news-details

قصة قصيرة:  ابتلعت صحن من الخزف| نبيل العريني (غزة)

*قصة الكاتب الفلسطيني نبيل العريني من غزة، نموذج عن الحياة وسط الدمار والقتل الذي يقترفه العدوان الإسرائيلي في قطاع غزة.. وللشعب الحي رغم الإبادة الجماعية (الاتحاد)*

 

بين الأزقة الضيقة وتحت ظلال المنازل المتهالكة، وجدت نفسي أمام طاولة بسيطة من الطعام. كان هواء المخيم محمّل برائحة البارود والقنابل والهتافات الشعبية التي نامت فوق الجدران الممددة وهي تغري المارين عن الانتصار واستحالة الهزائم، لكن كان هناك شيء غريب في هذا المكان، شعور ثقيل بالكآبة لا يمكن تجاهله. جلست على كرسي خشبي متهالك، وكأنني أسمع همسات الخزف تتردد بين الجدران المتشققة.

 

وضع أمامي صحنًا خزفيًا قديمًا. نظرت إليه مليًا، كان فيه بعض الخدوش الطفيفة وتشققات صغيرة والبطاطا، إلا أن تلك العيوب لم تكن السبب في ارتباكي. كان الصحن يحمل أكثر من مجرد طعام، كان يحمل قصة، عبقًا من الحرب. حاولت أن أتجاهل شعوري، لكنني لم أستطع. كان هنالك شيء مختلف.

 

رفعت أول لقمة إلى فمي، وما إن ابتلعتها حتى تردد صدى صوت بداخلي. شيء ما طق كسر في حلقومي "هش" أو "طق" ، لا أعرف كأنني سمعت صرخة مكتومة، صدى لوجودٍ ضائع. شعرت بألم غريب في داخلي، وكأن روحًا غريبة قد التفت حولي، تحاصرني. تساءلت: من صاحب هذا الصحن؟ كيف وصل إلى هنا؟

 

بدأت الصور تتوالى في ذهني. ربما كان هذا الصحن لامرأة من جباليا كانت تجلس على مائدة عائلية ذات مساء، تضحك مع أطفالها. كان بيتها يوماً ما مليئًا بالحياة، بالأمل والفرح، لكن الاحتلال جاء في ليلة بلا ضوء، جرف المنزل، واندثرت الحياة التي عرفتها. بقي الصحن. نجا بطريقة ما من بين الأنقاض، ليصبح شاهدًا صامتًا على ما حدث. أو ربما...

 

ربما كان هذا الصحن لشخص قتل بوحشية تحت قسوة الاحتلال. ربما أكل فيه آخر وجبة له قبل أن تتوقف دقات قلبه إلى الأبد. ربما كان يحمل أحلامه وطموحاته، تفاصيل حياته الصغيرة، قبل أن يصبح هذا الصحن مجرد قطعة في سوق الحرام. سرق من بين الأنقاض، وباعه أحدهم في تلك الأزقة المظلمة، دون أن يعرف أو يهتم بقيمته الحقيقية، أو قصة صاحبه.

 

كل لقمة أخذتها كانت مشبعة بهذا الألم الغريب. شعرت وكأنني أبتلع ذكريات لا تخصني، أحمل ثقل حياة أخرى. لم أكن آكل طعامًا فقط، بل كنت أبتلع قصة أحدهم، الظلم، الفقدان. كنت أشارك في مأساة لم أعشها لكنني شعرت بثقلها على صدري.

 

 الصحن. لم يكن مجرد وعاء، كان بوابة إلى زمن آخر، إلى لحظات مأساوية ومألوفة في آن واحد. انتهيت من الطعام، لكنني شعرت بالامتنان لذلك الشخص الذي ربما عاش ذات يوم حياة عادية، حياة بسيطة مليئة بالضحك والدموع، قبل أن يأتي الاحت...لال ويختطف كل شيء.

 

حملت بداخلي شعورًا جديدًا؛ شعورًا بأن هذا الصحن المستعمل، الذي يبدو عادياً لمن يراه، كان يحمل بين طياته قصة كاملة من الفقد والألم، قصة ربما لن تُروى أبدًا، لكنها تعيش في داخلي الآن، جزء من ذاكرة لا أستطيع نسيانها.

أطفال وإصرار على الحياة في خانيونس، مطلع أيلول الفائت (شينخوا)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب