news-details

مسرحية "أنتيجوني تنتفض من جديد": توليفة مستوحاة من الأسطورة الإغريقية| د. جهينة خطيب

______________________________________

تأليف وإخراج: عفيف شليوط

تمثيل: روضة سليمان، أمجد بدر، أمير يعقوب وسها ربيع

تصميم حركة: أسيل قبطي

تصميم ملابس: رهام جريس

تصميم ديكور وإضاءة: عادل سمعان

موسيقى: الياس غروزي

إنتاج: مسرح الأفق

_______________________________________

استوحى الفنان والكاتب عفيف شليوط موضوع مسرحيته "أنتيغوني تنتفض من جديد"، من أسطورة أنتيغوني وتناص معها ليوظّفها لما يلائم عصرنا، فقد أحياها ولكن كاشفة لفجوات وعثرات في عصرنا الحالي. وتحكي الأسطورة اليونانية  القديمة أن أوديب الذي قتل أباه لا‌يوس وتزوج أمه جوكاستا أنجب من أمه أربعة أبناء: إيتيوكليس وأخاه الأ‌صغر بولينيس وبطلتنا أنتيجوني وأختها "اسمين". عندما اكتشف أوديب جريمة قتله لأ‌بيه وزواجه من أمه، تلك الجريمة التي اقترفها من دون أن يدري، فقأ عينيه وسار هائما على وجهه لكنه قبل أن يترك مدينته لعن ابنيه ودعا عليهما بأن يقتل أحدهما الآ‌خر. وتتشكل الأ‌قدار بحيث يختلف الابنان على الحكم، الذي كان من المفترض أن يتولياه مشاركة بالتناوب، إلا‌ أن الأ‌خ الأ‌كبر إيتيوكليس يتفق مع خاله كريون على طرد أخيه الأ‌صغر بولينيس مما يدفع بولينيس إلى تكوين جيش من الخارج ويحاصر مدينته محاربا أخيه وخاله ويقتتل الأ‌خوان ويقتل كل منهما الآ‌خر، ويقول سوفوكليس على لسان الكورس في نص المسرحية... هذان الأ‌خوان في الدم، من أب واحد وأم واحدة، متشابهان في الغضب... تصادما وفازا بجائزة الموت المشتركة!

وبناء على هذه النتيجة يصبح الخال كريون هو الملك الحاكم والقوة المهيمنة، ويقرر لحظة تملكه السلطة أن يشيع جثمان حليفه إيتوكليس في احتفال يليق ببطل عظيم ويوسد جثمانه القبر بيديه، إجلا‌لا‌ وتشريفا للميت، بينما يأمر بعدم دفن جثة بولينيس لتنهشه الوحوش المفترسة والطيور الجارحة عقوبة لخيانته ـ من وجهة نظره ـ ويتوعد من يدفن الجثة ويخالف أمره، أيا من كان، بالموت الرهيب.

ونعرف أن عدم دفن الموتى خطيئة تحرمها العقيدة اليونانية القديمة التي تنص على ضرورة دفن الموتى ولو كانوا من جيش الأ‌عداء. لكن الملك المتغطرس كريون، في حقده البالغ، يتعدى حدوده فيكسر عقيدة الشعب ويجور على الناس. ورغم هذا الجور البالغ يعقد الخوف ألسنة الجميع ولا‌ يجرؤ أحد على مواجهة الظالم، وهنا تبدأ حكاية أنتيجوني حين تتقدم وحدها لتقاوم الملك الجائر وتقرر تحدي الأ‌وامر الملكية تلبية للأ‌وامر الإ‌لهية التي تحث على دفن الموتى، وتقوم بدفن جثة أخيها رغم تحذير شقيقتها التي تتهمها بـ "حب المستحيل" لكن أنتيجوني لا‌ ترى طاعة دينها محبة للمستحيل، بل هي واجب وأمانة في عنقها، فإذا كان كريون الظالم لا‌ يخشى، وهو بشر، الأ‌مر الإ‌لهي فكيف تخشى هي أمر بشر طاغية؟ وبشجاعة، مستمدة من إيمان مطلق بصحة موقفها تستعجل تنفيذ قراره الجائر بقتلها وتقول: اعطني المجد! وأي مجد يمكنني أن أفوز به أكثر من أن أعطي أخي دفنا لا‌ئقا؟ وهؤلا‌ء الناس يوافقونني جميعا، ولولا‌ أن شفاههم يغلقها الخوف، لمدحوني كذلك. يا لحظ الطغاة، إنهم يملكون امتيازات القوة، القوة الفاسدة، وهي أن يرغموا الناس على قول وفعل كل ما يرضيهم!

وحين يقتاد الحراس أنتيجوني إلى حيث ينفذ فيها الحكم القاسي بالدفن حية في قبر صخري بين الأ‌موات تقول أنتيجوني لا‌ بد أن أموت، لقد عرفت ذلك كل عمري، وكيف أمنع نفسي عن هذه المعرفة... إذا كان علي أن أموت مبكرا، فإنني اعتبر ذلك مكسبا ً: فمن على الأ‌رض يعيش وسط حزن كحزني ويخفق في أن يرى موته جائزة غالية؟

ويأتي الفنان المبدع عفيف شليوط بكتابة توليفة مستوحاة من هذه الأسطورة ليكون تناصًا تحويريًا حيث لم يكتفِ بامتصاص الأسطورة واستلهام تمرد انتيغوني على الحكم الجائر، ليسلط الضوء على قضايا معيشة في حياتنا وجعل المتلقي يحاور ذاته ومجتمعه ويستنكر كل هذه المظاهر.

قام عفيف شليوط  بذكاء وإبداع مدهشين  بنسج حبكة مكونة من مشاهد درامية متنوعة وكأنها لوحات، تستغرق ساعة، ورغم قصر المدة الزمنية نجح في اختصار مظاهر كثيرة في مجتمع بتكثيف متقن وكل لوحة لمست جرحًا ما زال يئن في مجتمعنا، وبرع في جعل أنتيغوني تلك الشخصية الأسطورية هي العامل المشترك لهذه اللوحات، والتي أتت بعد آلاف السنوات لترى وضعنا كما كان والظلم والعنف لم يتغيرا بل زادت جبروت الظالم.

طرح لوحات عديدة:

- لوحة قتل المرأة على خلفية شرف العائلة:

ويأتي الفنان الكاتب عفيف شليوط بمفارقة مؤلمة تظهر هول المأساة، فالفتاة في بيتها تستحم ويأتي جارها فيغتصبها، والمفارقة هنا أن الضحية أصبحت هي  المذنبة الزانية، والشاب مقترف عملية الاغتصاب وجدوا له مبررا فقد دخل بيتها ظنا من حدوث  مكروه:

- "فدخل ابن الجيران المسكين إلى المنزل، وإذ به يسمع صوت المياه تنبعث من الحمام، فاعتقد هذا الإنسان الوديع أنّ جاره نسي إحكام إغلاق الحنفية، فأسرع إلى الحمام ليوفر على جاره الزيادة في فاتورة المياه، وإذ به يشاهد جسدًا بضًا في غاية الحسن والجمال.. فما كان  من هذا الشاب المسكين بعد أن شاهد ما شاهده إلا أن اقتحم الباب وكان ما كان".

فاستخدام صفات للشاب مثل مسكين- وديع  مفارقة جاءت لتظهر زيف المجتمع الشرقي وجوره.

لتنتفض انتيغوني:

"لم تكتفوا بالقتل، تريدون محاكمة الجثة؟ إنّه الجنون بعينه، فقدتم السيطرة على عقولكم ففقدتم كل شيء، القيم، المبادئ، المشاعر، اصبحتم وحوشًا مفترسة تبحث عن حيوانات ضعيفة ضالة لتصطادوها فتُشبعوا غرائزكم الحيوانية".

- لوحة العنف المستشري في قرانا العربية: "قتل رجل زوجته في مدينة حيفا، مدينة أم الفحم تنزف ثلاثة قتلى نتيجة إطلاق نار عليهم من أشخاص مجهولي الهوية، جريمة أخرى في الطيبة، جريمة أخرى في يافا، جريمة أخرى في شفاعمرو، في الناصرة، في جديدة المكر، في عكا، في رهط، في الطيرة، يركا، إبطن،دير حنا، الرملة، اللقية....".

لتطلق  أنتيغوني  صرختها، صرختنا: "بكفي موت موت موت، في  كل مكان، أصبح الإنسان يُقتل لأتفه الأسباب، تُقتل امرأة دون سبب، يُقتل إنسان لأنّه  أراد أن يعبر من مكان لمكان..".

لوحة هجرة الشباب هربًا من مجتمع يحطم أحلامهم فيجدون  موتهم في ترحالهم غير المحسوب: وكأن الجثة تتحدث بعد موتها "شكرًا  يا بحر لأنك استقبلتنا بدون فيزا ولا جواز سفر، شكرا للأسماك اللي راح تتقاسم لحمي ومش رح تسألني عن ديني وانتمائي السياسي، شكرًا لقنوات الأخبار اللي راح تتناقل خبر موتي لدقيقة أو أكثر شوي، شكرًا لأنكم رح تحزنوا علي لمن تسمعوا الخبر، أنا آسف لأني مت".

- لوحة الظلم والسيادة والحزبية بين البشر.

وهنا يسلط الكاتب الفنان عفيف شليوط  الضوء على ظاهرة سياسة فرق تسد المتّبعة  في مجتمعاتنا ومن التكتلات الحزبية، فعليك أن تكون تابعا لفئة ضد فئة أخرى:

-"أنت مع مين؟

- ولا مع حدا .. أنا لحالي

- أنت ليش بتتهرب من الأسئلة، من إيش خايف؟

- يا عمّي أنا لا خايف ولا إشي.. بس أنا ولا مع حدا، ليه لازم أكون مع حدا؟

- لأنّه  يا بتكون معنا يا ضدنا، ما في حل ثالث.

- بنفعش أكون معكوا التنين، أو ضدكوا التنين؟

- بنفعش، يا معنا يا ضدنا، وإذا ما كنت معنا إنت ضدنا".

أما الممثلون، فقد برعوا في أدوارهم جميعا، روضة سليمان سحرت المشاهدين، وكأن روح أنتيغوني قد احتلت جسدها، فلم نعد نسمع روضة بل أنتيغوني، وعندما كانت تصرخ كانت قلوب المشاهدين جميعا تنتفض وكأنها تصرخ صرختنا. تعابير وجهها مدهشة، رأيت في وجهها مشاعر متضاربة القوة والخوف والحب، رأيت بها منى واصف الفلسطينية، وصوتها الجهوري تخيلته صوت الفنانة المصرية القديرة سميحة أيوب "غول المسرح"رأيت في عينيها دفء الأم وجبروت المرأة حين تتمرد على ظلم لحق بها وبآخرين، رأيت  نظرة الضعف والقوة جمعت الثنائيات الضدية كلها.

والفنانون الآخرون لعبوا أدوارا متنوعة في كل لوحة، ونجحوا في الانتقال من شخصية إلى شخصية ببراعة تامة. الفنان الشاب أمجد بدر، ولعبه لعدة أدوار في اللوحات المختلفة، الرجل المسلّح،  صاحب المركب ودور  الشرير  مع إضفاء بعض المواقف الكوميدية.  

أمير يعقوب، أبكى الجمهور حين لعب دور الأخ الذي قتل أخته التي يحبها لتعرضه لضغط اجتماعي بضرورة قتل أخته، ودور الشاب الذي يئس من مجتمع محبط وآمال تموت أمام عينيه فحاول الهرب عبر البحر بهجرة غير شرعيّة وعاد جثة هامدة لتأتي انتيجوني بعبارة: حلم بعالم جديد، فلاقى حتفه في أعماق البحر.

والفنانة المبدعة سها والتي لعبت دور حبيبته ودور أخت أنتيغوني، آيسمين.

كانت الصورة متكاملة من فنانين وإضاءة ساعدت على الدخول في عالم المسرحية، وهندسة الصوت المتقنة، فكان الصوت ملائما للصورة المطروحة، فاللوحة  الأولى كانت الموسيقى موحية لأجواء رهيبة ووجود جثة الفتاة، وجاءت الإضاءة مرافقة لهذ الجو، حيث تم التسليط بشكل دائرة ضوئية في  وسط المسرح، بحيث تدخل أنتيغوني على الدائرة، ولتأتي اللوحة الثانية بموسيقى توحي بأجواء شاحبة وإضاءة خافتة وانتشار الشموع حول المكان.

والملابس التي حيكت ببراعة، وجاءت حركة الممثلين والمشاهد بانسيابية رائعة، فتوظيف حركة الفنانين نجحت في خلق أجواء جعلت المشاهد ينتقل معهم من مكان إلى آخر دون أن يشك للحظة أنه ما زال قابعا في مكان ما، بل نجحوا بنقل المشاهد إلى أحداث المسرحية ويتماهى لوجع الضحية ويصرخ من أعماق قلبه دون أن يصدر صوتًا.

مسرحية متكاملة الأركان، تأليفًا، إخراجًا تمثيلًا إضاءة موسيقى ملابس حركة، هنيئا لنا ولكم وأنصح بشدة أن توجه لجمهور عريض من بينهم طلاب الجامعات والثانوية.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب