news-details

جودي دين: نحن بحاجة إلى رفاق | حسن مصاروة

يواصل فرع تل أبيب للحزب الشيوعي، تقليد مجموعات القراءة التي تتعامل مع كتابات المفكرين الماركسيين المعاصرين. واختار الفرع أن يتناول في المساق الدراسي التالي، كتابات المفكرة الماركسية المعاصرة جودي دين، أستاذة العلوم السياسية في كلية هوبرت ويليام سميث في نيويورك. أصدرت جودي  13 كتابًا تتناول معنى الانتماء إلى حزب في زمننا، ومعنى الحزب، ومعنى الشعور بالانتماء إلى إطار سياسي مشترك.

وستتناول سلسلة اللقاءات الحالية التي ينظمها الفرع، بالتحديد كتاب "رفاق" لجودي دين، والذي يعرض نظرية مفهوم "الرفيق" كعلاقة بين أنداد على نفس الجانب من الصراع السياسي. وستجري المناقشة حول الكتاب، الذي ستقدم فصول منه لأول مرة بالترجمة إلى اللغة العبرية، في سلسلة من اللقاءات، وفي نهايتها سيكون هناك لقاء مباشر عبر الانترنت مع المؤلفة جودي دين، والذي سيكون مفتوحًا للجمهور لتوجيه الأسئلة لأحد أهم مفكري النظرية السياسية الماركسية في السنوات الأخيرة.

لدعم هذه الجهود التثقيفية التي يقوم بها فرع تل ابيب، والمساهمة في اطلاع رفاقنا من كل الفروع على هذه الفرصة التثقيفية المهمة للخوض في دراسة كتابات وأفكار المنظرين الماركسيين المعاصرين المتجددة، وفي هذه الحالة المفكرة الماركسية المهمة جودي دين، نقوم في صحيفة "الاتحاد" بتقديم ترجمة خاصة لمقال دين الذي يتعلق بالأفكار الأساسية التي يقدمها كتابها، "رفاق"، الذي يناقشه المساق الدراسي الذي ينظمه فرع تل أبيب.

***

نحن بحاجة إلى "رفاق"

ترجمة خاصة لمقال جودي دين المنشور في مجلة جاكوبين الأمريكية

 

يُقال لنا باستمرار إن مشاكلنا كلها يمكن حلها بواسطة "الخيال" والـ"أفكار الكبيرة" والإبداع. ووفقًا لهذه التوجهات، يبدو أن الأفكار الجديدة الإبداعية لن تحل أزمة المناخ فحسب، بل ستقضي على واقع عدم المساواة المتطرف، بل وستنتصر على الكراهية العرقية. وبشكل غريب، فإن هذه الدعوة إلى "التفكير خارج الصندوق" وأن نكون "مبدعين" في تفكيرنا، يوحد الجميع، من عمالقة التكنولوجيا إلى النشطاء الاشتراكيين، والسياسيين من التيارات السائدة و "الشيوعيين المرفهين".

هذه الوحدة الظاهرية تمنعنا من رؤية مدى خطورة النزاعات الكامنة على الرأسمالية، والحدود، والهجرة، والموارد. تحجب هذه الانقسامات الحقيقة عن الأنظار، يخفيها هذا الوهم القائل بإمكانية وجود فكرة كبيرة بما يكفي، وخلاقة بما يكفي، وخيالية بما يكفي لحل جميع مشكلاتنا - على ما يبدو بشكل فوري وإعجازي.

هذا هو الوهم الذي يجعل اللجوء إلى الخيال أكثر جاذبية. لكن الحقيقة هي أننا نواجه صراعات جوهرية حول مستقبل مجتمعاتنا وعالمنا. التغيير الاجتماعي ليس سهلاَ. نحن بحاجة إلى قبول حقيقة الانقسام والتسليم بوجوده، وأن نحُدد في أي جانب نحن، والقتال من أجل تعزيز هذا الجانب. لسنا بحاجة إلى إقناع الجميع. بدلاً من ذلك، نحن بحاجة إلى إقناع عدد كافٍ من الناس لخوض النضال والمضي به قدمًا حتى النصر.

الأفكار الكبيرة لا تعني شيئًا بدون كادر يقاتل من أجلها. ومع ذلك، فقد فشل قطاع كبير من اليسار المعاصر، لا سيما في بريطانيا والولايات المتحدة، في تطوير مناضلين أقوياء وملتزمين ومنظمين والحفاظ عليهم. وذلك يحصل لأنه تم استبدال قيمة الانضباط في العمل الجماعي للوصول إلى هدف مشترك، بخطاب فرداني عن الـ"الراحة الذاتية" والـ"الاهتمام بالذات الفردية".

هذا الخطاب والممارسات الناتجة عنه، تستجيب لمشكلة حقيقية، وهي ندرة التنظيمات السياسية التي تعطي المعنى لأعضائها والتي تدعم  احتياجاتهم. في غياب مثل هذه التنظيمات، يلجأ بعض اليساريين للتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي على أنها منفذ ومنبر سياسي. ولكن بالنظر إلى موجات الغضب المستمرة على الشبكة، فإن لجوء اليساريين إلى الشبكة من أجل ممارسة يساريتهم، قد يكون فعلاً مازوخيًا للغاية.

ودائمًا ما نواجه نحن النشطاء اليساريين معضلة رؤية أن أولئك الذين يفترض أن يكونوا إلى جانبنا هم الذين يستخفون بنا أكثر من غيرهم. يحدث الشيء نفسه أيضًا عندما تتشكل مجموعات تهتم بقضايا ملحة وتخطط لنشاطات معينة. نرى الهجوم والاعتداء من قبل متعصبي النظام الرأسمالي، نشعر بالإهانة بسهولة، ونجد صعوبة في الثقة بالآخرين. وبهذه الحالة نناشد الرعاية الذاتية، لكن هذا حل لمعالجة الأعراض ولكنه لا يمس سبب عجزنا السياسي. إنه يتجاهل ما نفتقده حقًا - علاقة سياسية مبنية على التضامن.

يقدم لنا تاريخ التنظيم الاشتراكي والشيوعي نموذجًا يجسد مثل هذه العلاقة السياسية المبنية على التضامن – إنه نموذج  "الرفيق". "الرفيق" كصيغة للنداء، ونموذج للانتماء، وحامل للتطلعات. "الرفاقية" هي تحديد للعلاقة بين أولئك الذين هم على نفس الجانب من الصراع السياسي. نموذج "الرفيق" يتجاوز الفهم السائد للسياسة باعتبارها مسألة مجرد قناعة فردية، ويحيل إلى السياسة بوصفها تطلعات مبنية على التضامن المطلوب من أجل بناء قوة سياسية جماعية. فمن أجل تطلعات "رفاقنا"، نتكبد عناء الحضور إلى الاجتماعات التي كنا سنفوّتها في حالات أخرى، ومن أجل تطلعات "رفاقنا"، نقوم بعمل سياسي كان من الممكن تجنبه، ونحاول أن نرتقي إلى مستوى مسؤولياتنا تجاه بعضنا البعض. بواسطة هذه "الرفاقية"، نختبر متعة النضال الملتزم معًا، والتعلم من خلال الممارسة. نتغلب على المخاوف التي قد تكسرنا إذا أجبرنا على مواجهتها بمفردنا دون الرفاق. يجعلنا "رفاقنا" أفضل وأقوى مما يمكن أن نكون وحدنا.

 

الكراهية العرقية تخضع للمحاكمة

لنأخذ مثالاً من تاريخ الحزب الشيوعي الأمريكي: محاكمة استعراضية ضخمة نظمها الحزب في هارلم عام 1931. قدم الحزب، أوجست يوكينين، العامل الفنلندي، للمحاكمة بتهمة التحيز العنصري، ودعم الفوقية العرقية البيضاء، وترويج وجهات نظر تضر بالطبقة العاملة. حضر قرابة 1500 عامل أبيض وأسود محاكمة الحزب، التي عقدت في كازينو هارلم، أحد أكبر القاعات في المنطقة. قدم كلارنس هاثاواي، المحرر الأبيض لصحيفة "ديلي وركر"، القضية للمحاكمة. وكان ريتشارد بي مور، أحد المتحدثين السود الأبرز في الحزب، هو ممثل الدفاع عن يوكينين. وكلفت هيئة محلفين مؤلفة من 14 عاملاً، 7 من السود و7 من البيض، بإصدار الحكم النهائي بالقضية.

كان يوكينين أحد ثلاثة أعضاء بيض من الحزب الشيوعي الأمريكي الذين كانوا يحرسون مدخل حفلة للرقص في نادي العمال الفنلندي في هارلم. وصل العديد من العمال السود لحضور حفلة الرقص وتم قبول دخولهم الحفل على مضض. وبمجرد دخولهم الباب، عوملوا بعدوانية وسرعان ما غادروا. لم يرحب بهم أي من أعضاء الحزب البيض ولم يقوموا بالدفاع عنهم.

وخلال تحقيق أجراه الحزب في الحادثة، اعترف رفاق يوكينين الآخرين بخطئهم. لكن يوكينين حاول تبرير سلوكه من خلال قوله إنه كان يعتقد أن العمال السود سيذهبون إلى غرفة المسبح وأنه لا يريد السباحة في ذات المكان مع السود.

بحلول وقت محاكمة الحزب، كان يوكينين قد اعترف بذنبه ووعد بتصحيحه من خلال الانخراط بالعمل الميداني لصالح النضال من أجل تحرير السود. كان السؤال المطروح على هيئة المحلفين حينها هو ما إذا كان ينبغي طرد يوكينين من الحزب بسبب عنصريته و الـ"شوفينية البيضاء"، أو تجميد عضويته مؤقتًا ووضعه تحت المراقبة.

كانت حجج هاثاواي-العضو الأبيض في الحزب-، المكلف بتقديم الادعاء للمحكمة ضد المتهم، أن يوكينين لم يفشل فقط في التصرف وفقًا لتطلعات المساواة التي يلتزم فيها الحزب الشيوعي، ولكن هذا الفشل ذاته وضعه في صف المجرمين العنصريين وطبقة الملاك. لأن أدنى تعبير عن أفكار الفوقية العرقية البيضاء يقوض التضامن الطبقي بين العمال السود والبيض ويعزز حكم البرجوازية. وادعى أنه عندما فشل يوكينين في دعم التزام الحزب بالمساواة العرقية، أعطى العمال السود سببًا وجيهًا لعدم توقع أي شيء سوى الخيانة، من الحزب ومن أي شخص أبيض.

ذكّر هاثاواي هيئة المحلفين أنه نظرًا لأن النضال من أجل الحقوق المتساوية للسود هو أمر ضروري  لنضال البروليتاريا ولا ينفصل عنه، كان على الحزب الشيوعي أن يثبت - بالممارسة - أنه ملتزم بمحو كل أثر للشوفينية البيضاء داخل صفوفه. وادعى أن طرد يوكنين يعزز التزام الحزب بهذا الهدف. لكن هاثاواي عرض أيضًا على يوكينين طريقًا للعودة إلى الحزب: إذا انخرط يوكينين بنشاط بالنضال ضد الفوقية البيضاء، وقام ببيع الصحيفة المهتمة بقضايا السود "ذا ليبراتير"، إضافة إلى إعداد تقرير حول محاكمته يقدمه لنادي العمال الفنلندي، عندها فقط سيكون مؤهلاً لتقديم طلب للعودة إلى صفوف الحزب.

أما ريتشارد مور، العضو الأسود المكلف بالدفاع عن يوكنين أمام المحكمة الحزبية، فقد حول التركيز خلال مرافعته إلى العدو الحقيقي، الطبقة الرأسمالية. وأكد أن ملاك الأرض والبرجوازيين هم الذين ينشرون سم الكراهية العرقية - بمساعدة النقابات والاشتراكيين الانتهازيين. لم تكن مرافعة مور  تشير إلى إعفاء المتهم يوكنين من المساءلة. لم يكن هناك أحد بريء. كل جانب من جوانب الإمبريالية الرأسمالية ينضح بالأيديولوجيا الفاسدة للفوقية البيضاء.

قلب مور نقده إلى الحزب الشيوعي ذاته، متسائلاً عما إذا كان الحزب قد قام بالعمل التربوي المطلوب لمواجهة الكراهية العرقية. هل طور برامج للحركة العمالية لشرح أهمية النضال ضد الإعدام خارج نطاق القانون الذي يجري بحق السود؟ هل بذل الحزب جهدًا جادًا لاجتثاث التحيز العنصري؟ أعلن مور أن الإجابة كانت "لا". اتهم مور الحزب بأنه شريك في جريمة يوكينين. وهكذا خلص مور إلى أن النقد الذاتي، وليس طرد العضو المتهم، هو الطريقة الأفضل. النقد الذاتي سيمكن الحزب من إثبات التزامه من خلال ممارسته. جادل مور بأن هناك فائدة إضافية تتمثل في أن النقد الذاتي سيدخر يوكينين للنضال، وهو عامل حاسم عندما يحتاج الأمر لكل عامل للمشاركة في الجهود المبذولة لإسقاط النظام.

في تلخيصه، ذكّر مور هيئة المحلفين بخطورة سياسية الطرد من الحزب الشيوعي. قال مور: "أفضل أن يقطع رأسي عن جسدي من قبل المجرمين الرأسماليين على أن أطرد من الأممية الشيوعية". كان يقصد أن عزل أي عامل عن الحزب، والانفصال عن الرفاق، والحرمان من العلاقة الرفاقية، هو مصير أسوأ من الموت. إنه نوع من الموت الاجتماعي حيث يصبح العامل غريبًا عن حركته، شخصًا سيئًا أو أسوأ من الرأسماليين أنفسهم.

خلص مور إلى أنه يجب إدانة يوكينين، ولكن الأهم من ذلك هو إدانة الرأسمالية لما تولده من البؤس والتحيز العنصري والإرهاب والقتل العشوائي. وقال إن الحزب بحاجة لإنقاذ هذا الرفيق وتثقيفه، لإعطائه فرصة لإثبات نفسه. كما كان على الحزب أن ينخرط في نضال بلا هوادة ضد الشوفينية البيضاء وأي شيء آخر يهدد الوحدة الطبقية للعمال.

وجدت هيئة المحلفين أن يوكينين مذنب، وهو أمر لم يكن مفاجئًا لأنه اعترف بالفعل بذنبه. واتفقت الهيئة على طرده لكنها انقسمت بشأن ما إذا كان يجب أن يستمر الطرد 6 أشهر أو 12 شهرًا. وقبلت هيئة المحلفين اقتراحات الادعاء بشأن الطرق التي يمكن أن يصحح بها يوكنين أخطاءه، توزيع صحيفة "ذا ليبروتور" المهتمة بقضايا السود والانخراط العملي في النضال ضد الشوفينية البيضاء. لذلك على الرغم من طرد يوكينين ، إلا أنه ظل "رفيقًا". وأسفرت المحاكمة عن قرار أكد دوره في الصراع الطبقي، وهو دور يركز على بناء الوحدة الطبقية بين العمال البيض والسود. الحزب لم يرميه خارجًا، لقد وفر له طريقًا للعودة.

في اليوم التالي من محاكمة الحزب، ألقت السلطات الأمريكية القبض على يوكينين واعتقل لترحيله، بتهم الهجرة غير الشرعية، وعندئذٍ ترافعت عنه في جلسات الاستماع المنظمة العالمية للدفاع العمال المدعومة من الأممية الشيوعية.

 

في ذات الجانب من الصراع

تعلمنا محاكمة يوكينين عددًا من الدروس التي من الأفضل للاشتراكيين المعاصرين أن يتعلموها من جديد، دروسًا حول الرفاقية. وفي مقدمة هذه الدروس هو ما يتعلق بالوجود في ذات الجانب من الصراع. اشتركت جهة الادعاء وجهة الدفاع في محاكمة يوكينين بنفس المبادئ والأهداف: وحدة الطبقة العاملة، وإلغاء الفوقية البيضاء، وضرورة المساواة العرقية في الممارسة في الحياة اليومية، والثورة البروليتارية. مكنتهم المبادئ المشتركة من تمييز وتسمية العدو المشترك - الرأسماليين وملاك الأراضي الذين روجوا الفوقية العرقية البيضاء وقانون الإعدام الوحشي للسود. وكل من قبل هذه المبادئ هو رفيق حتى عندما يرتكب الأخطاء. وكون أي شخص "رفيقًا" يعني أنه كان ذا قيمة للنضال. وهو بحاجة فقط إلى أن يتم تثقيفه وتدريبه أكثر على المبادئ المشتركة، لأن الثورة تحتاج إلى أكبر عدد ممكن من المناضلين.

المجموعة الثانية من الدروس والتي تنبع من الأولى، هي: قيمة النقد الذاتي الجماعي. إذا أخطأ أحد رفاقنا، فإننا نتشارك جميعًا المسؤولية عن هذا الخطأ. ما الذي كان بإمكاننا فعله لمنعه؟ ما نوع التعليمات أو الإرشادات التي كان من الممكن أن نقدمها؟ نحن جميعا محاطون بأيديولوجيا الرأسمالية العنصرية في كل وقت. نحن بحاجة إلى دعم بعضنا البعض في الكفاح ضدها. يجب أن ندين الأعمال التي تعزز الفوقية البيضاء ولكن علينا أن ندين بشدة أكبر النظام الذي يولدها.

أخيرًا، تتعلق المجموعة الثالثة من الدروس بالحفاظ على طريق للعودة. على النقيض من النزعة الهوياتية المسمومة التي أطلق عليها مارك فيشر وصف "قلعة مصاصي الدماء" وثقافة الإلغاء القاتلة التي تنتشر بين اليساريين على منصات التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة الأمريكية، كان مسعى الحزب الشيوعي الأمريكي في قضية يوكينين هو الحفاظ على الوحدة. اتبع الحزب ممارسات لبناء الوحدة لا تقويضها. حتى في حالة فصل أحدهم من الحزب، لم تتم إدانته بشكل مطلق وتام ولم يتم عزله. بل في الواقع عندما استهدفه السلطة القمعية للدولة الإمبريالية هب الحزب للدفاع عنه. ظل يوكينين على نفس الجانب مع الشيوعيين، ظل يوكينين رفيقًا. لقد قبل قرار الحزب بشأن ما يجب عليه عمله لمكافحة الفوقية العرقية البيضاء وبناء الوحدة الطبقية بين العمال. لم تكن النزعة الأخلاقوية على المحك–الحاجة إلى تقديم  "اعتذار"– ولا حكمًا فردانيًا على موقف يوكينين. بل كان جوهر المسألة هو القيام بالعمل الذي يتطلبه النضال الثوري.

 

الانضباط

مفهوم الانضباط يحمل سمعة سيئة لدى اليسار المعاصر. هم لا ينظرون إلى الانضباط كتهديد للحرية الفردية فقط، بل يتشككون بكل شكل من أشكال الانتماء السياسي المكثف. ويعتبرون الانضباط الرفاقي مجرد تقييد لا قرارًا يسعى إلى بناء قوة سياسية جماعية، فقد استبدلوا فهم الواقع الحقيقي للصراع السياسي بخيال فهم السياسة كمجرد ممارسة فردية. ويحجب هذا الفهم الذي اتخذوه حقيقة أن الرفاقية هي علاقة اختيارية بين الأفراد والحزب الذي ينتمون له. كما يتجاهل الجوهر التحرري لمفهوم الانضباط. بوجود الرفاق إلى جانبنا نتحرر من الإجبار على البقاء ومعرفة وعمل كل شيء لوحدنا كأفراد. نحن بوجود  الرفاق نشكل كتلة جماعية بخط وبرنامج وأهداف ومهام نتقاسم أعباءها جميعًا معًا. وتحررنا العلاقة الرفاقية من العدمية التي تصور على أنها "نضج"، لأنها تزودنا بتفاؤل واقعي يحققه العمل الجماعي المخلص. الانضباط، يوفر لنا الدعم الذي يحررنا لارتكاب الأخطاء، ثم التعلم منها من أجل ننضج أكثر. عندما نخطئ، وهذا ما يمكن أن نتعرض له جميعًا، رفاقنا سيكونون إلى جانبنا من أجل حمايتنا  من السقوط، ومساعدتنا لنفض الغبار عن أنفسنا، ويعيدون وضعنا على المسار الصحيح. بهذه الحالة لن نترك وحدنا.

غالبًا ما يظل اليساريون غير المنتسبين وغير المنظمين مفتونين بالوهم القائل بأن "الأشخاص العاديين" سيخلقون تلقائيًا وبعفوية أشكالًا جديدة من الحياة ستؤدي إلى مستقبل مجيد. هذا الوهم يفشل بالاعتراف بالحرمان والعجز الذي ألحقته أربعون عامًا من النيو-ليبرالية بعموم الناس. إذا كان صحيحًا أن التقشف، والديون، وانهيار البنى التحتية المؤسسية، وتهريب رأس المال يمكن أن يُمكِّن من الظهور التلقائي لأشكال الحياة القائمة على المساواة ، ما كنا لنرى التفاوتات الاقتصادية الهائلة، وتكثيف العنف العنصري، والانخفاض في متوسط العمر المتوقع، والموت البطيء والمياه غير الصالحة للشرب، والتربة الملوثة، والشرطة والمراقبة المعسكرة، والأحياء الحضرية والضواحي المهجورة التي أصبحت شائعة الآن.

يشمل استغلال الموارد الطبيعية وتجفيفها استغلال وتجفيف الموارد البشرية أيضًا. في كثير من الأحيان يرغب الناس في فعل شيء ما لمواجهة هذا الواقع ولكنهم لا يعرفون ماذا يفعلون أو كيف يفعلون ذلك. قد يتم عزلهم في أماكن عملهم التي تفتقد إلى أي تنظيم نقابي، ويتم اثقال كاهلهم بعدة وظائف وبأوقات دوام لا تعطيهم حتى الوقت للاهتمام بشؤون العائلة والأصدقاء. التنظيم المنضبط - انضباط الرفاق الملتزمين بالنضال المشترك من أجل مستقبل تحرري قائم على المساواة - يمكن أن يساعد في هذه الحالة. في بعض الأحيان نريد ونحتاج إلى شخص ما ليخبرنا بما يجب أن نفعله لأننا متعبون للغاية ومشتتون لدرجة أننا لا نعرف ذلك بأنفسنا. في بعض الأحيان عندما يتم تكليفنا بمهمة كـ"رفاق"، نشعر أن جهودنا الصغيرة لها معنى وهدف أكبر، وربما حتى أهمية تاريخية عالمية في الكفاح الأزلي الذي يخوضه البشر ضد الاضطهاد. في بعض الأحيان، مجرد معرفة أن لدينا رفاق يشاركوننا التزاماتنا وأفراحنا وجهودنا للتعلم من الهزائم تجعل العمل السياسي ممكنًا حيث لم يكن من قبل كذلك.

 

جةدي دين

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب