الذائقة بكلّ جديد وتستسيغه وإلا ستظلّ ذائقة ثابتة متوقّفة عند تجربة المتنبّي. لا مجال لتجديدٍ بغير تجاوز يعقبه تراكمٌ وتجاور. كلّ تجريب تحدٍّ لمعتمد هو أصل. كلّ تجريب في الحقيقة هو تحرّش بأيقونات معتمدة. وهو تحرّش حميد، شرعيّ وضروريّ لأيّ إبداع وخلق. حين يصرّ بعض السلفيّين في كلّ أحكامهم على المفاضلة والقياس على مرجعيّة أبويّة سلطويّة تبلى الجرأة وتتآكل الرغبة في التجريب، تبلى وتتآكل!
التفكير القطعيّ
هو الحكم القاطع والجازم في التقييم. الحكم القطعيّ اليقينيّ يعطّل التواصل والحوار ويعزّز مفهوم السلطة النازلة. أعني أنّ الأحكام القطعيّة الجازمة تقطع السبل أمام أيّ حواريّة محتملة بين ضدّين أو حتى مختلفين. النبر الجازم في الحكم القطعيّ فحوليّ في طبعه ومنحاه، لا يُجيز التأتأة ولا الشكّ ولا التفاكر، ولا يجيز السؤال ولا المساءلة. الحكم القطعيّ، المأنوس في أنساقنا الثقافيّة، يتّكئ على ثنائيّات كلاسيكيّة إفحاميةّ مثل: الصواب والخطأ، الحلال والحرام، المسموح والممنوع، القريب والغريب، المعقول والمخبول... وهذا التقاطب الثنائيّ يعتمد اللونين الأسود والأبيض ويلغي أيّ حالة بينيّة أخرى يُتيحها منطق الترجيح والتخمين والظنّ والمقارنة. الحكم القطعيّ سلطويّ قَبَليّ هرميّ في حركته. وهذه قد تكون سلطة الكاتب، مثلما تكون سلطة القارئ بنفس القدر بالضبط. قد تكون سلطة كاتب يحرص على تجهيز نصّه بمعنى منجز، أو كاتب يؤثّث نصّه بكلّ المفاتيح الممكنة، المتاحة وغير المتاحة، لكشف المعنى وفضحه. وقد تكون سلطة كاتب سلّطه قارئٌ مقموع وجعله المرجعيّة الوحيدة والمطلقة للقياس. وقد تكون سلطة قارئ قمعيّ صادر النصّ وقطعه عن كاتبه كما لو كان النصّ يتيمًا من غير أب ولا أمّ ولا سياق!
الأصل في النقد الأدبيّ تخمينٌ وترجيحٌ يتبعه اقتراحٌ وليس القطع والفصل والجزم. الأصل في النقد الأدبيّ هو الاجتهاد وليس النقل عن كاتبٍ قد كتب فقصد. وكأنّ اللغة نفسها كافية وحدها لاحتواء القصد!! أتوخّى أحيانًا أقصى درجات الحيطة والحذر في محاضراتي الجامعيّة وأعوذ بالصياغات الظنّيّة ليأتي بعضهم ويحوّلها إلى صياغات قطعيّة ينسبها إليّ بالقوّة. حين يخشى الناقد المخاطرة والمغامرة يلجأ إلى نقد توصيفيّ محافظ تحميه المحايثة وتقيه شرّ المخاطرة والمقامرة في التجريب. النقد التوصيفيّ المحافظ، رغم الحاجة إليه، قد يصير جُنّة تحمي الناقد من احتمالات المساءلة. الكاتب الأبويّ الباطرياركيّ قد يُفضي إلى قارئ باطرياركي فحوليّ مثله بالضبط. والنصّ بينهما مسلوب الإرادة والمشيئة، فإمّا أن يكون مردودًا في نسبه إلى أب كاتب يدّعي ملكيّته الحصريّة أو إلى أب قارئ يصادر حتى حقّ الكاتب نظريًّا في القصد.. وبين هذا وذاك يظلّ الخطأ حقًّا شرعيًّا لكلّ منهما.
* * *
هذه أشراطٌ ثلاثة لأزمة خطيرة مرعبة. هي أزمةٌ لأنها تعبّر عن ذهنيّة تركن إلى الدعة وتعاف الاجتهاد وتحتمي بالمألوف المأنوس. ذهنيّة محافظة إلى حدّ الفزع من كلّ مختلف أو جديد قد يفرزه تجريب. ذهنيّة التمسّك بتفكير نظاميّ مؤسّساتيّ هرميّ نازل في ثبات. هي أزمة لأنها تكرّس ذهنيّة السلفيّة الخانقة والفحولة المرعبة. حين سُئل أحد "النقّاد" المعروفين عن الحركة الأدبيّة النسويّة قال "لا أعرف الحركة النسويّة إلا في فراشي"! خطيرٌ ومرعب! مرعبٌ وخطير!
إضافة تعقيب