خاص بملحق الاتحاد
في فجر يُشقشق مع صوت عصافير تقف على حافة نافذة المطبخ، نافذة تلقي تحية الصباح لنوافذ تقابلها كل يوم في إشراقة يوم جديد. رائحة الصباح، رغم اختلاطها بروائح الخوف، تغزو قلب أم أحمد.
تقف أم أحمد بمحاذاة نافذة مطبخها، تغسل صحونها وأكوابها وملاعقها بدقة متناهية، تهرب من صوت الطائرات والغارات والقنابل، تستمع إلى صوت الماء يتدفق من صنبور المياه، تتأمل رغوة الصابون على زجاج أوانيها، وقطرات ماءٍ تلمع مع أشعة شمس لتخترق عينيها الحانيتين، تنشغل بصور في عقلها وقلبها، صورة لأطفال أكلتهم نيران الشظايا، تسيل دمعة على خديْ أم أحمد لتختلط بغقيق المياه على أوانيها.
تنظر إلى السماء، ترى دخانًا بعيدًا، مبان تحترق. فجأة يُباغتها صوت سيارة إسعاف مسرعة. ترى السيارة تحارب أسفلت الطريق، والطواقم الطبية داخلها، راديوهات في الشارع تغني للمقاومة. تتحدث مع نفسها:
"ترى مين اللي مات، أولاد الكلب قاعدين يتصيدوا ولادنا متل العصافير."
يرن التليفون، أم أحمد تركض لاهثة، أختها على الخط:
"ألو".
"ألو، أنتو بخير؟"
"إحنا بخير، طمنيني عنكم."
"القصف حوالينا يا أم احمد، وأنا خايفة عالولاد."
"وايش بتستني جيبي الولاد وتعالوا عنا، دارنا أمان."
"طيب، ألبّس الولاد وأشوف سيارة تجيبنا عندكم."
"ديروا بالكم احنا منستناكو. ربنا يحميكو."
تنظر إلى ابنها أحمد وابنتيها جنين ويافا، ينامون بعمق، مرهقون، بعد سهر أيام طويلة من الحرب. النوافذ لم تغلق طوال الليل، خوفًا من الانفجارات وتكسُّر الزجاج. يفرشون فراشهم في وسط البيت، يستغنون عن غرفهم وأسرَّتهم ليبتعدوا عن الخطر، ولكن الخطر محدق، مهما حاولوا الابتعاد.
تشغّل بطاريات اليو بي اس التي تعطي قليلاً من كهرباء البيت، في ظل انقطاع الكهرباء المستمر. تشاهد التلفاز، أخبار مفجعة، لا تبحث إلا عن نشرات الاخبار، تقلب قناةً تلو قناة، تستمع لمحللين وصحفيين يخمّنون موعد انتهاء الحرب، تتمتم مع نفسها:
"وإيش فايدة الحكي لما الناس بتموت؟ قرفنا حكي!"
يستيقظ أحمد مسرعًا إلى كمبيوتره وهاتفه الخليوي، يقرأ رسائله قبل أن يغسل عينيه من نعاس لم ينته بعد، يتحدث مع نفسه:
"أوف هدول بجتاحوا، معقول يرجعوا يحتلّونا، ضربوا عمارة فلان، ياه اسشتهد ابن علان، يلعن أبوكو يا ولادين الكلب، حسبي الله فيكو ، يمّا.."
"إيش في؟"
"سمعتي الأخبار؟"
"سمعت. ما تقوليش ولا حاجة، وجهك والحمّام، ريحتك نتّنت ولك اترك هالجّوال، وروح اتحمّم قبل ما تقطع المي، في شوية مي سخنة."
تصل أختها مع طفليها الصغيرين. عيونهم حائرة، أصواتهم متقطعة، أنفاسهم متهدّجة، أرعبتهم صواريخ الموت، يدخلون البيت.
"آه يا أم أحمد.. مناظر بترعب، جثث مرمية، دم بالشوارع، بخافوش الله هدول، ربنا ياخدهم أخذ عزيز مقتدر."
"المهم أنكوا بخير. ارتاحي يختي، وخليك قوية عشان الولاد."
"الله بعين."
تستيقظ جنين، تنظر إلى أختها يافا بجانبها، تخاف، تدعي الله:
"خلي يافا بخير، مش مشكلة لو أنا متت، بس يافا لاء بعدها صغيرة."
يرن جوّالها، عمتها تتصل:
"ألو السلام عليكم."
"آه يا عمتي عليكم السلام."
"يا عمتي يا جنين الضرب حوالينا، في شي حواليكو."
"دارنا بأمان، تعالوا لعنا."
"يلا يا عمتي مسافة الطريق."
كان البيت في وسط مدينة غزة يطل على البحر، يعبق برائحة موجه ورماله، والخالة أخت أم أحمد تسكن في الشمال في بيت لاهيا، بينما تسكن العمة عمّة جنين في الجنوب في القرارة. مناطق مشتعلة تقصفها الدبابات والمدفعيات والطيران الحربي الاسرائيلي، والمقاومون الفلسطينيون يقاومون ويتسلّلون من أنفاق تحميهم تحت الأرض. كان بيت أم أحمد يهتزّ من وقع قذائف البوارج في البحر، ترتجّ الجدران والنوافذ والأسرّة والكراسي والأطباق. مع ذلك هو أكثر أمنًا من بيت العمة والخالة.
تسرع إلى أمها، تقبّلها. تحتضن أم أحمد جنين، تحتضنها أم أحمد وتدعو لها الرب بالحماية والأمان.
"يا أمي، عمتي جاي عنا، بيتهم مش أمان."
"بيت الضيق يما بيوسع ألف صديق، إن شا الله بيوصلونا بالسلامة."
كان أبو أحمد الفدائي قد استشهد في حرب مؤلمة منذ سبع سنوات، وما زالت ذكراه وصوته وهمساته تعيش مع زوجته أم أحمد و أبنائها. كانت ذكرى عظيمة، كان مناضلاً شرسًا، لا يتخلّى عن أرضه ومبادئه، كان يؤمن بالحرية وبالشعب الحيّ، يحبّ الناس، لا يتطرّف لفكرة دون فكرة، كان كالسيل الناعم في فهم الحياة.
تصل العمّة مع أبنائها الثلاثة، تلقي التحية، تتصبّب عرقًا، تخلع منديلها عن رأسها:
"آخ يا أم أحمد، وينك يا أبو أحمد، تشوف إيش بعملوا بفلسطين. يختي المستشفيات والمدارس مليانة ناس. إيش بدو يعمل الصليب الأحمر ليعمل، منعرفش كيف وصلنا لعندكو. هجرة جديدة، الناس بتنزح من دورها للمدراس. الاحتلال بطردنا من دورنا والعالم بتفرج، وين العرب؟ وين دول العالم؟ وين بان كي مون؟"
"طولي بالك يختي، خيلينا صامدين، الله معنا والحق إلنا."
غزة كثافة سكانية عالية، بنيان مرصوص، مسطح اسمنت، تكاد الأحاديث تشتبك بين الناس من النوافذ. تشحّ المياه، تقطع الكهرباء، قليلون من يستطيعون السفر، ولكن الفلسطينيين يحبّون هذا القطاع، ويقولون والله إنها أرض مباركة.
احتشد الجميع في هذا البيت، يتوارون عن أهداف العدو في القتل والتدمير. إنه شهر رمضان يزورهم في فصل الصيف، حرارة مرتفعة تلهب العقول، تجفّ الأجسام من طول ساعات الصيام علّها تلقى ثوابًا عظيمًا من الله. كان الناس يتعبّدون، يؤمنون، يصلّون، يعاندون، يقاومون، يخافون، ويكفرون، لكنهم يتّفقون على حقيقة واحدة: أنهم فلسطينيون.
دخلت أم أحمد المطبخ مع العمّة والخالة لإعداد الإفطار بعد صيام طويل. تزداد شهيّتهم للطعام، يبحثون عن مذاقات بعيدة، في خيالاتٍ أجمل، عن قصص حب مخفية، عن صدف بحر يحمل صداه ذكريات بعيدة. يتحدثن، يضحكن، يقهقهن، يطرطقن بمعدّات المطبخ. أم أحمد لأختها:
"والله ما مصدقة يأذن المغرب، بدي فنجان قهوة وسيجارة تعدل الراس. هالراس هلك من السهر وقلة النوم وضرب الصواريخ، اتركي اللي بايدك وجهزيلك فنجان قهوة."
في وسط البيت، اجتمعت الفتيات مع جنين ويافا التي استيقظت متأخرًا، ليجهّزن طبق الحلوى المفضل، وهو القطايف. تحلية شعبية، طقس يحبه العرب خلال شهر رمضان. يفزعن مع كل ضربة صاروخ، تهتزّ الأرض أسفلهن. يعاودن الحديث، يبتسمن، يحاولن الهرب من ضجيج الحرب، ليشاهدن مسلسلاً على قناة تلفزيونية هنا أو هناك. يبحثن عن كوميديا ساخرة، أو دراما رومانسية تسرق عواطفهم للحظات عن رعب الحرب.
الفتيان يتناقشون كالرجال في أمور الحرب، يُفتون ويحللون ويتبارون من يثبت وجهة نظره عمّا يقول. تتعالى أصوات، يغضبون، ينصرون المقاومة، يرفضون الموت، لكنهم جاهزون للتضحية بأنفسهم في أي وقت. تتضارب وتتناقض المشاعر والأفكار بين قبول ورفض مواجهة مع عدو يملك سلاحًا لا يملكونه، لكنهم يسعدون بكرامة المواجهة ولو بسلاح قليل، ويحلمون بقيادة حكيمة تعرف متى تبدأ حربًا وكيف تنهيها.
لقد نضج الفتيان قبل أوانهم مع جولات حرب متعاقبة في سنوات قليلة من عمرهم، أنْسَتهم لذة الحياة وطيشها وألبستهم رداء الرجولة وعقل الحكمة.
"يمّا بدنا تجهزيلنا الفحمات بدنا أرجيلة."
"يقصفها الأرجيلة يا أحمد والدخاخين في الدار، انهلكت وأنا أنظف."
"يمّا كم أحمد عندك؟"
"أحمد واحد. آخ منك واحد مش قليل الله يرحمو أبوك، طالع شبهو طبق الأصل."
يرتبون المائدة، يتدافعون من يجلب الصحون والمعالق، ومن يضع أمامه الطبق الذي يحبه. يسرق أحمد صحن السلطة المفضّل لدى ابن عمته ويركض في البيت، وابن عمته يلاحقه:
"ولك هاد إلي، مش إلك، أنا اللي طلبتو."
يتصارعان، يضحكان، يعيد أحمد الصحن لابن عمته.
أذّن المغرب، خشوع كبير، دعاء الفقير، هدوء عميق لكنه حذر ، لا أناس في الطريق، لا تسمع سوى صوت الزنّانات وطرطقة الصحون، رياح غريبة، اللقمة الأولى في أفواه الجميع بعد جوع وعطش شديدين.
الدماء تغمر المائدة، تختلط بالطعام والشراب. الجميع أشلاء، اختفت الضحكات، لا أصوات للعائلة، لا جدران للبيت الآمن. دخان يعلو وغبار يكسو كل ما في المنزل. سقطت النوافذ، تكسّر الزجاج.
خبر عاجل على شاشات التلفاز؛ ينظر العالم إلى نوافذ أم أحمد بعد أن هربت العصافير من على حوافها. ولكن أم احمد لم تستطع مشاهدة بيتها من نافذة العالم، لم تشاهد نشرة الأخبار.
صاروخ فاجأ الجميع. كانت لقمة الطعام مع صرخة الحياة، لم تكتمل الصرخة، لم تستطع الخالة والعمة النجاة بأطفالهم. كان الصاروخ أسرع من كل شيء.
كانت دار أم أحمد آمنة كما أخبرت الجميع، هرب الجميع من الموت، ليقابلهم موت آخر. أم أحمد وثقت بذكرى زوجها وبانتمائها لأرضها، لكنها لم تستطع حماية الجميع.
طواقم الاسعاف والدفاع المدني تهرع إلى دار أم احمد، يمشون بين الردم والأشلاء، تتلطخ أحذيتهم بالدماء. فحم نارجيلة أحمد على الغاز، ما زال يحترق. كانت أم أحمد تحرق الفحمات لابنها، وابنتُها الصغيرة تناولها كأسًا من الماء لتبتلّ عروقها من العطش بعد أذان المغرب.
بعد أن طال وقوفها في المطبخ، أم أحمد تحت النافذة تحتضن يافا. لم يعد للنافذة زجاج، اتّحدت والسماء. لم تمت يافا، عيناها دامعتان مذهولتان، لا تتكلم.
احتضنتها أمها أم أحمد، استشهد الجميع وماتت أم أحمد، ولكن يافا لم تمت.
**
نيروز قرموط، أديبة فلسطينيّة من غزة. كاتبة وباحثة وصحافيّة مدافعة عن حقوق الشّباب والنّساء. حازت جوائز فلسطينيّة وعالميّة، أبرزها جائزة القلم البريطاني English Pen الرفيعة للأعمال الأدبية المترجمة للغة الإنجليزيّة، وتصدّرت مجموعتُها القصصيّة قائمة الكتب الأكثر مبيعًا في "مهرجان إدنبرة الدّولي للكتاب" في اسكتلندا.
ولدت في مخيّم اليرموك للّاجئين الفلسطينيّين في سوريا عام 1984 وعادت وأسرتها إلى فلسطين عام 1994. لها العديد من الدراسات والأوراق البحثية، ومئات مقالات الرّأي في الصّحافة الفلسطينيّة والعربيّة والدوليّة.
صدرت لها خمسة كتب: "عباءة البحر" (11 قصة قصيرة) باللغات الإنجليزية (The Sea Cloak) والإيطالية (Il mantello del mare) والهولندية (De Zeemantel)؛ ومؤخرًا صدرت في القاهرة عن دار "ميريت" المصرية وبالتعاون مع "دار راية للنشر" الفلسطينية مجموعة "عباءة البحر وقصص الجديلة" ومتوالية "عُبور".
إضافة تعقيب