المرحوم الدكتور بطرس دلّة: على المستوى الشخصيّ، برحيله فقدت أبا وأخا وصديقا ومعلّما. كان يعتبرني واحدا من أفراد أسرته، وكنت وما زلت سعيدا وفخورا بذلك. لذلك رأيت من واجبي أن أقف مع أسرته وأقاربه طيلة أيام العزاء. أحبّني وأحببته، هكذا لوجه الله وإنسانيّتنا. اطمأنّ أحدنا للآخر منذ لقائنا الأول قبل أكثر من عشرين عاما، يومها دعانا إلى بيته، مجموعة من الأصدقاء، معظمهم من الكتّاب والشعراء. جمعنا اللقاء في رحاب الفكر والأدب والمرح، وتوالت تلك اللقاءات، وفيها تطوّرت العلاقة بيننا لتصبح عائليّة أيضا. كان إنسانا مثقّفا ومحدّثا لبقا، لا تملّ من سماعه وتبادل الحديث معه. لقائي الأول به كان مع والدي (رحمه الله)، كان ذلك على ما أذكر، في منتصف ستّينات القرن الماضي، لا أذكر ما سبب ذهابنا إلى كفر ياسيف، ولكنّي أذكر جيّدا أثناء مرورنا في أحد الشوارع في مدخل كفر ياسيف تلك الأيّام، رأى أبي رجلا يقف أمام بيته، وكما يقولون" "هيبة وطول وعرض وشوارب وعباءة عجميّة بنيّة". قال لي والدي حين رآه: "هذا الأستاذ بطرس دلّة، تعال نسلّم عليه". سلمت عليه سلاما عاديّا فأنا صغير وأجهله أيضا، لكنّ أبي سلّم عليه بحرارة لفتت نظري، ثم تجاذب معه بعض الحديث على عجل واعتذر عن شرب القهوة لأنّ الوقت لا يسمح، ولا أذكر ماذا كان سبب العجلة؟ لم أتتلمذ على يديه، فدراستي الثانويّة كانت في إحدى مدارس حيفا. بعد ذلك اللقاء بدأت أسمع عنه أكثر من طلابه، إخوتي وأصدقائي من كابول، الذين تتلمذوا على يديه في مدرسة ينّي الثانوية. كان متخصّصا بتدريس التاريخ، ولكنّه كان يُدرّس اللغة العربيّة أيضا بسبب تمكّنه منها وقلّة المدرّسين في ذلك الوقت. الصّفة التي رأيتها أكثر التصاقا به وتعبيرا عنه، وأكّدتْ الأيّام لي ذلك، كانت بطرس دلّة الإنسان. كان المرحوم إنسانا يُؤمن أنّ الله خلق الكون لنا جميعا، أحبّ الناس جميعا، ولكنّه أحبّ أكثر أولئك الناس الذين يستحقّون صفة الإنسانيّة. كان مسيحيّا محبّا لدينه وملتزما به، ولكنّه لم يكن متعصّبا لأيّ دين، فقد أسّس مع بعض أصدقائه من أديان مختلفة، جمعيّة أسماها "إخوتي أنتم". حبّ الحياة والناس، كان فلسفته في الحياة، ودافعه الأول في كلّ أعماله. أحبّ الناس وأحبّه كلّ من عرفه أو سمع به. كان مُحبّا لا يعرف الكراهية ولا الحقد. لم يُعادِ أحدا ولم يكن له أعداء، ولكن طبعا لا يخلو الأمر، فبعض الذين تضاربت مصالحهم مع حزمه أو تسامحه، اعتبروه عدوّا. حتى هؤلاء لم يكرههم أو يحقد عليهم. كان متسامحا إلى أقصى درجات التسامح، يتنازل عن حقه بسهولة، ولكنّ لم يكن يتنازل عن حقّ الآخرين أبدا. كان إنسانا كريما معطاء: كريم النفس أولا، يترفّع عن صغائر الدنيا وخبائثها. وكريم اليد أيضا، فأنا أعرف أنّه دعم ماديّا ومعنويّا الكثير من الطلاب الثانويين والجامعيين، ولم يتأخر عن مساعدة أيّ طالب مساعدة. أمّا بطرس دلّة المعلّم، فقد أحبّ طلابه وأحبّوه، احترمهم واحترم مهنته، التدريس، فقد رأى فيها رسالة وليست مهنة. كان معلّما حكيما، عرف كيف يقود طلابه إلى حبّ الحياة والإنسان والأرض، وعلّمهم احترام الآخر أيضا. لم يكن يُعلّمهم التاريخ كموضوع للحفظ، بل كونه سرّ العلاقة بين الإنسان والأرض وما يدور عليها من أحداث وصراعات بين الخير والشرّ، وبين الظلم والعدل. ولم يكن يُعلّمهم اللغة العربيّة فقط، بل كونها سرّ انتمائنا القوميّ والإنسانيّ. كان يرى فيها سرّا إلهيّا ينتقل إلينا مع حليب أمّهاتنا. وأمّا بطرس دلّة المثقّف الذي عرفته عن قرب ونهلت من مخزونه الفكريّ والثقافيّ، فقد كان قارئا نهما، يأكل القليل من الطعام، ولكنّه يأكل محتوى الكتب بشراهة مفرطة. لديه مكتبة جمعت كميّة هائلة من الكتب، خاصة كتب التاريخ والأدب والثقافة عامّة. لا أستطيع أن أقول عنه إنّه مؤرّخ أو كاتب أو شاعر أو أديب أو ناقد، فقد كان ذلك كلّه، وكان موسوعة أدبيّة وتاريخيّة تمشي على الأرض. بطرس دلّة الكاتب، ترك بصمته البارزة في كتابة التاريخ والأدب بألوانه. ترك لنا كُتبا في التاريخ القديم والحديث، وكُتبا في الأدب من شعر ونثر ونقد أدبيّ، وكُتبا في الثقافة عامّة. كان مثلا يهتمّ بتراثنا الشعبيّ القديم والحديث، لذلك جمع في أحد كتبه الأخيرة، بعض قصص التراث التي تداولها العامّة. وللدلالة على سعة ثقافته وأهميّة إرثه الذي تركه لنا، يُمكننا الإشارة إلى ما قامت بلدية مدينة الطيّبة عام 2021، فقد قامت بجمع أعماله الكاملة في مجلّدين ضخمين. الأول يقع في 420 صفحة، والثاني في 574 صفحة. والجدير بالذكر أنّ بلدية مدينة الطيّبة، وزّعت المجلّدين مجّانا في حفل تكريم له أقيم في المركز الثقافي في كفر ياسيف بعد صدور المجلّدين. إنتاجه الأدبيّ، وبشكل خاصّ مقالاته في مجال النقد الأدبيّ، يملأ الصحف والمجلّات والكتب. أكثر من صحيفة ومجلّة نشرت إنتاجه، وبعض المجلّات خصّص له عددا خاصّا به وبإنتاجه. كان المرحوم ينبوعا من العلم والمعرفة، وشجرة حكمة أوراقها دائمة الخضرة، لا تصفرّ ولا تسقط، وأغصانها تنحني للريح تواضعا لا خوفا. وأخيرا، وربّما كان هذا هو سرّ حبّ الناس له وسرّ صداقتي معه واقتدائي به، كان إنسانا متواضعا إلى أبعد حدود التواضع. كان كأيّ فلاح بسيط، متشبّثا بالحياة وبالأرض، يضرب فيها عميقا كجذور الزيتون. كان يركب جرّاره ويحرث أرضه ويزرعها، يهتمّ بأشجار الزيتون المعمّرة، وبـ "النصبات"، الشتلات الصغيرة التي غرسها بيديه. وكما كان في حقل الزيتون، كان أيضا في حقل المعرفة والثقافة والأدب والنقد، متواضعا وكريما معطاء، يهتمّ بكبار الأدباء والمبدعين، ويرعى شؤون الكتّاب الصغار الناشئين، يقرأ ما يكتبونه بمتعة وتلذّذ، يستضيفهم في بيته أو يذهب إليهم في بيوتهم، يُصحّحهم بتروٍّ ولطف، ويقدّم لهم النصيحة والدعم، ويكتب عنهم ليأخذ بيدهم. ومثال آخر على تواضعه، كان في العقد الأخير من حياته بشكل خاصّ، يرفض فكرة التكريم، من كثرة ما كُرّم، لذلك في العام 2018، بذلت جهدا كبيرا لإقناعه بأن يقبل تكريمنا له، وذلك بسبب مكانته في مجتمعنا عامّة وفي اتّحادنا بشكل خاصّ. وقد أسعدني حين قال لي في النهاية: "لن أرفض لك طلبا"، وبهذا أراه قد كرّمني وكرّم اتّحادنا أيضا قبل أن نُكرّمه. وعلى ما تقدّم، من الطبيعيّ أن يشعر اتّحادنا، "الاتّحاد القطريّ للأدباء الفلسطينيّين"، بأنّنا برحيله فقدنا ركنا من أركاننا، فقدنا البطرس، الصخرة التي أسّسنا عليها اتّحادنا، فقد كان المرحوم واحدا من أكثر المتحمّسين للفكرة، ومن أوائل المؤسّسين. وهنا لا بدّ من أن أذكر مرّة أخرى، أنّه أحبّني في حياته وفي موته أيضا. ففي الفترة الأخيرة وبسبب وضعه الصّحيّ، حاول أكثر من مرّة أن يقنعني بأن أقبل تنازله عن رئاسة اتّحادنا ليفسح المجال لغيره، وأصررت على رفض طلبه، قلت له: "ستبقى رئيس اتّحادنا ما بقيتَ حيّا". وها هو كما ترون، يرحل عنّا اليوم، الثلاثاء 25/11/2025، قبل مؤتمر اتّحادنا بعشرة أيّام (السبت، 6/12/2025)، كأنّه بموته تعمّد ألّا يحرجني أمام الزملاء، فقد كنت في المؤتمر، سأطلب إعادة انتخابه رئيسا للاتّحاد. وختاما، وفي حفل التكريم الذي أقمناه له في المركز الثقافي في كفر ياسيف، يوم الخميس: 29/9/2018، كانت لي مداخلة بعنوان، "بطرس دلّة شابّ في الخامسة والثمانين". ما قلته في نهاية المداخلة، ربما يختصر تجربتي معه كأب وأخ وصديق ومعلّم. قلت فيها: "صحيح أنّنا نُكرّم عزيز الاتّحاد وشيخه، لبلوغه الخامسة والثمانين، وتقديرا لنشاطه الاجتماعي والأدبي والثقافي، ولكنّ لأصدقكم القول، واستنادا إلى تجربتي معه، وصداقتنا لعقدين أو أكثر من الزمن، لا أشعر أنّنا نكرّم شيخا، أو كهلا، بل نحن نكرّم شابّا في ريعان شبابه، شابّا يحبّ الحياة ويُحبّ من يُحبّها، ويعرف كيف يجعلك تّحبها وتتمتّع بخيراتها ومواردها، وكيف تترفّع عن خبائثها وصغائرها. لذلك، أنا لا أحدثكم عن شيخ نهلنا من تجربته وحكمته ومخزونه الأدبيّ والثقافيّ الذي لا ينضب، بل أحدثكم عن شابّ عرك الحياة وعركته مبكّرا، فبلغ كلّ هذا لأنّه عرف كيف يظلّ على امتداد الحياة، مفعما بها وبحبّها وبحبّ الناس جميعا ... تعالوا معنا في مجلس من مجالسه، أو قعدة من طيب أنسه وقعداته، وسوف تطربون لصوته وصوت رباباته، وتنهلون من ينبوع حكمته ومعلوماته، وتتفكّهون بحلوِ طُرفه وفكاهاته، وتتملّحون بملْح طعامه ومُلْحاته. وإذا سألتم الكتاب عن عطر حروفه وكلماته، والمغناطيس عن سرّ جذبه وتنويماته، والبحور عن غزارة نثره وقصيداته، والغواني عن ذوبهنَّ عشقا بغزليّاته، وأرباب الزجل عن نكهة أنغامه وقفلاته، والعازفين عن شدو عوده وكماناته، والمطربين عن سحر أغانيه وتنهيداته، سوف تخرجون من أبواب إحدى عياداته، بوصفة راقية من السحر وعلّاته. جرّبوا الوصفة وستحلفون برأس بطرس وحياته، وتغبطون بنيه وبناته، وإن أنسَ لا أنسَ أجمل هالاته.