عالم السينما لم يعد كما تعودنا عليه، هو مجرد خدعة أو تقنية من أجل خلق المتعة والانفعال المباشر في نفس المتلقي، بل تحوّل إلى أداة ووسيلة من أجل محاكاة النفس والوجدان، يبقى عالقًا ومؤثرًا في ضمير ونفسية المتلقي لكي يغوص بأعماق النفس البشرية ويترك وراءه الإرث الحضاري والثقافي والإنساني، مع كل ما يحتويه من جماليات فن التصوير وحرفية في فن التمثيل، وكيف أن الإنسان ممكن في لحظة وتوقيت معين أن يتحول إلى وحش كاسر في معركة تفرضها لحظة صراع البقاء وعشق هذه الحياة بالرغم من كل أزماتها ومشاربها الوجودية... فن السينما بحاجة إلى مساحة من الإمكانات والظروف المادية والمعنوية من أجل نقل الصورة إلى قلب وعقل المشاهد، وجعل عقله وضميره في حالة من اليقظة والتفكير بما كان وماذا سيكون من وراء هذه المتعة المستدامة، لأنها تترك بصماتها وخدوشها لما بعد انتهاء العرض.. وهذا الفيلم الذي نحن بصدد الحديث عنه يكشف الضوء على فترة قيام الكيان الأمريكي منذ بداية الحرب الأهلية، والحروب التي رافقتها في فترة حرب الإبادة لسكان أمريكا الأصليين من "الهنود الحمر". مجريات أحداث هذه الدراما إحدى الغابات الأمريكية، والتي كانت حينذاك بكرًا موطنًا للحيوانات وأسرار الطبيعة الساحرة. فرقة من تجار الفراء، فراء الحيوانات التي تعيش في هذه الغابة، وتحولت إلى مصدر ثراء وكنز وحلقة صراع من أجل الحصول على فراء حيوان القندس والثعالب والدببة، وكلها مصدر للثروة وتكديس الأرباح في صراع وجودي ما بين الرجل الأبيض الدخيل وما بين أصحاب الأرض والوطن من قبائل الهنود الحمر. تتعرض قافلة الصيد هذه لهجوم من قبل قبيلة الري الهندية من أجل سرقة ما جمعته هذه الفرقة من جلود. هجوم مفاجئ وعنيف يتعرض فيه الطرفان إلى القتل والعنف، مما يضطر فرقة صيادي الفراء إلى الهرب من المعركة بعد أن خسرت أكثر من نصف أفرادها ومعظم ما جمعته من فراء... انتكاسة يتعرضون لها مما يدفعهم إلى الهروب من ساحة المعركة بقارب إلى عالم مجهول لا يمكن أن تُحدَّد مصيرهم وجهتهم، ولكن بنهاية الأمر يتم القرار بترك القارب والهروب مشيًا عبر الغابة للوصول إلى معسكر وحصن الجيش الأمريكي. لكن جيمس يقرر الهروب وحيدًا لأن وجهته مغايرة لمن رافقه، فهو كان له زوجة هندية أحبها في خلال ترحاله وأنجب منها ابنًا، بعد أن تعرضت هي والقبيلة إلى هجوم من فرق الموت الدخيلة، قُتلت هي وقبيلتها إلا الابن الذي كان برفقة الوالد، وهو كل ما تبقى له بهذا العالم. في طريق البحث عن الابن يتعرض جيمس لهجوم من دب متوحش، ومعركة جيمس مع هذا الدب من أجمل المشاهد التي تنقل حقيقة صراع البقاء، وخاصة أنه دب كاسر يزن أضعاف وزن جيمس. لقد عانى قسوة هجوم الدب وما تركه من جراح قاسية مميتة بجسم جيمس، ولكن بنهاية الأمر يستطيع جيمس قتل الدب ويتدحرج الاثنان إلى عمق الوادي. الدب ميت وتحته جيمس يصارع البقاء حتى يصل زملاؤه برفقة الابن، وتبدأ رحلة العذاب القاسية لجيمس وهو يعاني آلام صراعه مع الدب وما تركه من آثار مدمرة تفقده القدرة على السير ومتابعة مشواره، مما اضطر رفاقه والابن إلى وضع جيمس على ناقلة عبر رحلة العبور، وقد بدأت الثلوج تتساقط. قائد المجموعة يقرر ترك جيمس ومصيره لأن وضعه الحالي لا يسمح باستمرار المجموعة في رحلة الوصول إلى الحصن، ولكن الابن يعارض وبشدة، مما يدفع قائد المجموعة إلى قتل الابن والتخلص منه ومن والده. يقتل الابن ويترك جيمس وحيدًا، ولكن وبعد أن تتحسن حالته يقرر البحث زحفًا بالغابة على جثة ابنه، ويكون له ذلك، يحتضنه ويبقى أيامًا ملاصقًا له. نقطة احتضان جيمس لجثة ابنه يحولها المخرج إلى فلاش باك لبداية عشقه لزوجته الهندية، ومدى حبه لابنه وطيبة حياته مع زوجته وابنه الوحيد.. يدفن ابنه ويقرر الزحف للبحث عن قاتل ابنه، وذروة الانتقام لا تفارق عقله وتفكيره. وبعد وصوله إلى معسكر للجيش يتعرف عليه قائد المعسكر ويقوم بعلاج جراحه، وبعد أن يسترد عافيته يحكي للقائد عما مر به من عذابات، وكيف أن قائد المجموعة قتل متعمدًا ابنه وتركه وحيدًا يزحف بالغابة. ويشرح للقائد أمنيته بالقبض على الجاني والانتقام لابنه الذي قُتل غيلة. يطلب منه القائد المكوث بالمعسكر لأنه يقرر البحث عن الجاني والقبض عليه وتقديمه للمحاكمة!! وبعد إصراره المشاركة مع القائد يخرج بصحبة القائد للبحث عن الجاني، وبعد مرور أيام من البحث يظهر الجاني ويقوم بقتل القائد، ولكنه يقرر متابعة البحث عن الجاني وحيدًا وتحقيق حلم الانتقام، وبعد معركة قاسية يتغلب على الجاني ويقوم بقتله واصطحاب جثته حتى معسكر الجيش... قصة هذا الفيلم وعملية صناعة السينما التي واكبت إنتاج هذا الفيلم تؤكد على أهمية الفن السينمائي في نقل هموم وقصص الناس من خلال عملية تجسيد واقعي لمجريات الحدث، مما يفتح المجال أمام المشاهد أن يعيش اللحظة بكل لقطة ينقلها المخرج، لأن طبيعة المهنية بالإنتاج تجعل المشاهد جزءًا مما يحدث أمامه من أفعال، لأنها تجسد حقيقة وواقعًا عاش ويعيش في ذاكرة وعقول الأجيال لكي تكون عبرة لمسيرة الذاكرة الجماعية، وهي الإرث الحضاري للشعوب من أجل متابعة مسيرة العيش والتطور على هذه الأرض. فيلم يحمل رسالة وأبعادًا واقعية لحقيقة تكوين الكيان الأمريكي من خلال حرب الإبادة والتطهير العرقي لأصحاب الأرض، الذين امتزجت دماؤهم وعرقهم بهذه الأرض، وهي تعكس حقيقة نظرة الهيمنة والاستعلاء التي ما زالت نهجًا للإدارات الأمريكية المتعاقبة حتى يومنا هذا.