بطرس البستاني، أول من أسّس "المدرسة الوطنية" غير الطائفية عام 1863برز في القرن التاسع عشر عدد من المفكرين في لبنان مثل إبراهيم اليازجي، وبطرس البستاني، وأحمد فارس الشدياق، وفي حين غادر اليازجي إلى مصر، وتنقل الشدياق بين بلدان عديدة فإن بطرس البستاني بقي في لبنان، ولم يمنعه هذا من الإفادة من دعم الخديوي اسماعيل كما سيتضح لاحقا في هذه المقالة. وبطرس بن بولس البستاني، والملقـّب بـ "المعلـّم"، مولود في لبنان عام 1819، وقد نشأ في كنف عائلة أنجبت العديد من العلماء، وقد درس البستاني آداب العربية واللغات السريانية واللاتينية، والإيطالية، والعبرية، واليونانية.
وكان البستاني قد أصدر صحيفة سياسية أسبوعية باسم "نفير سوريّة"عام 1860، مستعيناً بابنه الأكبر سليم، وهي نفس السنة التي حدثت فيها الحرب الطائفية في لبنان، دعا فيها إلى الاتحاد والتعاون بين أبناء الطوائف المختلفة، وإلى ضرورة فصل الدين عن الدولة، وإحلال الشعور القومي العربي مكان التعصّب الطائفي، الذي أساسه الجهل والتخلــّـف، وأن هذا يمكن القضاء عليه عن طريق المعرفة العلمية التي تؤدّي إلى الاستنارة العقلية، وتحول دون التعصّب، فتقضي على ظواهر الجهل وتسمو بالمثل العليا.
كان البستاني أول من أسّس "المدرسة الوطنية" غير الطائفية عام 1863، والتي اهتمّت بتدريس اللغة العربية والعلوم على مبدأ وطني لا ديني، وقصدها طلبة من الشام، ومصر، والعراق، واليونان
وقد انشغل بطرس البستاني بالترجمة، ثم انصرف إلى التأليف، فألـّف معجمه الشهير "محيط المحيط" الذي صدر عام 1870، ثم ملخّصه "قطر المحيط".، وما أن انتهى من هذين المؤلــّـفين حتى شرع في وضع دائرة معارف عربية (موسوعة) على غرار النهج الأوروبي؛ ظهر منها ستة أجزاء، بدعم من الخديوي إسماعيل، وبعد وفاته في عام 1883 في بيروت، أتمَّها من بعده ابنه الأكبر سليم ثم أولاده الآخرون. فأصدروا الأجزاء 7- 11 وهذا دليل على مشروعه العروبي المبكر.
تتـّسم موسوعة بطرس البستاني بأنها أول محاولة من نوعها في الفكر العربي الحديث للتعبير عن الثقافة الإنسانية الحديثة، بلغة عربية متطوّرة في التعبير عن علوم الاقتصاد، والتجارة، والفلسفة، والطب، والفلك، والهندسة، والرياضيات، وتعير اهتماما بالغاً للغة العربية وآدابها، ولماضي العرب وتراثهم العلمي والثقافي، فضلاً عن اهتمامها بتاريخ الثقافة العالمية وشخصياتها الشهيرة. وقد أبدى البستاني اهتماماً بالغاً بالمعرفة الإنسانية الشاملة في ضوء العلم، تشبُّهاً بالموسوعيين الأوروبيين، على غرار ديديرو، وفرنسيس بيكون وغيرهما من الذين لعبوا دوراً رائداً في نهضة الغرب، وعملوا على توعية شعوبه بحقائق العصر الحديث وعلومه، وذلك بعد هدمهم مفاهيم العصور الوسطى وتجاوزها.
رافق هذا المشروع التنويري دعوة حازمة إلى تعليم المرأة قبيل منتصف القرن التاسع عشر، وقد ثبّت ذلك في خطبته التي ألقاها عام 1849. وربما لم يسبقه في ذلك إلا أسعد الخياط الذي كان قد دعا إلى تعليم المرأة قبل ذلك بعشر سنوات. وارتكز بطرس البستاني، في تدعيم أفكاره النهضوية وتحرر المرأة، إلى الدين الذي خاطب بتعاليمه المرأة والرجل؛ معاً هذه المساواة التي تنعكس فوائدها في البيت، حيث يؤدي تعليم المرأة إلى بناء جيل متعلــّم ومتمدّن بتأثير من الأمهات.
كذلك، شارك في تأسيس "الجمعية السورية" لغرض نشر العلوم ورقي الفنون بين العرب. وقد أصدرت "الجمعية السورية" عام 1852 مجلة تحمل اسمها، وأنيط بالمعلـّم بطرس البستاني مهمّة تحريرها. ثم أصدر مجلة "الجنان" وكتب معظم مقالاتها ابنه سليم البستاني، في الفترة الواقعة بين 1870 و1886. وقد أحيت مجلة "الجنان" الشعور الإقليمي بالانتماء إلى وطن سوري.
وكان من شأن النشاط الأدبي لبطرس البستاني ظهور نثر عربي حديث، بات قادراً على التعبير الدقيق عن مفاهيم الفكر العربي الحديث وإشكالياته. ونشأت حوله حلقة من الرفاق والتلاميذ أسّست للقصة والرواية العربيتين الحديثتين، وذلك عبر مجلة "الجنان" النصف شهرية التي نشرت عددا من الروايات رسمت شكلا أدبيا جديدا في حينه، وكانت رواية "زنوبيا" لمؤلفها سليم البستاني ابرز هذه الروايات
كما تضمّـنت مجلة "الجنان" أفكاراً تنويرية عكست أهمّ آراء البستاني، إذ أكـّد فيها على أهمية روح العصر، كعامل حاسم في تطوّر الشعوب والأمم. ونسب البستاني هذه الروح إلى مبادئ الثورة الفرنسية القائمة على الحرية والعدالة والمساواة، وسيطرة الحق، والنظام، والقانون.
رأى البستاني في هذا السياق أن الشرق الذي كان مزدهراً في غابر الأزمان، عندما كانت لهم مدنيّة مؤسَّسة على العلم والعدل، دانت النهضة الأوروبية الحديثة لهم في منظوماتها العلمية والأدبية والأخلاقية. ولكن عندما سقطت رغبة العلم عنهم، وذهبت حاجتهم إليها، نتيجة لعوامل كثيرة، انتقل العلم إلى أوروبا وتطوَّر فيها. وانتهت الأحوال في الشرق العربي إلى الانحطاط بسبب الحكومات الفاسدة، و تطورت أوروبا..
لذلك دعا البستاني إلى حكومات صالحة، وعادلة، ترتكز قبل كل شيء، على مراعاة مبدأ العدالة، وفصل السلطة السياسية عن السلطة الدّينيّة، وفصل السلطة القضائية والتشريعية عن السلطة التنفيذية، وتنفيذ الأشغال العامة الضرورية لخدمة الناس، وإدخال التعليم الإلزامي للجميع.
كما دعا إلى توحيد صفوف السكان، ورصّها على أساس المشاعر الوطنية. مع التأكيد على أن شعوب الشرق لا تستطيع المضيّ في طريق الرقيّ السريع إلا باستعارة الثقافة الأوروبية التي يكمن أساسها في المعارف والعمل والعدالة. وحتى يستعيد العرب دورهم الحضاري من جديد، فلا بد من أن يأخذوا من أوروبا ما هو ضروري لهم، من دون أيّ عُقد أو مركـّبات نقص تقوم على العقائد المسبقة. ولكنه رفض كلّ ما هو غربي لا يلائم الواقع العربي وثقافته..
لقد رفع البستاني شعار "حب الوطن من الإيمان" بهدف جمع كلمة الأمة، وخاصة بعد حوادث 1860 الدامية. وربما يشكل ذلك مطلبا رئيسا للعلمانية التي ما فتئت ترفع شعار "الدين لله والوطن للجميع" حتى يومنا هذا..
إضافة تعقيب