بدايةَ، بودي أن أثبت بعض المعايير التي أحكم بها على مُنجز أدبي، وهذه المعايير/ المقولات هي بوصلتي في التقييم الأدبي عندما أمارسه.
إن هذه المعايير تُنقذني من السقوط في الانطباعية الفجة لسرعتها، وتنقذني من المجاملة التي تصل حدّ النفاق لدى أكثر من البعض، رغم أني في كتاباتي لا أخون ضميري ولا معرفتي ولا أجامل وإن كنت أجَمّل أحيانا، من باب المحافظة على النسيج الاجتماعي؛ فكلنا نعرف بعضنا البعض.
ناهيك، أن حركتنا الأدبية المحلية تعيش حالة من الإسهال الأدبي لطوفان الكم على حساب الكيف.
- العمل الأدبي الناجح لا يسلّم نفسه من المعاشرة الأولى. (من كتابي الأول: مسافر في القطار. 1972).
- تعريفي للقراءة الأدبية هو: القراءة الأدبية حوار بين القارئ والنص، وعمق هذا الحوار تقرره ثقافة القارئ وجودة النص.
- الشعر هو ما يكونه وليس ما يعنيه. (مترجم، لا أذكر القائل).
العنوان الكلامي "أثر الحبر" معطى من مفردتين (معنوية ومحسوسة) متلازمتين بالإضافة، عنوان مستفز لحب الاستطلاع لأنه مفتوح الدلالة: ما هو الأثر الذي يتركه الحبر؟ وأين؟ وكيف؟ وما مدة التأثير؟ وغير ذلك من الأسئلة.
كلمة الحبر ترمز الى الكلمة، وكأن العنوان يرادف "أثر الكلمة"، وتأثير الكلمة على الانسان معروف جدا ولا ينكره أحد، فالكلمة سلاح وإصلاح وكثيرة هي الأمثلة التي تؤكد ذلك منذ فجر التاريخ.
كعادتي، قرأت الديوان " أثر الحبر" الصادر عام 2023، للشاعرة عناق مواسي، (من مدينة باقة الغربية في المثلث)، ثلاث مرّات: الأولى للانطباع والثانية للتركيز والثالثة للتقييم. ومنذ القراءة الأولى وجدته داعمًا إيجابيًا للمعايير البوصلة، وتأكدت أكثر بعد قراءتي الثانية والثالثة (وجدته يُشفي الغليل) ويكاد يكون النموذج الشعري المطلوب.
قصائد الديوان لا تستسلم من المعاشرة الأولى (وأفضلها عن القراءة، لأن المعاشرة فيها طرفان متفاعلان ويتبادلان المتعة أثناء حوارهما) ومع كل قراءة أو حوار تنكشف طبقة من المشاعر والدلالات الفكرية؛ فتصاب بالدهشة والانبهار من جمال التعبير وعمق المعاني رغم ضبابيتها، وعندها تفهم المتعة الشعرية في المقولة: الشعر ما يكونه أكثر مما يعنيه.
قرأت الديوان، فوجدت فيه الكثير من المعطيات المبتكرة: الأفكار والمضامين والأساليب والتراكيب اللغوية والتشابيه المركبة، وغيرها. عنوان الديوان الكلامي، الإهداء: إلى من أهداني قلبه وأهديته حبري ص5. القصائد الومضية/ القصيرة. وأراها حالات أو لوحات شعرية.
قرأت الديوان، فوجدته عَصّيا على التعريف من حيث تصنيف الأغراض واستقلاليتها، فالأغراض تتداخل وتمتزج الحدود في لغة جمالية ورفيعة التعبير: بين الواقعي والخيالي، بين الفلسفي والصوفي، بين الوجداني والعقلي، وفي جميعها يرتفع النص الى المستوى الكوني والقيم الإنسانية، ضمن رؤية معرفية شمولية ناضجة. وبهذا يتجاوز النص الذات والمكان والزمان. (ومثل هذا الشعر لا يفقد قيمته عند الترجمة).
قرأت الديوان، فشدني أسلوبه اللغوي: المفردات مألوفة والتعابير مبتكرة والجمل ضبابية والصور مبتكرة ومدهشة، وجميعها مشحونة بالعاطفة الشفافة والخيال الجامح والموسيقى الداخلية. ويكاد هذا الأسلوب تتميّز به الشاعرة.
قرأت الديوان، فوجدت فيه الكثير من القصائد القصيرة/ الومضة والقصيرة جدا (ولكنها الكثيفة جدا)، وأفضل تسميتها باللوحات أو الحالات. وكل اللوحات مدهشة ومستفزة للتفكير لرفعة تعبيرها وعمق معناها. (اللوحات: أول لقاء، شفقة، عيناك، الفراغ، دَيْن، وغيرها).
قرأت الديوان، فوجدت الشاعرة تقوم بوظيفتها، من حيث تجديد اللغة، فهي تبتكر الكثير من العبارات والجمل المبتكرة: (أحزم حقائب الشمس لأغادر نفسي ص7، لغيابك لون الماء ولون الظل ص12، أشرب نفسي على مهل ص16، الله في الليل أقرب ص17، وظللت ماشية في ظلي ص19، أحمل عصاي والندى وأمشي ص24، استدعاني الله لمحادثة شخصية فباغتني ملك الموت ص26، هناك مساران أحدهما للمفردة والآخر للمجاز ص34،
أثر الحبر، ديوان شعر يستحق القراءة، ويستحق المكان والمكانة، فهو ماتع ورائع ونافع؛ لأنه ديوان شعر حقا، فهو من الإصدارات الاستثنائية في هذا الطوفان الكمي من الإصدارات الشعرية.. والى المزيد.
إضافة تعقيب