أرسلتْ له طلب صداقة على الفيسبوك. تفحصّ بروفايلها، فلم يجد ما يمنع الموافقة. شروطه متوفرة: صورة شخصية وتعريف بسيط عن النفس. لم تُظهرِ صفحتها محتوى جاذبا ولكنّه لا يبدو مريباً. فقبل الطلب، وردّت عليه بإيموجي لم يهتم بأنْ يسأل جي بي تي عن معناه. وكلٌّ مضى إلى شأنه. أسبوع مضى، فوجد رسالة منها على الماسنجر. - مساء الخير، كيفك؟ ردّ بحذر: - مساؤك بركات، في خير عميم. لم تُجبْ رحيق بسرعة، فعاد نسيم إلى عمله، يدقق النسخة الأولى من كتابه الذي دفع به إلى الناشر قبل شهر حول الصراع اللغوي باعتباره واجهة لجملة من الصراعات على الموارد. بدا العمل متقنا، وانتهى من تدقيق فصلين، وقرّر أنْ يأوي إلى فراشه، فالساعة قاربت الثالثة صباحا، وعليه أنْ يلتقي زميلا الساعة الحادية عشرة في محطة حافلات الشمال. وهو يهمُّ بعمل شت داون للحاسوب، تكّ المسانجر، نظر، فإذا هي هي: - أنا في حالة أرق شديد منذ مدة، وجفاني النوم. شجّعني حضورك النشِط أمامي على الفيس، فهل تحب أنْ نتحادث؟ تأمّل هذا الانفتاح المفاجئ، ورد: - ربما نتبادل أطراف الحديث لنصف ساعة، فقد أنهيتُ عملي للتو وكنتُ أستعد للنوم. تحرّكت النقاط الراقصة أمامه على الشاشة، وعندما هدأتْ قرأ: - نصف ساعة تكفيني، فأنا في حاجة ماسة لحديث مع شخص مريح علّه يُذهب أرقي فيطلبني النوم. رجاها أنْ تغفر له تطفّله، فيسألها عن سبب أرقها. أخذت وقتها، ربما في تدوير زوايا السؤال، وكتبتْ: - معك حق، فلم يمض على تعارفنا أسبوع، ولكني أحبّ أنْ أثق بك، فهل تعدني بالحفاظ على خصوصية محادثاتنا؟ طلبٌ كهذا لم يربكه، ولكنّ الحكاية قد تطول، فأرقها لا يجعل للوقت أهمية كبيرة عندها. وربما تكون في الواقع "عطّالة بطّالة"، بلا عمل ينظّم برنامج يومها، فتدمجه في مواويلها حتى طلوع الفجر. أخذ نفَسا عميقا ليضبط هدوءه: - أنا في الواقع لا أعرف أحدا يعرفك حتى أبوح له بشيء مما سترسلين، فهاتِ ما عندك. - خرجْتُ قبل أسبوعين من علاقة عميقة، وحالما أخلو لنفسي في المزرعة ليلا، تغزوني لقطات ومشاهد منها، بعضها يسكنها الفرح واللذة، وبعضها مؤلم يستجلب الأسى والاكتئاب. عندما قرأت بروفايلك شعرتُ بالراحة ... مثقف تخطى الستين، أتعرّف عليه ... نتحادث فيمتص أرقي. المعلومات المتاحة عنك تشي بأنك متزوج، فلن أقترح عليك علاقة جدية. ساعدني فقط في استعادة النوم، فقد ملّ صُحبتي. نظر إلى ساعته فوجدها قد تجاوزت الثالثة والنصف صباحا. - كيف يمكن أنْ أساعدك، فأنا عندي دوام وملتزم بمواعيد صباحية، وقد يروق لنا الحديث فيتضعضع برنامجي. ما رأيك أنْ نلتقي في مقهى عام، ونتحادث فيما تريدين، ونكتفي اليوم بأننا وضعنا سياقا لمحادثتنا القادمة، وتطلقي سراحي لأعانق النوم؟ - أنتم الرجال فظيعون، لا يهتم الواحد منكم إلا بنفسه. أراك تهرول إلى النوم وتترك صبية محتاجة إلى مساعدتك، وتصرّح لك بذلك. سأسجّل نقطة عليك وأتركك تمضي كما خططت، ولكنّ لقاءنا في مكان عام ما زال مبكرا حتى نعرف بعضنا أكثر. فمحادثات الفيسبوك بروفا ضرورية لإنجاح اللقاءات الوجاهية. نُكمل المرة القادمة من حيث انتهينا. سألتهم حبة زاليبلوم وأنخمد. تصبح على خير. كتب: وأنت من أهله ولم ينتظر ردّها. أغلق الماسنجر وأطفأ الخلوي. دقائق فقط وصار في عالم النيام. هاتف زميله أحمد واتفقا على تغيير مكان اللقاء من محطة حافلات الشمال إلى مقهى الشريف. طلب أحمد اللوكيشن، فرّد نسيم: قرب مكتب الحزب الشيوعي.، حيث حضرنا الأسبوع الماضي ندوة عن الموازنة وتأثيرها على الحياة المعيشية للمواطنين. - نعم، أتذكر. سأكون في عين المكان كما اتفقنا. المهم أنّ لا تتأخر فأمامنا جدول أعمال حافل لإنجاز ما علينا تمهيدا لاجتماع اللجنة الموسع الذي سيناقش دور القطاع العام في ظل التعديلات الأخيرة لنظام الموارد البشرية. تابع نسيم أعماله ونشاطاته وفق الخطة المرسومة. بحدود العاشرة مساء، تكّ الماسنجر، فقرأ: - مساء الخير. كيف كان يومك؟ لولا الحبّة إياها لما لقيتني هنا في هذا الوقت. نمت سبع ساعات. صحيت، أخذت شاور، صففت شعري في الصالون، تابعت برنامج المنوعات على إم بي سي مصر، وها أنا أمامك بكامل أناقتي. - أنا في خير عميم، وسعيد لسماع أخبارك الطيبة. بالمناسبة، كلمة رحيق لها أزيد من معنى. ما هو المعنى الذي تربطين اسمك به؟ - شايفة نفسك اليوم مفتوحة عالحكي. أنا كمان مزاجي زنجبيل. ألم تقرأ ما جاء في سورة المطففين؟ "يُسْقون من رحيق مختوم" وإنْ شاء الله تكون منهم. أنا الخمرة الصافية التي لا غُشّ فيها. - جميل جميل. قرأت هذه السورة غير مرة، ولكني لم أتوقف عند هذه الآية. إذا فهمت كلامك، أنت تعدينني بخمر الدنيا، أما خمر الآخرة فعلمه عند ربي. - حقا مزاجك عال جدا. ما رأيك، وكلانا في هذا الانتشاء، أنْ تسلّيني، والصحيح أنك قد بدات، فنتعرف على بعضنا أكثر عبر لعبة سهلة تسمى "الصراحة". يمكن أنْ يبدأها أيّ منا بسؤال لا مفرّ للأخر أن يهرب منه. أما محتوى الإجابة، فيجب أنْ يكون معقولا حتى تستمر اللعبة. إذا وافقت، يمكن أن تبدأ؟ فكر نسيم بسرعة، وبدأت أجراس الإنذار تطلق تحذيراتها بصمت. فكتب: - لعبة معقولة، لكن أنا شخصية عامة ومن يتصفح بروفايلي، يعرف عني كل ما يريد كصديق افتراضي: اسمي كاملا وعملي وصورتي وتعليمي. أما بروفايلك فلا يقدم غير اسمك مقرونا باسم عائلة معروفة وصورة شخصية ومستوى التعليم (ماجستير سياحة). - يعني كل هذه المعلومات ما بتكفي؟ اسأل شو ما بدّك. بعد شوي بتصير تقول بدّي أنام. يلا بدّي أتسلّى معك. - تمام، ابعثيلي صورة عن هويتك الشخصية، فأنا لا أعرفك ويجب أنْ أتأكد من المعلومات البسيطة التي يمكن أنْ تعرفها العامة. - هذا طلب وليس سؤالا. ألا تثق بي. أنا رحيق غير مغشوش. لا هيك زوّدتها وحرقت بنها. يلا اسأل. - قبل صورة الهوية، ما في لعب. - يعني ما بدّك أتسلى معاك. - لا أبدا. أنا ما بدّي تتسلّي عليّ. باحث وأكاديمي أردني