news-details

قراءة في مجموعة علي قادري الشعرية "ثلاثون خرابا وجثّة"

بداية

نبدأ من النهاية ونقول وبكل ثقة إنّ فعل الخراب عند الشاعر علي قادري ( ثلاثون خرابا وجثة. حيفا: مكتبة كلّ شيء، 2018) يترك أكثر من امكانية للتساؤل والنقاش والتحاور، وكلّها ممارسات تنهض على حركة تبثّ روحا وحياة فيما يبدو خرابا عاما. وكان لهذا الاهتمام المختلف بالطرح والقول والنصّ دور هام في اختيارنا ومعالجتنا لنصوص هذه المجموعة، إضافة إلى دعوتنا الدائمة للاهتمام بأدبنا المحلي قراءة ونقاشا ونقدا، لأنّه يستحق! أعجبتني جرأة قادري على هذا البوح في إصداره الأول، وقدّرت صرخته التي لا تجمّل ولا تجامل. لا ضحك على الذقون ولا مكياج خفيف قد يعمي عين الحقيقة. فالخراب عام وطامّ لا تخفيه عباءة ولا تخفّف من وطأته لا ريشة الساحر ولا قارورة العطار، حاله بذلك كحال الحبّ والحبل وركوب الجمل، في موروثنا الشعبي، ثلاثة لا يمكن إخفاؤها، مهما حاولنا تظل بارزة شاخصة حاضرة. عهدْنا البدايات "تمشي على استحياء"، تداري أكثر مما تفصح وتفضح. لكن السؤال الكبير الكبير الذي يطرح نفسه بنفسه هل هناك من متسع بعد، في ظلّ التحوّل والتطرف والكذب والنفاق والعهر (والقائمة تطول)، للرتوش ولو على حساب البدايات؟

 

**

يؤسس قادري نصوص مجموعته على مفردات تمتح من حقل دلالي يقوم على الخراب والموت والجثث. وقد سعى لترسيخ هذا التوجه معتمدا آليات أدبية حديثة، كالنصوص الموازية، المفارقات والتناقضات وغيرها. إضافة إلى اللغة، على نحو ما سنرى لاحقا. يدرك قادري أنّ للصرخة الأولى وقعًا، فأرداها قوية مجلجلة، وحتى يتمّ له ذلك لا بدّ أن تتضافر كلّ الجهود والآليات والتقنيات لتعزيز قوتها. فعندما ينفذ أثر هذه الصرخة في كلّ مفردة ونصّ ودلالة تتحقق القوة باعتبارها وحدة واحدة تحمل دلالة (صرخة) واحدة. هذه الرؤية الفكرية التي تنهض على موقف صارخ وواضح من الواقع والعالم عموما، لا بدّ وأن تجد لها مقابلا أسلوبيا يدعمها ويعزّز وجودها في المعمار الدلالي للنصّ.

وقد أحسن الشاعر في اختياره للنصوص الموازية في مسعاه هذا. نقصد بالنصوص الموازية (أو العتبات النصية عند جيرارد جينت) كل ما يحيط بالنصّ الأصلي من نصوص قبلية، اكتسبت أهميتها من خاصيتها النصية الدلالية القبلية للنصّ، تبوح فيها بما تيسّر عن النصّ قبل البدء بممارسة فعل القراءة. فهي بذلك كالعتبات التي يتشرط الوقوف عندها قبل ولوج النصّ، والوقوف ليس مجردا أجوف بأي حال من الأحوال، بل هو دالّ في المقام الأول يمكّن الواقف من إمكانيات متعددة من التوقعات والاحتمال. ولأنّ عالم النصّ الحديث مجهول وعر، مركّب وملتوٍ، فإنّ سبر هذا الغور يلزم التزوّد والحيطة والاستعداد ضرورة لا خيارا. نشير على سبيل التمثيل لما سبق إلى أهم العتبات النصيّة المقصودة: العنوان، صفحة الغلاف، الإهداء، الاقتباسات والتظهير. والحقيقة نقول إن الاهتمام بهذه الآليات الأدبية وغيرها في أدبنا لا يرقى إلى عمقها الأدبي الجمالي في حالات كثيرة، ويقتصر مسوّغ توظيفها على السطحية والتقليد الفاقد لكل مضمون وعمق. لكن قادري خبر أهمية هذه الآليات وقدرتها، فجنّد كلّ هذه العتبات لتؤسس وترسّخ نظرته عن الواقع والعالم، فجاءت كلّها تنضح بالموت والخراب والسواد والرمادية، على نحو ما سنرى. قيمة هذه الممارسة الأسلوبية في كونها تعزّز موقفا صريحا لا تأتأة فيه، وهذا ما يمنح النص في مستواه المضموني الدلالي تماسكا وثباتا، فأينما وقع بصرنا في هذه المجموعة كان الخراب الدالّ لنا بالمرصاد.

 

 
 

صفحة الغلاف

تحظى الواجهة (واجهة كلّ شيء) باهتمام وحرص واضحين في كلّ ممارستنا، ونجتهد في اختياراتنا لواجهاتنا لنضمن القبول وتحقق الغاية والمراد بالتالي. وكذا هو الحال في الكتابة والنشر، نهتم بواجهة إصدارنا الأدبية (صفحة الغلاف) لتكون قادرة على التدليل والتمثيل والإغراء، وهذا بالضبط ما دفع شاعرنا، مثلا، ألاّ يختار الأحمر أو الأخضر أو حتى الوردي لونا لواجهته. ستبدو هذه الألوان نشازا في ظلّ واقع يسوده الخراب، وسيفقد النصّ بالتالي الكثير من قدرته على التأثير والتدليل. الأسود إيحاء بالظلمة والتخبط، والرمادي ضبابي يعزّز الشك لا اليقين. واللوحة جاءت داعمة لمشهد السوداوية، فالبيت في طبيعته بيّن واضح المعالم، لكنه في صفحة الغلاف رمادي هو الآخر لا يتحقّق الناظر فيه من عوالمه. وبذلك يثبّت الشاعر واجهة ممثِّلَة لوجهة نظره.

 

العنوان

يعتبر العنوان أهمّ العتبات النصيّة على الإطلاق لما يحمله من قدرة تلخيصية، تركيزية، دلالية، وإغوائية. ولأنّ العنونة فعل متأخر عن فعل الكتابة بالضرورة، كان لتحليل العنوان أهمية دلالية بارزة تمّكن القارئ من قراءة النصّ أو محاولة ذلك. وجود العدد في العنوان (ثلاثون خرابا وجثّة) يلزم الإحالة، لأنّه لم يذكر بشكل اعتباطي بأي حال من الأحوال. العدد مردود لأمر بعينه، فلا يكون عشوائيا بحيث يمكن أن يستبدل بكلّ عدد ممكن، بل هو مقصود لذاته. الخراب وهو المعدود جاء نكرة ليعمّ كلّ خراب ممكن ولا يقتصر على واحد بعينه. دال على فعل هدم يقوّض كلّ محاولة بناء وعمران. فعل مضاد لممارسة سليمة مفترضة في الواقع. وهو بذلك يتساوق مع الأسود والمظلم والرمادي، وهذا التعالق المرجوّ في نظرية العتبات، تعالق النص بمستوياته المختلفة وعتباته المتعددة لخدمة الدلالة العامة. الجثة جاءت مفردة نكرة، وقد سبقت الإشارة إلى مسوّغ التنكير، فكما يكون الخراب عاما لا يؤطر، بوعي وقصد من الشاعر، كذا الجثّة. لكن الإفراد في الجثة لا يتناغم مع المعدود المتعدد حتى وصل الثلاثين خرابا، ولأنّ نصية العنوان تلزم مركزية المفردات فيه وترتيبها (بخلاف النحو ربما!)، فإنّ الجثّة في هذه الحالة ناتج لاحق لفعل الخراب السابق. جاءت الجثّة معطوفة على الخراب بحرف العطف الواو، العطف نحويا يفيد الربط بين طرفين، وللحرف دلالة في سياق الربط هذا. قال النحويون إنّ الواو كحرف عطف لا تفيد ترتيبا بين المعطوف والمعطوف عليه، وإنّما تدلّ على محض اشتراكهما في الحكم. العنونة كفعل سيميائي دلالي تتجاوز التعريف النحوي السابق، وتلزم الترتيب لنصية العنوان المركزية ولخاصياته المتعددة التي ذكرت سابقا. فكلّ متصدر هامّ بالضرورة، ولأهميته أُعطي ترتيبا، لأنّ العنونة، كما أسلفنا، فعل متأخر عن فعل الكتابة، وهو فعل واع ٍ ومتأنٍّ معا، يعمد إلى أقدر الألفاظ على التدليل والتكثيف والايحاء، وهذه ممارسات تلزم الترتيب لتحقيق ما سبق.

وهكذا يكون الخراب سابقا في الترتيب للجثّة بالضرورة. لكن هذا الترتيب يحتمّ علينا نقاشا أعمق وأهم، فالخراب الذي وصل الثلاثين في العدد يفضي إلى جثّة واحدة فحسب. فإذا كانت واحدة، وهي كذلك في العنوان، فهي المتحملة لأثر الخراب كلّه بصفتها ناتجة عنه. كأنّ هذا الخراب المهول صبّ جام دماره وتطرفه في ضحية واحدة، جثّة واحدة. تعددت الأخربة والضحية واحدة. يمنح العدد ثلاثون التعددية النوعية للخراب، فلو كان واحدا لما تعدّد! فلو كان خرابا لعمران لكان "خرابا وجثّة"، ولكن العدد ثلاثين منحه هذه التعددية، مما يوضح أنّ هذا الخراب قد طال مناحي كثيرة من الواقع، وقد يطال الجانب المادي والمعنوي على السواء. نعود لبداية نقاشنا في باب العنونة ونطرح السؤال المتوقع: لماذا ثلاثون بصفة خاصة؟ تدفعنا الإجابة عن السؤال إلى تجاوز العنوان للنصّ، لأنّ الربط بين النصيتين ملزم في هذه الحالة، فالتقيّد بالعنوان لا يتعدى مجرد التكهنات التي تحتمل الصواب والخطأ. يأتي الجواب بتقديري في قصيدة " لا تنسوا التفاح" (ص: 63) وفي الفقرة التي يقول فيها شاعرنا:

"وثلاثون عامًا

من خراب كبّرته

حتى ينتهي كلّ شيء هنا"

أضاف الشاعر للثلاثين لفظة "عاما" كلّها خراب كما يوضح لاحقا فقد ميّزها بقوله "من خراب"، كأنّه بذلك يقول هي ثلاثون عاما (زمنا) كلّها خراب. فإذا كان الاقتباس الأخير يكشف جانبا من الإجابة، لكنه يفرض سؤالا آخر: ما هي الأعوام الثلاثون التي يقصد الشاعر؟ هل هي فترة دالة لتاريخ أو أحداث معينة؟ هي ثلاثون الشاعر نفسه، عمره الذي انقضى منه ثلاثون عاما، فالأنا كانت واضحة في قوله "من خراب كبّرته"، يحيلنا هذا الربط بين العنوان والنصّ إلى دلالة جديدة للخراب في هذه المجموعة، دلالة الخراب الشخصي الذي لا يتعدّى الشاعر نفسه، هو خرابه الذاتي الذي يرى من خلاله الواقع والعالم من حوله، هو سخطه على الواقع وألمه منه في آن معا. وهكذا تتضح الجثة / الشاعر التي أنهكتها الأخربة المتعددة والمختلفة. لكن السؤال الأهم: هل يبقى شاعرنا مسكونا بهذا الخراب؟ أبدا فهو يرى بصيص نور وبعثا يبعث في روحه ليوقظها من خرابها، وهذه مهمة الشاعر أينما حلّ وارتحل:

"أشعل ما تبقّى من كبرياء الّلغة

حتى يهبّ النسيم من جديد

على هذه القطعة المعطوبة من روحي"

فالهدم (الإشعال) يسعى إلى البعث والحياة واسترداد الروح لتنهض وتعمل وتشق طريقها من بين الأنقاض وتكتب! وهكذا لا يكون الهدم دالة استسلام ويأس بقدر ما هو دالة أمل لبعث جديد يحرّكه النسيم الذي يؤذن لمجيء الربيع بعد خراب الخريف في ناموس الطبيعة.

 

الإهداء والاقتباس

ساهم كلّ من الإهداء والاقتباس في تعزيز فلسفة الخراب في هذه المجموعة، على نحو ما تقدّم. يوّجه الإهداء إلى جثّة وخراب على التوالي. ولكنه يؤكّد مجددا على النهوض والبعث لحياة أفضل، على نحو ما تقدّم ذكره في نقاشنا للعنوان كذلك:

"فتنهض الأشلاء تلملم بعضها

شيئا فشيئا

إلى أن تسبح في البياض ونشربَ صورة زهر اللوز"

في هذا الإهداء ما ينذر بالحياة والحركة والبعث من جديد. البياض خلاف السواد، وزهر اللوز دالة الربيع والحياة. بالمقابل يرسّخ الاقتباس المعتمد في بداية المجموعة فلسفة الخراب، ومأساوية الواقع الذي يدع مجالا حتى لزقزقة العصافير:

"في الظهيرة

استيقظت على زقزقة العصافير

لو كنت أملك بندقيّة

لأطلقت النّار عليها جميعا

لأنّ هذا الكون لا يحتملُ هذه الروعة" (مقطوعة للشاعر الصيني رين هانغ الذي مات منتحرا، على نحو ما يشير الشاعر في الاقتباس)

والاقتباس شهادة وحجة من السابق أو الآخر بصحة بنظرة الشاعر للواقع وانعكاسه في داخله. كأنّ بذلك يثبت أنّ الحالة التي يحسّ بها هو نفسه ليست مقطوعة، بل لها صداها وحضورها في الواقع والعالم، مما يعطيها نوعا من "الشرعية".

 

التظهير

اهتم قادري بتظهير معجمي يوضح فيه معاني الخراب والجثّة كما ورد عند ابن منظور في لسانه. لتكون الصفحة الأخيرة بذلك دعامة لما سبق.

اللغة: تعدّ اللغة من المقومات الأساسية التي ينهض بها كلّ عمل أدبي عموما. ولمّا ألزم الشاعر نفسه في هذه المجموعة بموتيفي الخراب والجثة، كان على اللغة أن تمتح من هذين الحقلين الدلاليين بالضرورة. فلا يمكن بعد كلّ ما تقدم من تعالق الخراب وتشابكه في عتبات النصّ المتعددة أن تأتي اللغة خضراء زاهية رومانسية، فهذا حتما سيؤدي إلى تصادم بين الدال والمدلول، ويضع العمل برمّته موضع شكّ. يشير إحصاء المفردات التي تؤسس لحالتي الخراب والجثث في المجموعة أنّ لفظة "خراب" تكررت في المجموعة اثنتين وثلاثين مرة، بينما تكررت لفظة "الجثة" عشرين مرة، واجتمعت اللفظتان معا في أربعة مواضع. يشار كذلك إلى ألفاظ مختلفة تنتمي إلى الحقلين الدلاليين المذكورين وتؤكّد معاني الخراب والجثث، كالمقابر الجماعية، الحرب، الموت والموتى، الجماجم، الجحيم، الضحايا، المجزرة والفريسة. لا تخلو هذه الألفاظ من معاني الخراب والجثث والموت. الإحصاء في السياق الأدبي لا يعني شيئا بذاته، طالما لم يتحوّل إلى دالّ: فما الحكمة من هذا التكرار؟ يبيّن التكرار شيوع اللفظ وانتشاره، مما يثبت وجوده في الواقع، فكما يحضر في الواقع بكل تفاصيله وفي رؤية الفرد (الشاعر) للواقع بكلّ مستويات الرؤية وتشعباتها، فكذا هو حاضر في تفاصيل النصّ. الواقع لا ينفك يذكر الشاعر بتفاصيله المشّوهة، وهكذا تفعل قصائد هذه المجموعة بالضبط. ولا عجب أن يتساوى عدد تكرار لفظ الخراب مع العدد المذكور في العنوان (ثلاثون). وهذا ما يؤكد قدرة العنوان في التلخيص والتركيز، كأنه بذلك جمع حالات الخراب المتعددة في العنوان، هي ثلاثون منثورة على امتداد النص باختلاف تجلياتها. وهذا يفسر لماذا يعتمد الكاتب عنوانا هو في الأصل ليس عنوانا لإحدى القصائد في المجموعة. الدلالة ليست محصورة في نصّ واحد بل منثورة على امتداد النصّ، على نحو ما تقدّم.

لأنّ الخراب فعل يقوم على التناقض، كان لا بدّ للغة أن تجاري هذا التناقض، كقول الشاعر، على سبيل المثال لا الحصر: "شاعر يخرج من جثّة". والإرداف الخلفي الخلف (الإوكسيمورون) "الخراب المدهش". تتساوق هذه اللغة المتناقضة مع المناخ السائد في المجموعة، تؤكد خرابا عاما، في الروح والنفس والواقع، لكن لا يتغلغل هذا الخراب ولا يستحكم لأنّ الشاعر محكوم بالأمل، فيخرج شاعر من جثّة. وفي ذلك قمة البعث والحياة. فالخروج فعل نهوض وقيام، وما النهوض إلا إلغاء لحالة النوم والسكون. لا يستسلم شاعرنا للخراب، بل يراه مدعاة حقيقية للحياة، مؤكدا بذلك القول المعروف " بضدها تعرف الأشياء". كما جاء الأوكسيمورون "الخراب المدهش" ليحدث تأثيرا يفاجئ ويستفزّ في آن معا، ويدفع إلى التحرك والفعل لا السكون. هذا التعبير المتناقض في ظاهره والمتناغم إلى حد بعيد في باطنه، قادر على معاينة التفاصيل المتناقضة للواقع والحياة، وتصوير هموم الإنسان التي لا تبقي ولا تذر. ولكن حقيقة الصرخة وإحداث التأثير الخاص الكامنة في طبيعة هذا التركيب اللغوي تكفل لنا أن الخراب لا يستفحل، أو بلغة أدقّ فهو مهما استفحل واستغلظ حتما سيتبدل.

نشير في نهاية هذه القراءة السريعة للمجموعة أنّنا اعتمدنا جانبين اثنين بارزين فيها: النصوص الموازية واللغة، كأمثلة تطبيقية تبيّن فلسفة الشاعر في نصوصه. لكن هناك جوانب أخرى هامة كالمضامين والصور الشعرية المتعددة التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في قراءة هذه المجموعة، وآملين أن تناقش في قراءات أخرى قادمة. عموما لا يقلّل الوقوف عند العتبات ولا تناول اللغة بلمحات سريعة من شأن العمل بصفة عامة ولا من شأن رؤية الشاعر للواقع من حوله بمنظار ذاتي شخصي بصفة خاصة، لأنّهما (العتبات واللغة) تؤسسان لهذه الرؤية وتتعالقان معها تعالقا تاما في مراحل النصّ الثلاث: المرحلة القبلية السابقة لفعل الكتابة، ومرحلة الكتابة، ومرحلة ما بعد الكتابة أو عند الفراغ من فعل الكتابة للقصائد بذاتها، كالعنونة والتظهير.

 

في النهاية

عاين الشاعر علي قادري في مجموعته الشعرية الأولى الواقع بمرآة نفسية داخلية شخصية، وقد عكست هذه المرآة واقعا مشوّها مدمّرا يحكمه الخراب والموت وما ينتج عنهما. ليس من السهل ولا من المفهوم ضمنا أن يُقدم شاعر / مبدع، وفي باكورة أعماله الشعرية / الأدبية على تناول الواقع بهذه الجرأة. وهذا ما يحسب له في المقام الأول. حاولنا أن نبيّن في هذه القراءة السريعة للمجموعة فلسفة الشاعر في طرحه للواقع وانعكاسه على الشخصي عنده، دون أن يتنازل عن ضرورة القيام في ظلّ الخراب المستفحل، لأنّه شرط الوجود والإبداع والقصيدة. لا يتنازل قادري عند دور القصيدة بصفة خاصة كسبيل إلى الخلاص من رجس هذا الواقع، يداوي نفسه (ويحاول أن يداوي الواقع) بالقصيدة، فيها يبوح ويصرخ ويفضح، يواجه ويكابد دون أن يستسلم أو يتنازل عن حتمية النهوض. فهو من خبر تناقضات الواقع والقصيدة، وقدرة الأخيرة على الجمع بين هذه التناقضات لتصبح المواجهة أسهل والحياة ممكنة، كما يقول في قصيدته الرائعة "شاعر يخرج من جثّة":

"أمسكوا أيها الشعراءُ

بقرني الغبطة والشقاء..

كي تذوب المسافات بين دروب القصائد..

وكي تصير الحياة ممكنة"

وهذه الخلاصة التي لا تنازل عنها، عصارة الألم والمعاناة التي تمنحك عزيمة وإصرارًا لمواصلة الحياة مهما بلغ جنون الواقع وتطرفه. وهي الخلاصة التي أبرزها مرة أخرى في قصيدته "لا تنسوا التفاح"، التي أشرنا إليها سابقا. ليست الحكمة أن تقرّ بوجود الخراب فحسب، بل الحكمة أن تحوّل الخراب إلى جسر للنهوض والتجدّد. وأن تشحذ النفس والواقع والقصيدة بكلّ ما تحتاجه من أدوات ولغة لتحقيق هذا النهوض، ولم يكن شاعرنا بعيدا عن هذه الممارسة أبدا. أدرك قادري تحوّلات النصّ الأدبي الذي يستجيب بدوره لتحولات الواقع بمستوياته المختلفة، فسعى إلى قصيدة تجاري هذا التحوّل من خلال اعتماد على النظريات الأدبية الحديثة، والأساليب الأدبية، على نحو ما تقدّم، القادرة على تصوير الواقع المتطرف المتفكّك بشكل متماسك إلى أبعد الحدود. إضافة لما قيل لا بدّ من التأكيد على ضرورة ترتيب قصائد المجموعة بشكل أفضل، لأن ذلك يتساوق بتقديري مع الجانب الفكري والدلالي. قصيدة "شاعر يخرج من جثّة" وقصيدة " لا تنسوا التفاح"، مثالا، يفضّل تأخيرهما إلى نهاية المجوعة، إلى نهاية الخراب الذي يفضي إلى النهوض بالضرورة، على نحو ما أسلفنا. قصيدتان يبثّ فيهما الشاعر الأمل والبعث والتجديد، بعد الخراب، فيكون ترتيبهما بعد الخراب أو في نهايته.  

فإذا كان شاعرنا، في النهاية، يظنّ ويعتقد أنّ الخراب نكأ كلّ الجروح، وأفاض كلّ مكبوت ومدفون، عليه إلا ينسى أنّ قانون الطبيعة يقضي بوجوب النهوض والاستمرارية، والعمل على مضاعفة العمل والإبداع لتعزيز النهوض وتثبيت أرجله.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب