news-details

التصويت الهُوّيّاتي: قد يفوز كلّ من المُصوتين والمُقاطعين

تُعدّ الهوية، بمستوييها الفردي والجمعي، نتاج صيرورة للظروف التي يعيشها الفرد والجماعة. فالظروف هي كل ما يقع عليها ويؤثر بها خارج الذات- إن وجدت أصلًا. فالهوية ليست ناظمًا لصفات ماهوية لا تتغير ولا تتبدل. أي أن الهويّة نتاج صراعي لما يعيشه الفرد والجماعة. فهي تعبير استدلال الفرد والجماعة على ذاتهما في مرآة الآخر؛ الصديق والعدو. وهي المحرك المعنوي لحراكات الفرد والجماعة في جميع المستويات، من العلاقات العاطفية الصرفة إلى الثورات من أجل التحرر الوطني- القومي. وقد تكون الهويّة ردّ فعل واهن وقد تكون صلبة وواعية ومَرجل الطبقة/ الشعب/ الأمة في مَنَعتها وحراكها من أجل الأفضل. لذا تُشكل الهوية الوطنية- القومية نقطة الاشتباك الأعلى مع المُحتلين والمُستعمرين عندما تقودها قيادة تُدرك بدقة اللحظة التاريخية، لذا عمل ويعمل المستعمرون والمحتلون على تفكيكها إلى هويات هامشية طائفية ومذهبية وعشائرية وعائلية متخاصمة ومتناحرة، كما فعل الاستعمار وأدواته بالأمّة العربية التي تتناحر هوياتها الهامشية فتقدم بتناحرها خدمة مجانيّة للاستعمار.

 

*    * *    *

يمكن القول إن تصويت العرب للكنيست الثالثة والعشرين الذي جرى في الثاني من شهر آذار الجاري (2020) كان قد تم على خلفية استفزاز هويتهم الوطنية- القومية التي لا يعي الكثيرون منهم محدداتها وملامحها الواعية العمليّة، رغم أن لديهم حساسية عالية بها ولها. هذا ما أراده نقيضهم، أحزاب الصهيونية- الدولة والعداء للعرب كافة، الذين صوّتوا لصالح هوية دينية- شوفينيّة- مشيحانية تحتضن قيادات فاسدة وتتقدم بوعي كامل نحو الفاشية السافرة. ولم يكن من أهداف سُعارها الحصول على عضو كنيست إضافي أو أكثر من نوع "دابّة" كما يبدو على السطح. لكن إذا ما تعمّقنا في قراءة مستجدات السياسية وعُدنا إلى دراسة قانون القومية وصفقة القرن لفهمنا أن الأهداف هي الإطاحة بمكانة عرب 48 (والفلسطينيين كافة) وما أنجزوه بعملهم وجهدهم خارج حدود المواطنة التي لا يمكن إلا أن تكون ناقصة في حالتهم. لا يحلم أحدهم أن بإمكانه أن يكون فلسطينيّا مائة بالمائة ومواطنًا إسرائيليّا مائة بالمائة. فكل خلطات (سامي سموحه) و(إيلي ريخيس) و(هنري روزنفلد) وعزمي بشارة ومروان دويري (في مقاله في الإتحاد، 6. 3. 2020) ومريديهم مصابة بانحراف معياري مخبري بنسبة مائة بالمائة لأن الهويات يمكن تدميرها في المختبرات والمَعامل-إلا أنه لا يمكن بناؤها. وهذا ما علمتنا إياه دروس وعِبَرالتاريخ، ونحن  كلّنا على قناعة أن المستقبل سيقول هذا ويؤكده مجددًا وما من قوة بإمكانها السيطرة على تفاعلات الهوية لفترة متوسطة أو بعيدة.

 

*    * *    *

شكلّت نتائج الانتخابات المذكورة تحديًّا جديدًا للقائمة المشتركة التي مارست هي الأخرى التحشيد الهويّاتي لأهداف معلنة لا يمكنها الاقتراب من تحقيقها ميلمترًا واحدًا بسبب جذور العداء و"الكراهية" للعرب بحسب (مستشار بنيامين نتنياهو، نثان إيشل) ورفض أحزاب الصهيونية- الدولة النابعة من جوهر العقيدة اليهودية، "أبناء النور (اليهود)- مقابل أبناء الظلمة (الجوييم العرب)". فرغبة القائمة المشتركة بإسقاط (نتنياهو) لن تكون 'الحفلة' التي روّجوا ويروجون لها فـ (يئير) والدّواب لهم بالمرصاد (يا إلهي ما أكثرهم وما أقبحهم! ووُصفت منهم فقط وزيرة 'الثقافة' (ميري ريجف)، على لسان (نثان إيشِل) المقرب من نتنياهو)، وربما تكون جماعة الليكود أقل شراسة من جنرالات دولة (جانتس) العميقة، الذين يحبّون طرد العرب وزحف الخرائط نحو الشرق، وأحفاد من كان أجدادهم يحضرون كونسرتات في فيينا لكنهم عندما هربوا لاجئين إلى فلسطين خوفًا من الإبادة امتهنوا قطع آذان العرب وتعليقها زينة. حتى تلك التي لا يزال والِدَيها يُعبّران عن نفسيهما ويحلمان بالعربيّة لا تريد حكومة يدعمها العرب. علمًا أن أشكناز الليكود والسياسة في الكيان اعتبروا والدها (دافيد ليفي) قردًا نزل للتو من الشجرة. إنه شيء مرعب حقّا!

كما قلنا: نجح العداء والتحشيد الهوياتي بدفع أكبر عدد من اليهود والعرب للتصويت كل منهم لصالح هويته كنتيجة ليست ثابتة أو مستقرة، ولها استحقاقات مباشرة ولربما استراتيجية جدًا كما فعل (نتنياهو) بمواصلة التحريض على العرب وشطب أصواتهم كافة من سجّل مصوتي دولته التي عرّفتهم بعد مجزرة أكتوبر 2000 'أعداءً'. وقد يكون مستشارو دولته المكشوفة ودولة (جانتس) العميقة يعملون على إيجاد تخريجة للحدّ من حدّة ارتفاع صوت العرب وتصويتهم وذلك بتغيير طريقة الانتخابات إلى نسبية أو نصف نسبيّة يُحجّمون بواسطتها أصوات العرب في مناطق في الجليل والمثلث والنقب بثمانية إلى عشرة أعضاء كنيست قائلين للعرب "أعلى ما في خِيلكم اركبوه"! هذا الاحتمال هو الأغلب إلى الواقع والواقعية من طرف أبناء الدولة. كذلك بدأت حدة وارتفاع منسوب ممارسات التمييز والقمع ترتفع لتطال العديد من النشطاء السياسيين الشباب عشية التصويت المذكور وبعده.

 

*    * *    *

بناءً على المُعطيات الصلبة التي أفرزها وفرضها الواقع وتحليلنا القابل للنقاش، نفهم أن الاستحقاقات باتت تطول القيادة والنُخب العربية في مناطق 1948، القائمة المُشتركة والمقاطعين على حدّ سواء (الفلسطينيين في الوطن والشتات). فمشاعر الهوية عند السواد الأعظم من المُصوتين هي كمشاعر المُقاطعين، لذا إذا ما فهم الطرفان وأدركا أهمية اللحظة وخطورتها لأدركا أنهما الفائِزَيْن معًا في امتحان التصويت الهويّاتي فيصبح العمل على تطويرها في الحدّ الأدنى المُشترك يقع على عاتق الطرفين معًا. فهذه الاستحقاقات تتطلب وعيًا خاصًا ومسؤولية غير مسبوقة بمستوى التخلّي وقبول أفكار ومواقف، كان كل طرف في الماضي يعدّها من جوهر ثوابته- تحديدًا إدراك أن سياسة محاولة اسقاط (نتنياهو) والقضاء على الفساد في الدولة ومنع تدهور المجتمع اليهودي نحو الفاشية السافرة ليس من مُهمّة العرب بأي حال من الأحوال لأنها مُركب ماهوي في المُجتمع الاستعماري في فلسطين- فمهمتهم هي تنظيم أنفسهم للاحتماء منها ومقاومتها (...). وأن محاولة التغيير من الداخل تشبه الطلب من (عوتسماه يهوديت/ عظمة أو سلطة يهودية) و(داعش) الالتزام بشرعية حقوق الإنسان للأمم المتحدة. هذا ما يدركه أقل من نصف أعضاء المُشتركة، وسيدركه جزء منها قريبًا، أما من تبقى من أعضائها فلن يدركوا هذا الأمر أبدًا (...). بالطبع هذا ما يدركه المقاطعون (أيضًا). وهذه النتيجة على أهميتها هي نتيجة مأزومة لأنها تنبع من هوية ردّ فعل ضعيفة وغير بارزة المعالم الفكرية والعملية وتعيش في حالة من "الأزمة المفتوحة" كما وصفتها قبل أكثر من عقدين. لذا فإن عدم إدراك أهمية هذه النتيجة وتحويلها إلى نقطة اشتباك في المفهوم الغرامشي بعمقه (وليس كموّزع مناشير كما يتعامل معه بعض المثقفين العرب) فإن العديد من مُصوتيها هذه المرّة سينضمون في المرة القادمة إلى صفّ دبكة الليكود. فالاستهتار بمشاعرهم وإبقاؤها خزّانًا للأصوات فقط سيثير غضبهم ولا يمكن ضمان إرسالهم خمسة عشر عضوًا إلى الكنيست مرّة أخرى كما فعلوا في الانتخابات المذكورة. 

ونضيف هنا: إن التصويت للقائمة المشتركة- هذه المرّة تحديدًا- ليس بسبب التمييز المدني والقومي أو رفع مكانة المرأة أو 'إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل وعاصمتها القدس الشريف'، بل جاء كردّ فعل على تحريض أحزاب الصهيونية- الدولة عليهم (...). وهذا ما سمعته من عشرات المُصوتين، منهم من يصوت للمرة الأولى ومنهم من صوت للمرّة العاشرة وأكثر. هذا تصويت الهوية الضعيفة الغاضبة.

بناءً على ما تقدم فإنه يجب البحث عن النقطة- الفكرة- المشروع الذي يُجمع عليه المصوتون والمقاطعون ونخبهم. لأن الراهن الزمني بات حرِجًا أكثر لأن القائمة المشتركة نصبت لمصوتيها مصيدة العسل للدولة العميقة لجنرالات (جانتس) الذي يصرح أتباعه أنهم بحاجة للمشتركة للتصويت مرّة (أو نبضة) واحدة لتشكيل الحكومة ثم العمل على إقامة حكومة وحدة مع الليكود! وكي تحافظ المشتركة والمقاطعون (أيضًا) على مصداقيتهم أمام أنفسهم ومؤيديهم عليهم البدء فورًا بالعمل على مشروع التعليم وقضية العنف، لأنهما موضوع واحد لا فاصلة أو نقطة تفصل بينهما، فهما الموضوع الحارق لعرب 48. فبقاؤه على حاله، هي الوصفة الأمثل التي أعدها دهاقنة الدولة وسلاحها النووي في المستويات الاجتماعية والتربوية والأخلاقيّة. ويتطلب تنفيذ هذا المشروع أولًا إدراك خطورته وأهميته معًا ثم العمل على تنفيذه مع الطواقم التعليمية والتربوية الذين يتواجدون على رأس عملهم والمتقاعدين وطلبة الجامعات في المدارس والنوادي المختلفة بمعزل عن السلطة التي ستعمل على إعاقته. والمشروع قابل للتطبيق إذا أدرك الجميع خطورة ما سيأتي لاحقًا، وليتذكر الجميع أن القرارات الحاسمة في تاريخ الجماعات البشرية والشعوب والأمم تمّ اتخاذها في الأزمات التي هي نقاط الامتحان الحقيقية لمن يرغب في التأثير سلبًا أم إيجابًا.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب