بعد اضطراب سياسة "فرن الصّهر" التي تبنّتها إسرائيل في خمسينيّات القرن الماضي بهدف خلق هويّة يهوديّة إسرائيليّة واحدة، انتقلت السّياسة العامة في الدّولة إلى نهج التّعدّديّة الثّقافيّة القائم ظاهريًّا على الاعتراف بمكوّنات المجتمع اليهوديّ واحترام ثقافاته المختلفة بطقوسها وأعيادها وممارسة حضورها المجتمعيّ. جاء هذا التوجّه في محاولة لتقليص الفجوات بين الطّوائف اليهوديّة القادمة من مناطقَ وثقافاتٍ شتّى، وسعى إلى رسم ملامح "الإسرائيليّ" بوصفه هُويّة جامعة. لم يشمل هذا النّهج الأقليّات غير اليهوديّة، ولم تنتهج الدّولة سياسات جادّة تكفل حقوق تلك الأقلّيات المدنيّة والسّياسيّة والثّقافيّة، واكتفت بطرح برامجَ شكليّة ومنها تحت عنوان "التّعايش"، دون بلورة رؤية استراتيجيّة تُرسّخ شراكات حقيقيّة تقوم على الثّقة والاحترام المتبادل والقبول، فلم يشكّل الفلسطينيّون الباقون ضمن حدود الدّولة مركّبًا مهمًّا ضمن أولويّات المشروع الصّهيونيّ، القائم على تجميع اليهود في "وطن قوميّ". على الرّغم من إقصاء الأقلّيّات من المخطّط المجتمعيّ، فقد أسهمَ الاحتكاك اليوميّ بينها وبين الأغلبيّة اليهوديّة، في نشوء عمليّة تثاقف من خلال المعايشة المشتركة، تجلّت في تبنّي أنماط ورموز ثقافيّة متبادلة، ولغة، وتعدّديّة عفويّة واقعيّة في دائرة البقاء، في ظلّ واقع اجتماعيّ - سياسيّ يحاصر تلك الأقليّات بمخاوف وتداعيات التّهميش، رغم منحها الهُويّة الاسرائيليّة، بحيث استمرّ تعامل السّلطة معها قائمًا على الإهمال، والشّك، والخوف، والحذر، مع الاعتماد على أدوات الضّبط الأمنيّ والسّيطرة التّربويّة والثّقافيّة، وابراز تصنيفات مثل "دروز" و-"بدو" و-"عرب (بحذف متعمّد للمركّب الفلسطينيّ) - مسلمين ومسيحيّين"؛ وتلك تصنيفات تهدف إلى إعادة تشكيل الهويّات الأصليّة، وثقافاتها ورموزها بما يتلاءم مع سرديّة الدّولة ومصالحها، وبالتّالي بلورة أقليّة "عرب إسرائيل" مع كلّ التّشويه التّاريخيّ الممكن، وخلق حيّز ثقافيّ ممنهج تموّله وفق اعتباراتها وقراراتها، تحت عنوان "التّعايش"، في مناطقَ تُحدّدها دون دراسة جادّة مهنيّة أو احترام لحاجة الأقلّيات أو تطلّعاتها. /"عيد الأعياد" في حيفا، مثالًا، ما بين الحيّز الثّقافيّ والتّعايش الوهميّ! تجسيدًا لتلك السّياسات المتّبعة تجاه الأقليّات في اسرائيل، تحت عنوان "التّعايش"، يُسوَّق مهرجان "عيد الأعياد" في حيفا كفعاليّة جماهيريّة تقوم على دمج رموز ومظاهر الأعياد للدّيانات الثّلاث في فضاء احتفاليّ واحد، ليكون حدثًا ثقافيًّا وسياحيًّا مفتوحًا للجميع. انطلق مهرجان "عيد الأعياد" في حيفا لأولّ مرّة عام 1993 بمبادرة من بيت الكرمة بالتّعاون مع بلديّة حيفا، لتزامن عيد الفطر لدى المسلمين في تلك السّنة مع عيد الميلاد لدى المسيحيّين وعيد الحانوكاه لدى اليهود (الأخيران يتزامنان دائمًا في نفس الفترة)، وما زال يُقام في كلّ سنة منذ حوالي ثلاثة عقود، حتّى وإن ابتعدت مواعيد الأعياد عن بعضها البعض. منذ بداياته هدف المهرجان إلى تعزيز التّعايش والاحتفاء بتعدّد الثّقافات في المدينة، ليشكّل مساحة مشتركة تجمع سكّان المدينة على اختلاف أديانهم وهويّاتهم، وليشمل أسواقًا، وعروضًا موسيقيّة ومسرحيّة، وأنشطة للأطفال، وأكشاك بيع الأطعمة، ومعارض فنيّة، وسيرك، وجولات سياحيّة في حيّ وادي النّسناس، والحيّ الألمانيّ الّذي تطلّ عليه حدائق البهائيّين الخلّابة. رغم أن الحدث يُقدَّم على أنه احتفاء بالأعياد الثّلاثة، إلّا أنّ المشهد الفعليّ للمهرجان يُظهر "هيمنة" شبه كاملة للرّموز المسيحيّة الخاصّة بعيد الميلاد؛ من زينة وأضواء وأشجار الميلاد، إلى بابا نويل، وأسواق احتفاليّة ذات الطّابع الأوروبيّ (Christmas markets) مع ابراز واضاءة الحانوكياه (شمعدان الحانوكاه) بشكل كبير وإضافة الهلال أو الفانوس في مواقع محدّدة. هذا الاختيار البصريّ يخلق انطباعًا بأنّ جوهر المهرجان هو عيد الميلاد نفسه، ليستقطب جمهورًا أكبر لخصوصيّة رموز هذا العيد عالميًّا ومسيحيًّا، لكن أيضًا تسويقيًّا، في حين تظهر رموز باقي الأعياد كإضافات رمزيّة تُدمَج في ذات الإطار البصريّ الواحد لخلق "عيد جديد" يغيّب خصوصيّة الأعياد الأصليّة، ويغيّب بالذّات اسم عيد الميلاد، ويستبدله بمسمّى جديد. هكذا يصبح "عيد الأعياد" احتفاليّة تستند على رموز عيد الميلاد وفق الثّقافة المسيحيّة، بينما يُمحى اسم "عيد الميلاد" تدريجيًّا من ذهنيّة المجتمع ليلائم الفكر الرّافض لجوهر عيد الميلاد. التّعامل مع احتفاليّة العيد بأنّه "عيد الأعياد"، ينسجم مع شريحة مجتمعيّة ترغب بالاحتفال بالأجواء، وبمحاكاة الغرب تحت شعار "أوروبا في الجوار"، وبالاستفادة من الانتعاش التّجاريّ والاقتصاديّ المرافق لهذا الموسم، وترفض قبول عيد ميلاد السّيد المسيح رمزًا وفكرًا وعقيدة. يُروَّج المهرجان تحت عنوان "عيد الأعياد"، فيوازن حالة التّنافر الذّهنيّ - الفكريّ، والتّناقض بين خطاب "التّعايش" وسط انجذاب للأجواء الاحتفاليّة التي ترافق الميلاد، وبين رهبة الاعتراف بمرجعيّة العيد، ورفض الرّموز المسيحيّة كمعتقد، وتهميش المجتمع المسيحيّ بشكل ممنهج. بالتّالي، لا يمكن لمن يرفض المسيحيّة وينكر وجودها أن يتزيّن ويحتفل برموزها، في الوقت ذاته، لذلك توظّف تلك النّفوس التّائهة آليّات دفاعيّة نفسيّة، لإقناع الذّات والمحيط بمقولات مثل، "هذا عيد عالميّ"، "هذا العيد للجميع"، "هذا عيد بابا نويل"، "هذا عيد للأطفال"، "هذا كريسماس وليس عيدًا دينيًّا للمسيحيّين"، "هذا عيد نوفي غود (رأس السّنة الميلاديّة)"، ما ينسجم أيضًا، مع المسمّى الجديد "عيد الأعياد"، في مهرجان "التّعايش" الأكبر في حيفا، وبالتّالي خلق ثقافة جديدة في حيّز هلاميّ! ينجح المهرجان في تنشيط السّياحة الدّاخليّة والخارجيّة في مدينة حيفا، ويدعم الاقتصاد المحلّي، لكن على حساب محو التّسمية الحقيقيّة لعيد الميلاد، لتصير رموزه ومعالمه هي هويّة المسمّى الجديد "عيد الأعياد"، فيخيّل لك، للحظات، أنّ الميزان الدّيموغرافي قد اختلف لموسم واحد، وأنّه يعيش في المدينة أو حتّى في البلاد أغلبيّة مسيحيّة تحتفل في العيد، فالكلّ يزيّن، ويبيع، ويشتري، ويشارك في العروض والبرامج الّتي لا تنتهي في كلّ مكان، للعائلات والأطفال والشّباب من كلّ أطياف المجتمع، والواقع أنّ المحتفلين فعلًا بالعيد هم أقليّة صغيرة وتعود إلى حجمها الطّبيعيّ وإلى التّهميش بكلّ تداعياته، مع انتهاء موسم القوّة الشّرائيّة وموسم الوهم المبتكر للتّعايش. عيد الميلاد هو ذكرى ميلاد السّيد يسوع المسيح، وقد حدّدته الكنيسة في 25.12 تيمّنًا بعيد إله الشّمس حسب التّقليد القديم، وذلك لاعتبار مجيء السيّد المسيح نورًا وخيرًا للعالم. لهذا العيد ثقافة عميقة وحكاية مؤثّرة، التي يدركها مَن يعيش معناه، ويحتفل به، ويؤمن بصاحب العيد وبرسالته، ويختبر خصوصيّته العائليّة، خصوصًا في ليلة العيد وفي القدّاس الاحتفاليّ يوم العيد في كلّ بقاع الأرض، حتّى في المدن العالميّة الكبرى، التي تضجّ بالبرامج الاستهلاكيّة والتّسويقيّة، تبقى ليلة الميلاد ليلة عائليّة بامتياز، وهي قيمة أساسيّة في هذا العيد بالذّات، وهو ليس حدثًا سياحيًّا اقتصاديًّا يُعاد تشكيله وتسميته وفق مواقف، ورغبات انتفاعيّة وسياسيّة. يحمل عيد الميلاد أبعادًا لاهوتيّة وروحيّة تتجاوز الزّينة والاحتفالات العامّة، فإن كنّا نريد تعايشًا حقيقيًّا، فلنبدأ باحترام قداسة ما هو مقدّس للآخر، وعدم محو معالمه، وعدم تسويقه تحت أسماء بديلة لإرضاء ذائقة أغلبيّة ضيّقة فكريًّا. إنّ التّعايش الحقيقيّ لا يقوم على دمج الأعياد في قالب واحد، فكما لم تنجح سياسة "فرن الصّهر" في دمج الأعراق في قالب واحد، كذلك فإنّ التّعايش يجب أن يعتمد قبول الآخر والتّعدّدية، والتّربية على احترام خصوصيّة كلّ ثقافة وتميّزها، وكلّ عيد، وكلّ جماعة، واحترام مكانة كلّ دين بطقوسه ورموزه دون تذويب، أو تغييب، أو تهميش، أو طمس، أو هيمنة، أو سرقة ثقافيّة. التّعايش الحقيقيّ لا يقوم على تحويل الرّموز الدّينيّة إلى مجرد خلفيّة احتفاليّة، فحين يُختزل عيد الميلاد في مكوّنات تجاريّة، وتتحوّل الرّموز الدّينيّة إلى ديكور سياحيّ، وتحت مسمّى آخر، ذلك يُهمِّش معناه، ويشوّه هويّته، ويغيّب خصوصيّته، وجوهره الرّوحي وأهميته للمسيحيّين، لصالح صورة ترويجيّة عن "تعايش" لا يعكس بالضّرورة موقع وواقع المسيحيّين المحليّين أو دورهم في الحدث، ولا يعكس بالضّرورة احترام حضور ثقافتهم ضمن مجتمع تعدّديّ. "التّعايش" أو الأفضل أن نقول، "العيش المشترك" يهتمّ بتنشئة فكريّة تربويّة جريئة وموضوعيّة وواثقة، تعتمد الانكشاف على ثقافة الآخر واحترامها وتقبّلها، دون خوف، وإبراز خصوصيّتها دون ابتلاعها أو تهميشها، والاستمتاع بالتّنوع والاثراء الثّقافيّ الحاصل، الأمر الذي يعكس قوّة وثبات تلك الثّقافات، ويعكس تعايشًا يعتمد الشّراكة الحقيقيّة دون التّعالي، أو الرّفض، أو التّشويه لمفاهيم أساس لأيّ ثقافة أو معتقد أو دين، في مجتمع تعدّديّ حضاريّ ناهض. حيفا، كانون أول 2025