بداية بودي التأكيد بأنني لست ناقدًا محترفًا للأدب، ولا أطمح أن أكون، بل متذوقًا ومقدّرًا لدوره في استرجاع السياقات التاريخية والثقافية والسياسية والاجتماعية، بشكل يمكنني، كمؤرخ، من صياغة روح الفترات التاريخية التي أكتب عنها. عرفت أبا علي منذ فترة طويلة، بداية كمتابع لمقالاته وقصصه القصيرة التي نشرها في صحافة الفترة ثم أصدرها في مجموعات قصصية متعاقبة. وكان لقاؤنا الوجاهي الأول في قاهرة المعز عام 1987. كنت حينها طالب ماجستير أكتب عن حرب الاستنزاف وقد سافرت للقاهرة لإجراء مقابلات مع سياسيين وعسكريين وصحافيين مصريين كان لهم دور في هذه الحرب ومنهم الكاتب التقدمي لطفي الخولي محرر مجلة الطليعة اليسارية في حينه. جئت إلى مكتبه في دار الأهرام وقابلت هناك أبا علي وقد جاء على رأس وفد من الأدباء المحليين جاؤوا لمقابلة الخولي. تعارفنا هناك واقترح على أن انضم للوفد وبعد ذلك أجري اللقاء وهذا ما كان، وقد سررت عندما عرّف على عضوًا في الوفد على أني "مؤرخ واعد". وفي ذلك اللقاء اكتشفت بأني أمام شخص حكيم متمرس بالإضافة لكونه أديبًا بارعًا ملهمًا. فقد تهافت في البداية بعض أعضاء الوفد بمحاولات لإلقاء الكلمة باسم الوفد، ولكن "نحنحنة" ثم رمقة ثم نظرة من أبي علي كانت كافية لوضع الأمور في نصابها. بعد ذلك توالت لقاءت مشتركة في ندوات وأحداث ثقافية كثيرة، وفي العقد الأخير توطدت العلاقة كثيرًا من خلال عملنا المشترك في لجنة الوفاق الوطني، بشكل زادت وتيرة محادثتنا الهاتفية لتكون يومية، بل لأكثر من مرة في اليوم الواحد في بعض الأحيان. وإذا تركنا الأمور الشخصية جانبًا وجئنا لنتحدث عن الأديب المميز ونتاج قلمه الأخير " عين الزيتون "، نقول بأننا أمام عمل مهول، بل نقطة مفصلية في تطور الرواية العربية على المستويين المحلي والإقليمي العربي وسأثبت ذلك لاحقًا من خلال معالجة جراحية للنص. عين الزيتون هي الرواية الثالثة لمحمد علي طه، حيث كتب قبلها "سيرة بني بلوط" و"نوار العلت "، هذا إضافة لسيرته الذاتية التي جاءت تحت عنوان "نوم الغزلان". وهي بنظري الضلع المركزي في هذه الثلاثية التي تروي مسيرة شعبنا منذ ثورة 1936- 1939 حتى أيامنا هذه. وأنا اقترح أن يتم نشرها في ثلاثية على منوال ثلاثية نجيب محفوظ. وهي جديرة بذلك. وفي الخطوط العريضة يمكن القول وبشكل واضح إن عين الزيتون في موضوعها المركزي، وهي موضوع بقاء المهجرين في هذه البلاد رغم كل أهوال النكبة وويلاتها، هي الرواية الضد "كونترا " لرواية الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد ابن النحس المتشائل للمرحوم إميل حبيبي. فبطل الرواية هنا يمتلك كل مكونات الشخصية المضادة لشخصية سعيد أبي النحس والتي صوّر حبيبي عودته من التهجير ثم بقاءه بمبررات انتهازية وانفصامية قد تناسب البعض، ولكنها لا يمكن أن تكون قاعدة مفسرة لبقاء عشرات الآلاف من المقتلعين من ديارهم، وذلك كما فعل فارس رواية "عين الزيتون". وقد كانت هذه القوى التي أكتسبها البطل من رحم معاناة النكبة التي ما أحبها، بل لعنها في أكثر من مناسبة وفي أكثر من سياق مع انها حركت داخله قوى ما كان لها ان تتفجر لولا هذا الحديث الأليم الفاجع. فالنكبة بنظره قلبت الموازين الاجتماعية وشوهت مقامات الناس فقال عنها "يلعن دين النكبة كم تذل وتضيّع الأصل والفصل" (ص 29). وذلك بعد أن قال: "هل عندك يا محترم للسر مطرح ؟ أنا من عائلة خطّاب وتحولت مع النكبة من عائلة خطاب إلى عائلة الشيخ، فعائلة الصفدي، ولهذا قصة، صرنا قصصًا وحكايات. النكبة ضيعت الأصل والحسب والنسب، وضيعت البيت أيضًا". (28ص). هو يضطر لتغيير اسم العائلة درءًا لشر الخواجا عوزي "ابن العرب من الحولة " والذي يعرف أن أباه كان مجاهدًا وبأن اسمه كان على اسم رفيق سلاح له استشهد أثناء الثورة. وقد تعدّت المقابلة لهذه الرواية مع رواية الوقائع الغريبة شخصية البطل نحو فرض أبعاد جديدة للأسلوب الساخر اللاذع وأسلوب الخطاب المباشر اثناء الحوار وغير ذلك الكثير. مواقف أبطال القصة غير فارس توحي بقوة لم تكن موجودة في المتشائل، فها هي سعدية في لقائها الحاكم العسكري تفضل أن تذهب وحدها دون مرافقة فارس وتقول للحاكم العسكري بكل العزة والجبروت: "دخلتُ إلى المحكومية براس مرفوع وسالت الموظف: أين الحاكم العسكري؟ فنظر إلي شزرًا كأنه يستكثر أن تسال امرأة عربية بجرأة كهذه قال بلهجة آمرة سعادة الحاكم العسكري ،أجبته أنا سعدية وأمنح السعادة لمن أحبه". (ص 237) ننتبه هنا لتوظيف الاسم والسعادة بشكل مزدوج المعنى. تمتاز السردية على أنها تروى بأسلوب "تناوب الأصوات السردية" وذلك بغرض توسيع فضاء الذاكرة على أكثر من لسان ، وأما البطل الأساسي الذي يستحوذ على حصة الأسد من السردية، فهو على الرغم من ضحالة تعليمه كما جاء على لسانه، إلا أنه عارف لكل شيء بل مجيد لأشياء كثيرة: مرة نراه فيلسوفًا يجيد قراءة النفسيات والمعنويات وخبايا العاطفة، ومرة نراه يقلّب أمورًا لغوية كما كان في الموضوع الشقلبة والشقلوب وهو سؤال حيّره فطرحه على جالسي مقهى وجدهم يتناقشون في أمور اللغة، وقد وجدها فرصة للتقديم لسؤاله عن الشقلوب بتفسير عبارة قالها في سره: "إحنا إيش وهم بإيش وإحنا كما تعلم هي نحن الفصيحة وبإيش هي بأي شيء ". فائدة لغوية أراد أن يثري بها القارئ قبل أن يستفتي أناسًا اعتقد، أصلًا، بأنهم لا يفقهون شيئًا باللغة ولذلك استعان باسم استاذه الصفدي الذي علّمه في عين الزيتون أصول اللغة العربية. كما ونراه قارئا وشارحًا للرمزيات كما فعل في تفسير اسم عين الزيتون: "أنا يا خوي من قرية عين الزيتون. اسم جميل وشاعري. الزيتون شجرة مقدسة مذكورة في القرآن الكريم وانت تعرف قدسية الزيتون في الدين وعند شعبنا فكيف إذا كانت عينه؟ العين أغلى ما في الجسم فهي الباصرة والعين هو الوجيه والسيد وهي ينبوع الماء الذي خلق الله منه كل شيء حي والعين هو الثمين والنفيس". (ص 27). يكثر محمد علي طه من استعمال الأضداد من خلال إزالة تنافرها ليجعلها متآلفة تتعايش باطمئنان داخل النص كالمزاوجة بين العامية والفصحى في السرد والحوار أو بين الواقع والمنتحل من التفاصيل والشخصيات والمواقع والأحداث، وبين الأسلوب الروماني الحالم إلى الوصف الواقعي المجرد بفظاظة التفاصيل أحيانا (وصفه لمضاجعة حيوانات البيت من قبل البطل). فهو ابن الحيّز المكاني يعرف ويعي كل تفاصيله، ليس ككتّاب المدن والحواضر عندما يكتبون عن الأرياف (كما فعل محمد حسين هيكل في رواية زينب حين كتبها عام 1914 في باريس)، فالرواية لا تسرد حكاية القرية فقط، بل تستعيد سؤال الوجود الفلسطيني في مواجهة الاقتلاع، عبر سردية تتكئ على قوة التذكّر أكثر من توثيق الحدث. وهي، في هذا المعنى، لا تروي عن أشخاص بعينهم، بل عن جيل كامل أُقصي عن أرضه. لذا تتجاوز الشخصية بعدها الفردي لتصبح رمزًا للهوية الفلسطينية المتجذرة رغم المنفى. وهنا تتجلى براعة طه في تحويل الحكاية الشخصية إلى ملحمة وطنية، واللغة اليومية إلى خطاب إنساني شامل.