news-details

 ماجدة الرومي : صوتُ الأوبرا وأيقونةُ الفنّ الراقي| سمير حاجّ

ماجدة الروميّ من الاستثناءات الجميلة لطرب وغناء هذا العصر، هذه الأيقونة الغنائيّة، بصوتها الأوبراليّ السوبرانو العذب، الحامل صدى رنين الأجراس والمنهمر شآبيب مطر من ديمةٍ سكوبٍ، وبإطلالتها الأنيقة كالطاووس، وموهبتها الموسيقيّة وثقافتها الأدبيّة، وموضوعات أغانيها الملتزمة، الهادلة بالأقانيم الثلاثة: الوطن والحرية والسلام، لا تشبه أحدًا سِواها. هذه المطربة المُنتمية إلى عصرها، والباحثة جدًا عن ميناء سلام، تجمع في صندوقة حنجرتها العندليبية، الكلمة الجيّاشة مع اللحن الرائع والصوت الجاذب. لقد حملت بصوتها الصادح السارق مستمعيها، وكلمات أغنياتها القصيرة، المتسارعة الإيقاع، التي تفرّ من فمها كأسراب نحل، هموم الجيل الجديد وطموحاته وأحلامه، فطوّعت الأغنية كلمةً ولحنًا لعصرها الدخانيّ، فسافر صوتها بعيدًا عبر الحدود، دون أن يطلب تأشيرة دخول، مثل عصافير وقصائد نزار قباني. لقد رفعت الشعر الجماليّ الحداثيّ الملتزم بالحرية والحب والوجع والهمّ إلى السماء، بعد أن كان غافيًا ومنوّمًا في صفحات دواوين الشّعر. كما شكّل ذوقها في اختيار نصّها الشعريّ المميّز، إضافةً إلى موهبتها وإلمامها في الشعر، مدماكًا مهمًا في شموخ أغانيها. هذه المطربة الشاعرة، نجحت في انتقاء وتأليف نصوص شعريّة وضيئة، فاضت من القلب وتفاعلت مع الحدث، وحملت حكايات شعب

خرافيّ قام وانبعث مرارًا، من تحت الردم والخراب كطائر فينيق أو تموز جديد، كما تجلّى في غناء رائعة سعيد عقل عام 1975 "عم بحلمك يا حلم يا لبنان" من ألحان إلياس الرحبانيّ، التي كانت لها عتبة دخول إلى عالم الغناء، والتي تتغنّى بلبنان الحلم وتستشرف خلوده السرمديّ رغم الحرب والدمار "بتغيب / بتعود الدني تسمع صوت الدمار/ وع طلتك، ع الملعب / بتوقع نجمات ع صوت الكنار/.... واريدك تضل بهالسما منحوت مثلها للشمس / اليوم أكثر من أمس / ضحكة ع جرحة مبسمها / عم بحلمك يا حلم يا لبنان". ورائعة حسّون الشعر طلال حيدر "الحرية"، التي تهتف مستشرفة النور من الظلام: "على باب العتمي معلَّق / قنديل الدار/ ما تقولوا طوَّل هالليل / قولوا بكرا جايي نهار"، وسمفونية نزار قباني "يا ست الدنيا يا بيروت" التي يستنهض بها القيامة من بين الركام لبيروت القتيلة قائلًا "قومي من تحتِ الرَدمِ، كزهرةِ لوزٍ في نيسانْ / قومي من حُزنكِ../ إنَّ الثورةَ تولدُ من رحمِ الأحزانْ". كما أبدعت في غناء نزاريته "مع الجريدة". هذه المطربة الشاعرة عرفت كيف تروّض أداء وتلحين الشّعر ومواءمته للعصر، ليحكي ويحاكي عقول وقلوب الجيل الجديد، المتعب والمثقل بالويلات وأعباء الحروب والانكسارات والخسائر.

ماجدة الرومي، تقطر من حنجرتها أغان جمالية ذات إيقاع سريع وحركية كما في رائعة صاحب "بطاقات ملوّنة لزمن بلا أعياد " الشاعر اللبنانيّ الرومانسيّ الرّاحل أنور سلمان "سماويّة العيْنيْن" التي تصدح موسيقى وتنثر جمالًا "عيناك..ليالٍ صيفيهْ / ورؤىً، وقصائد ورديهْ" والتي هي في الأصل "ورؤىً، ومطالع شعريّه".

وغنّت القصيدة السياسية في زمن غيابها عن المشهد الشعريّ بعد أن طالت الحرب على بلدها، كما في قصيدة إيلي شويري "كلٌّ يغنّي على ليلاه"، التي تتفصّد وجعًا وبارودًا وخوفًا يستوجب الغناء "كلٌّ يغني على ليلاه.. وأنا على ليلي أغني/ غنيلك آه يا بلدنا آه.. ع اللي سرقوا قمرك مني خليك سهران بلدنا برود/ والشارع غافي.. ما فيك تعود". كما غنّت فلسطين في دار الأوبرا المصرية عام 2014، في قصيدة "فلسطين لنا"، المتّحدية الاحتلال الإسرائيليّ "يا من سلامك قائم على محو الآخرين / وتعتدين وتستبيحين أرض فلسطين"، كما غنّت قصيدة محمود درويش "سقط القناع"، كذلك غنت الأغنيات الصلواتية والتراتيل المسيحيّة، على شكل قُدّاس موسيقيّ، حيثُ وظّفتها تناصًّا في سياقات اجتماعية وسياسية من أجل وطنها لبنان، كما في (يا نبع المحبّة) التي تقول فيها "وينك يا يسوع / وطنا موجوع وطنا يا ربي نسيته المحبة" و (يا طفل المغارة) حيث تناجي وتصلّي بالترميز يسوع الطفل التلحميّ، من أجل إنقاذ لبنان وإعادته إلى مجده الغابر "يا طفل المغارة وسّع المغارة / وطني بردان رجّع له الطهارة تايرجع منارة بعتم الزمان". كما يتجلى، رسمت في أغانيها صورة لبنان الحقيقي الوجيع وزمنها المعيش، وصدحت وتغنّت بجماله ومجده الغابر، كما حبّره سعيد عقل "هنا تحت كلّ ترابهْ مفاتن مجدْ هنا الله شرّع بابهْ / وضمّكِ ضمةَ وجدْ".

 

//هذه الزهرة من حديقة المطرب والملحّن حليم الرومي

يعتبر والدها الموسيقار والمطرب حليم الرومي والذي غنّت من ألحانه، ظاهرة فريدة في الموسيقى واللحن، إذ ترك ألحانًا ومعزوفات، تعبق بها الموسيقى العربية في أيامنا. عاش طفولته في فلسطين لأنّ والده الفنّان عوض الرومي – جد المطربة ماجدة، المشهور برسم الإيقونات الكنسية وكتابة اليافطات التجارية، أتى فلسطين وسكن حيفا الانتدابيّة عام 1922، بحثًا عن لقمة العيش أسوة بكثير من اللبنانيين، أمثال الطبيب الجرّاح الشهير نايف أمين حمزة (1895-1977) رئيس المستشفى الحكومي المعروف اليوم بمستشفى (رمبام)، والطبيب الشاعر قيصر سليمان خوري مؤسس "حلقة الأدب" في حيفا عام 1922، والأديب رئيف خوري (1913-1967) والشاعر وديع البستاني (1886-1954).

عمل حليم الرومي في إذاعة الشرق الأدنى مُطربًا وملحّنًا وعازف عود، وقد ورد في صحيفة (فلسطين) الأحد في 8 شباط سنة 1942 أنّه سيغنّي من راديو الشرق الأدنى أغنية "ساعة الأصيل" المنعوتة بـ (السيرانادا) وهي مناجاة الحبيب محبوبته على ضوء القمر وبين الأشجار أو على ضفافي الأنهار، بينما هي تتواجد في نافذة بيتها تطل على المحبوب الولهان. "وقد نظم الشاعر الشاب الوجداني محمود حسن اسماعيل قصيدة بهذا المعنى أسماها (ساعة الأصيل) وخص بها المطرب الشاب المحبوب الأستاذ حليم الرومي الذي لحنها أروع تلحين وسيغنيها في الساعة التاسعة والنصف من مساء اليوم (الأحد) من أمام مذياع محطة الشرق الأدنى الإذاعة العربية، ونحن ننشر هذه القصيدة الرائعة اليوم فيما يلي..."

 

//ماجدة تغنّي ماجدة

حين يكون المطرب الموهوب شاعرًا وملمًّا في اللغة والأدب ترتفع ذائقته الفنيّة ويسمو فنّه، وتشمخ صورته. هذا الكلام ينسحب على ماجدة الرومي المطربة الشاعرة، فقد صدح يراعها بعدة قصائد عاطفية ولا أبهى غنّتها بحنجرتها الفضّيّة! وهي مصكوكة من عالمها وتجربتها، تستشرف فيها المستقبل الأجمل والتحدّي وتخطّي الأزمة والامتناع عن البكاء، منها: "لا ما راح أزعل"، التي تقول فيها "ما راح ابكي ع الاطلال / باسم الماضي الحزين / الصفر اللي كان ع الشمال / راح زيدوا ع اليمين ع اليمين / لو بقي من عمري نهار/ بحلف لو شو ما صار/ حقق هالانتصار ". كما هدلت بأغنيتها المحبّرة بقلمها، "أنا عم بحلم" الحالمة بأكمام الأزاهير وسعادة الحب، والتي تصدح "انا عم بحلم ليل نهار بالوردة المليانة زرار/ تقطف باقة تشم وراقا / ويسكر بالعطر المشوار/ أنا عم بحلم / أنا عم بحلم ليليّة انت وغافي بعيني / نزلت دمعة دابت شمعة واحترقت فيك وفي / وصرنا نطفي نطفي النّار/ وما عدنا عرفنا شو صار". و "اعتزلت الغرام" المنحوتة من مقولة زوج أختها بعد رحيل زوجته وفاءً لها، و "العالم إلنا".

هذه المطربة أوبرالية الصوت، مَوْسَقَت شعراء عصرها، فقد غنّت رموز شعراء الجمالية والشّموخ والرفض، كما نجحت في غناء قصيدة النثر عند أنسي الحاج العصيّة على الغناء، وشَدَتْ بشموخ وكبرياء وبصهلة خيل، قصائد الحرية والحبّ والنّور والفرح زمن العتمة والحرب، كما حملت صوت الأنثى الجريئة الشامخة، داخل المجتمع القبليّ الشهرياريّ، في رائعة سعاد الصباح "كُن صديقي".. لها من حيفا التي عاش فيها أبوها وجدّها، تحيّة شذيّة ووردة حمراء "مليانة زرار" عددها 66 زرًّا، لترسم عيد ميلادها البهي! وليبق صوتها المشتاق إلى ميناء سلام نبع محبّة وزهرة غار، للغناء الراقي في زمن الهبوط والتفاهة!

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب