news-details

إميل توما القامة الشامخة والباقية

... وأرسلت هذه المادة الى إميل توما بذاته، وتلقيت رسالة بالبريد، فيها تقدير لهذا الجهد المبذول ودعوة الى لقاء معه، فالتقيت به، وعلى عدة فناجين قهوة، فنّد لي اسباب عدم نشر المادة، يتكلم باحترام وتواضع وتشجيع وكان هذا الدرس الاول لي، وهو درس ثمين، وانجذبت الى هذه الشخصية، الى العمق والبساطة معا، الى الاحترام والتوجيه معا، الى الرفض والتشجيع معا.

سمعتُ عنه وقرأت له، قبل ان أراه، يبدو انه ولد في نفس العام، الذي تأسست فيه اول خلية شيوعية في فلسطين، "وْلاد السنة جيال"، وهي صدفة، ليصير إميل توما احد قادة هذا الحزب، غادر إميل توما وأبقى، ترك إرثا غنيا، كمؤرخ ومفكّر وناقد وبقي الحزب ويبقى، وأحد اعمدته هو، إميل توما.

تعرفت عليه في النصف الاول من ستينية القرن الماضي، في حيفا. أرسلت له مقالا عن القومية، عندما راحت السلطات تُعد وتنفذ لاختلاق قومية جديدة، القومية الدرزية، كنت طالبا في جامعة القدس، وكنت غِرا في السياسة ولا لوم، اعتمدت في المقال المطول على العديد من المصادر، ومنها زُريق، وجورج انطونيوس، وفيليب حتي، حسبته بحثا دسما ناضجا ووصلت الى نتيجة سخيفة بعض الشيء مفادها ان القومية هي شعور واحساس، ضاربا عرض الحائط بالوحدة الجغرافية والعامل الاقتصادي الاجتماعي واللغة ومفعول الزمن والتاريخ والحضارة والتراث... وأرسلت هذه المادة الى إميل توما بذاته، وتلقيت رسالة بالبريد، فيها تقدير لهذا الجهد المبذول ودعوة الى لقاء معه، فالتقيت به، وعلى عدة فناجين قهوة، فنّد لي اسباب عدم نشر المادة، يتكلم باحترام وتواضع وتشجيع وكان هذا الدرس الاول لي، وهو درس ثمين، وانجذبت الى هذه الشخصية، الى العمق والبساطة معا، الى الاحترام والتوجيه معا، الى الرفض والتشجيع معا.

قال أمين عام الحزب الرفيق ماير فلنر، وفي باحة الكلية الارثوذكسية: يعود الفضل لهذا الرفيق، لإميل توما، في تصحيح خطأ الحزب الذي وافق في البداية على "اتفاق عمّان" لولا إميل توما!.

في نفس الفترة التي تمتد سنوات طلب مني احدهم، قصة قصيرة تصدر في مجموعة لعدد من الكتاب بعنوان "البئر المسحورة وقصص اخرى" انهال عليها إميل توما بنقد حازم وصارم ولطيف، وأشار اشارة الى قصتي "المِسْتَعطي" وقال: فيها بعض عناصر القصة، ثم كسَح لي قصة "المشرّدون" وما فيها من بكاء على الديار، وظل الانسان يكبر في نظري حتى الآن وبعد او بُعيد الآن، استمعت اليه عشرات عديدة من المرات، في اول أيار، لم يكن مسهبا ابدا كان خطابه مكثفا شاملا منسجما، ومحاضراته مشبعة ونقاشه في المؤتمرات وهيئات الحزب المركزية والجبهة، كلها كانت واضحة ومفهومة، حتى في لغته العبرية ولكْنتها العربية. وبدأت اسمع عن تاريخه ومواقفه الأصيلة الجريئة، عندما حوسب على هذه المواقف خاصة وهو في قيادة عصبة التحرر الوطني.

وعندما اعود الى تلك الايام وتعقيداتها، وانفصال ميكونس وسنيه عن الحزب بعد ذلك بسنين، تراني اقول بتواضع وموضوعية: الحق على المحاسِب وليس على المحاسَب، عندما اتهم الحاج امين الحسيني بالخيانة، وقف إميل توما في عرابة وقال: كلاّ ليس خائنا ابدا، هو اخطأ ولم يخن.

رافقته مع سلمان ناطور الى الجولان السوري المحتل، اكثر من مرة، ومشاركة لفيف من الشباب الواعي هناك، أحمد وهايل ومنير ونزيه ومحمود وعادل... وأي اصغاء لكلامه، واي تقدير واعتبار!!

إميل توما أنقذ الحزب من الوقوع في خطأ الموافقة على اتفاق عمّان.

في اجتماع شعبي في دير حنا كانت له الكلمة الختامية، مسك الختام او ختام المسك، كان وفدنا الى مجلس السلام العالمي بقيادة توفيق طوبي قد التقى مع ياسر عرفات في براغ، قلت في دير حنا: إذا اخطأتُ وصلحني إميل توما فأنا مع إميل توما. ضحك. بعدها قال لي: عزّز ثقتك بنفسك حتى لو اخطأت. وبدأ ندرس مؤلفاته عن القضية الفلسطينية، وهي ضرورية بالأمس واليوم وغدا.

كنا نطلب منه مقالا لمجلة الغد، او محاضرة للشبيبة الشيوعية، يعدنا في اليوم والساعة والمكان، وينفذ ذلك بدقة، عطاؤه شمل النواحي الفكرية، النظرية والسياسة والتاريخ والتنظيم، والعمل الجماهيري والنقد الادبي وعِلم الجمال، معجب هذا الإلمام، ومع كل ذلك كان يقول عن شولاميت الوني، شالوميت الوني واخطاء لطيفة فيها ابداع.

استقبلنا جثمانه العائد من المَجر كما اذكر في مطار اللد، وحضر جنازته المهيبة في حيفا اكثر من 25 الف انسان من العرب واليهود. وقف إميل حبيبي على شرفة بناية الاتحاد وأبّنه بصوته الجهوري حتى في ساعة الحزن والفقدان ومن جملة ما قال:

وَردٌ إذا وردَ البحيرة شاربا

ورَدَ الفرات زئيره والنيلا

بعدها قال أمين عام الحزب الرفيق ماير فلنر، وفي باحة الكلية الارثوذكسية: يعود الفضل لهذا الرفيق، لإميل توما، في تصحيح خطأ الحزب الذي وافق في البداية على "اتفاق عمّان" لولا إميل توما!.

بعدها كان القائد الفلسطيني ياسر عرفات يردد: هؤلاء الرفاق امثال إميل توما أمينون لقضيتنا مثلنا واكثر منا

وحبذا لو تنهال الاجيال الشابة في الجامعات خاصة، وغير الشابة، على مؤلفاته، الموجودة في معهد إميل توما، لتدرس هذا التحليل، هذه المواقف الموضوعية الجريئة، البعيدة كل البعد عن المراهقات السياسية والشعارات الموسمية، والتي لو اُخذ بها، لكانت الايام احلى وأمتع، تقتلع منها العديد من اسباب المرارة.

لو كان إميل توما بيننا، كنا كلنا نعرف، أقول كلنا، حقيقة ما جرى ويجري في فلسطين، والعراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، والسودان والقائمة طويلة، فالمجد لهذه القامة الشامخة بتواضع.

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب