news-details

قصة قصيرة: حبٌّ حيفاوي| يوسف جمّال

 لا بدَّ أنكم سمعتم عن العربي، الذي أصيب من جراء أطلاق النار عليه من قبل الشرطة في محطة الكرمليت، قرب ساحة الخمرة (باريس) الحيفاوية، انه ابن خالتي لزم وأصله من بلدنا.

 ابن خالتي ضاقت به أزقَّة بلدنا، فغادرها قبل قيام الدولة، واتخذ من حيفا مكاناً يلمُّ منها لقيْمات تحميه من الجوع، مستعيناً بمهنته - تصليح البريمسات، التي تعَّلمها من الكفريني.

والكفريني رجل التجأ الى بلدنا من الكفرين بعد أن هُجِّر سكانها، له يدان تحملان كل مهن ذلك الزمان. فكان مصلِّح بريمسات، وحلاّق، ومبيِّض قدرة نحاس، وطبيب أسنان، يخلع الطواحين ووجعها من أفواه أهل البلد.

 "روح إبحث عن رزقتك في بلد آخر. هايِّ البلد ما فيها رزقة إلا لمصلِّح واحد". نصحه معلمه الكفريني.

فقبل النصيحة واتخذ من (خُشّه) في حيفا التحتا، بجانب محطة ساحة باريس، ورشة تصليح بريمسات الفلاحين، الذين يلجأون الى حيفا، طالبين خدمات أصحاب الصنعة.

ولم ينس بلده وخالته التي لم يكن له في الدنيا غيرها، وقد كنتُ حريصاً على الاشترك في الجلسات، التي كان يقضيها مع أُمي - خالته، والتي كان يقص عليهنا أخباره في حيفا.

 فحيفا بالنسبة لي المدينة السحرية، التي طالما بحثت عن أخبارها بشغف شديد، كي استمر في إكمال تلوّين الصورة التي كنت أرسمها لها في خيالي.

 فكان يحكي لنا عن الميناء والرفايناري والقطار الأرضي والسيارات والأسواق والمتاجر ودور السينما.. وجبل الكرمل وحارة وادي الجمال ووادي النسناس.

وكان دائماً ينتظر على أحرِّ من الجمر، السؤال الذي كان يجيب عليه، بأشدِّ درجات اللذة والتمتع.

فتسأله أمي: وانت شو بتعمل هناك في حيفا؟

فيجيبها بشغف:

 في حيفا - يا خالتي لا يستغنون عنّي..

فمرة مثلاً خرب وابور بحري وأغلق المينا، والتقى جميع كبار المصلحين وخبراء السفن، فعجزوا عن إصلاحه، فتوجه إليَّ المسؤولون في المينا طالبين مساعدتي، فأخذت عدِّتي وأسرعت الى الوابور، وأمام الجميع أصلحته، فغمروني بالحب والتصفيق، ولما أرادوا إعطائي اجري، رفضت وقلت لهم: "هذه هديَّة مني لحيفا ومينائها."

 وكان يروي الحكايات حول اشتراكه في المظاهرات، التي كانت تجوب شوارع حيفا، تطالب بإلغاء وعد بلفور، فكان يرفع يده الى أعلى صدره ويهزَّها قائلا:" والله خَلِقْ كان هناك يا خالتي ! ناس ما إلها أوَّل من آخر ! كلهم كانوا يصيحون عالياً:" فليسقط وعد بلفور.. فليسقط الانجلييز!".

 وكان يخرج من جيبه جزداناً قديماً، ينوء بما يحمله من مستندات وأوراق، ويسحب منه صور كان قد قصها من الصحف ويبسطها أمامنا، ويعدِّد أسماء بعض أصحاب صور المشتركين في المظاهرة والتي يقول أنه اشترك فيها.. وعندما سألته مرة "هل تظهر صورتك في تلك المظاهرة!؟". أجاب مشيراً الى أحد الرؤوس التي لا يظهر إلا طرفه العلوي: "هذا أنا هذه صورتي. ومن ثم ينتقل سريعا ليعدِّد الأعيان والزعماء: "هذه صورة رئيس البلدية، هذه صورة أمام الجامع، وهذه صورة صاحب مصنع الدخان".

 أخذت منه الجريدة وقرأت الخبر، فلم أجد له اسماً، ولما سألته عن السبب، أجاب:

 اقرأ معي في الجريدة.. اشترك فلان وفلان مع ألقابهم، والتي التي تدلُّ على مراكزهم ومناصبهم ومقاماتهم الرفيعة، وعندما وصل الى جملة: "وجماهير من المواطنين.." توقَّف عندها كمن وجد ضالته..

فصرخ في وجهي وهو يضع إصبعه على كلمة جماهير:

" أَلا تفهم - يا ولد!؟ انا هنا.. أنا هنا بين جماهير المواطنين.

"بحلقت" في الكلمة فلم أره فيها، فهو ابن خالتي لزم، واعرف اسمه واسم أقربائه و أجداده جميعا.

فسكتّ مغلوباً على أمري.. وأعتقته من قبضتي رحمة به و بأمي، التي كاد دمها ينشف شفقة عليه، من هذا الموقف الذي وضعته فيه.

 بعد زيارته الأخيرة لأمي، وبعد ان غادرنا عائداً الى حيفا، نادتني وهمست في أذني بحسرة: "ابن خالتك تخرفن وأنا خايفه عليه!".

وسبب قولها هذا، قصته الأخيرة التي سمعناها منه حول مغامراته في حيفا.

"كنت كعادتي في دكاني، منشغلاً في تصليح البريمسات".. بدأ يروي الحادثة وعيناه تغوصان في خيال عميق:

وإذا بمجموعة من الرجال يقتحمون عليَّ المحل دون استئذان، والخوف والهلع يقطِّع قلوبهم. فصاح أحدهم:

إن مدينتنا حيفا في خطرٍ شديد.. إنها مهدَّدة من قبل طائرة ستسقط عليها من الجو، ولا يعلم إلا الله ما ستسببه من ضحايا ودمار، الذي سينتج عن وقوعها على بيوت المدينة.

وأنت الوحيد الذي يمكنه انقاذها من هذه الكارثة.. فأنت الوحيد القادر على إصلاح الطائرة وهي في الجو.. صرخ آخر مستنجداً.

فقلت في نفسي: "باطل يا محمود. أنا ابن أختك يا خالتي!".

 فأخذت عدَّتي ورافقتهم الى مكان وجود الطائرة، و"أركيت " سلَّماً طويلا على أسفل الطائرة، وصعدت عليه وأصلحتها في الجو، ونزلت الى الأرض وسط تصفيق وهتاف الجماهير التي تجمّعت لتراقب الموقف. فأصبح اسمي على كل لسان في حيفا وقضائها.

ولما احتل اليهود حيفا فرَّ ابن خالتي منها، بعد وصلت الى أسماعه أخبار ما صنعوه لأهل قراها من العرب، من أجل إجبارهم على مغادرتها، فعاد الى بلدنا، والحسرة تقطِّع قلبه. وسكن في بيت أُمه القديم.. وفتح مصلحة لتصليح البريمسات في القرية.

 ولكن حيفا بقيت على لسانه..

كان يسكن في بلدنا، ولكنه حيفا تسكن فيه، فكان يصول ويجول في حكايات حنينه عن تاريخه المجيد فيها، على مسمع كل من يريد ان يسمعه، وأطلق على نفسه اسم "الحيفاوي".

وأصبح لا يجيب إلا بمناداته بهذا الاسم. ونصب على باب محله لافتة، كتب عليها بالخط العريض: "الحيفاوي لتصليح البريمسات". وكانت هذه أول لافته تعلَّق على محلٍّ من محلات القرية. وترك لهجة بلدنا، وأصبح يتكلم باللهجة الحيفاوية.!

وبعد سنوات عديدة، سمع ان الكثيرين من العرب، يتسللون خفيه للعمل في حيفا، فترك القرية وتوجه إليها.

وعندما وصل المكان الذي خبأ فيه عِدَّته بجانب خشته القديمة، هاله المنظر الذي صدم عينيه. إذ لم يبق من البيوت القديمة شيئا. هُدمت جميعها بما فيها خشِّته وتحولت الى ساحة كبيرة. حفروا فيها حفرا متعددة، يرتفع منها أعمدة من شبكات الحديد، وعمال يعملون حول هذه الحفر. وعندما أراد الدخول أوقفه أحد العمال وصاح به بالعبرية، التي كان قد تعلم بعض مفرداتها من اليهود، الذين كانوا يأتون أليه طلباً لمهنته:

  • قف عندك ولا تدخل الى هنا.. الدخول ممنوع.!
  • كيف امنع من دخول بيتي!؟ صاح به ابن خالتي.
  • لقد كان بيتك. لقد هدمت كلّ البيوت هنا كما ترى بعينك. ردَّ العامل بحزم.
  • لن تمنعني من أخذ عدتي، حتى لو أطلقت الرصاص عليَّ ببندقيتك هذه. قال وهو يدفعه من أمامه.

توَّجه الى أحد العمال، وجذب الفأس الذي كان بيده، ومشى الى شجرة ما زالت واقفه مكانها في الطرف البعيد من الساحة، وبدأ يحفر بجانبها بكل قوته، والعمال يحيطون به وينظرون باستغراب ودهشه عما سيكشف عنه التراب، الذي كان يخرجه من الحفرة.. وما هي إلا لحظات حتى بدأت العدة تخرج من تحت التراب:

(الزردية، الكماشة، المفك، مغلف في جلدات، ابر بابور ومقص كبير)

 فزادت دهشتهم واستغرابهم، ولما همَّ بالخروج حاملاً عِدَّته التي كان قد وضعها في كيس من النايلون كان قد وجده تحت الشجرة، استوقفه مدير العمل وعرض عليه أن يعمل معهم في البناء، فقبل وانضم إليهم في صبيحة اليوم التالي.

واستقرّ ابن خالتي مرة أخرى في حيفا، وانقطعت زياراته وأخباره عنا، إلا من نتف يأتي بها العائدون - من أهل بلدنا - الذين يلتقون به صدفة في زياراتهم لحيفا.

 أما الحدث الذي سيطر على عناوين الصفحات الأولى من الصحف، وتناقلته محطات الإذاعة، وأذهل كل من عرف ابن خالتي مفاده: ان الشرطة أطلقت النار على مسنٍّ عربي، ظنت انه يريد تفجير الكرمليت في حيفا، ولكنه بقي على قيد الحياة، ووجدت الشرطة معه أدوات عمل بدائية. وقال عند استجوابه، انه أراد إصلاح القطار، بعد توقفه عن العمل مدة أيام، وعجزت الشركة المشغِّلة له عن إعادته الى العمل. وأنه لا يطيق ان يرى شيئا معطَّلاً في حيفا!

وقال الناطق بلسان الشرطة: ان الرجل مصاب بمسٍ في عقله، وانه سيوصي بإدخاله الى أحد المصحات.

والغريب في الأمر، أن القطار عاد الى العمل بشكل منتظم، بعد إطلاق النار والقبض على ابن خالتي مباشرة، فأصيب الجميع بالدهشة والذهول مما حدث ويتساءلون: هل استطاع ابن خالتي بأدواته البسيطة، إصلاح القطار وإعادته الى العمل!؟.

أما ابن خالتي، فلم يعارض إلحاقه بمصحة الأمراض العقلية، ولكنه اشترط أن تكون في حيفا!

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب