"من أول شبابي، وأنا أحمل هاي العلبة .!"..ما فارقتها ولا فارقتني أبدًا.!". كان أبي معتادًا على قول هذه العبارة، في مناسبات مختلفة، أو لأهداف مختلفة.. إما ليتفاخر بقيمة علبته من الناحيه المادية، أو ليؤكد ندرة مثيلاتها، أو لنجاحه بالاحتفاظ بها لسنوات طويلة،امتدت معظم سنوات عمره.
أو ردًا على من كان يلومه، على عدم ترك التدخين.. أو ما تُسبب له من خطر وقوعه، في قبضة دوريات الشرطة، وجنود الحكم العسكري، الذي كانوا يتصيدون أمثاله، من المدخنين- لف، وليس من علب شركة دوبك الحكومية..
كانت العلبة بحجم قبضة يده، كانت مصنوعة من الألمنيوم اللمّاع، إذا ما "هاجمها " الضوء، ردته على أعقابه أكثر قوة وسطوعًا.. وكانت دائمًا مملوءة.. مدقوقة دق..! - كما كان يقول- إما بالدخان المفروم أو بالسجائر، التي كان أبي قد لفَّها من قبل، وكان يغطّي الدُّخان بورق لفِّ السجائر..
وعندما كان يخرج من البيت، كان يخفيها في جيب "دمايته "، التي عمقها كعمق بئر سحيقة، لا يصل إليها، إلا بعد أن يمد َّ يده في داخل الجيب حتي الكوع .. وذلك خوفًا من أن يقع معها، في قبضة دوريات الشرطة أو حرس الحدود.
وكان له لقاءه مع العسكر.. لقاء مسجَّل في ذاكرة أجيال أهل بلدنا، وفي ذاكرة جيراننا، من سكان القرى المجاورة.. لقاء كاد يوصله الى السِّجن، ويجعله يدفع غرامة باهظة..
كان في طريقه الى بيته، مُحمِّلًا حماره حِمْلًا، من أوراق الدُّخان الخضراء، بعد أن قطفها من مزرعته، ليشكَّها مع عائلته في خيوط، وينشرها تحت أشعة الشمس لتجف.. وبعدها تستلمها شركة "دوبك "، وتنقلها الى المصنع.
في الطريق طلبتْ " نفسه" السيجارة، وألحَّتْ عليه، فاستجاب لها مخاطراّ في وقوعه في أيدي العسكر، الذين يجوبون الطرقات، بحثًا عن صيد.
أخرج العلبة من جيبه، فتحها وتناول منها سيجارة، وضعها في فمه، همَّ أن يمدَّ يده ليتناول القداحة ليشعلها.. وإذا بصوت، يغتال سمعه صائحًا :
" وقِّفْ وظلَّك مثل ما إنِتِ.! ".
عرف من هم.. وماذا يريدون، فأسقط السيجارة من فمه .!
تقدَّموا منه، أنزلوه عن الحمار، وصرخ به أحدهم :
" هات علبة الدُّخان.! ".
" عن أيَّة علبة تتحدَّثون.. أنا ما معي علبة.! " ردَّ عليهم بتحدٍّ لم يعرف من أين أتاه..
"لقد رأيناها بيدك، تلمع تحت أشعة الشمس.. لا تحاول الإنكار.!"
زعق به آخر مهددًا..
"أنا ما معي عِلَب..! وأنا ما بدخِّن من أصله.! " ردَّ عليه أبي ممعنًا في الإنكار.
تقدَّم واحد منهم، وفتَّش جميع جيوبه، وتحسسوا كلَّ مواطن جسمه.
كبّوا أوراق الدُّخان من الخُرج، فرَدوها على الأرض، وفتشوها ورقة ورقة، فلم يجدوا العلبة.!
فتّشوا كلَّ المنطقة التي تحيط بالحمار، فلم يجدوا للعلبة من أثر.!
فتقدَّم منه قائدهم، وبدأ يتكلَّم معه بلهجة، يختلط بها الترهيب والترغيب :
" العلبة يا صالح شفناها معاك.. مش رايحين نفلتك، إلا ما تسلِّمها.. وأنا بوعدك إن سلمتها إلنا، نطلق سراحك، بدون جزاء أو سجن..
ونسمحلك إدَّخن من دخانك لطول العمر.! ".
فتقدَّم أبي من الحمار.. مدَّ يده في أذن الحمار، وأخرج العلبة..
وسط دهشة و ذهول الجنود.!
فصاح أحدهم، والقهر يقطِّع قلبه : "يا صالح إنت إبليس.! ".
"والله شيطان من شياطين الجن، ما بتعمل عملتك.!"
أكمل قائدهم، وصوت قهقهته يملأ أرجاء المكان..
وأطلقوا سراحه، ولم يعترضوا طريقه، حتى زوال الحكم العسكري..والذي أعاد العلبة الى ذاكرتي..التقاؤنا - أنا وأبي - بالطبيب القوقاني،الذي حدثت معه حادثة أخرى، من أحداث العلبة ..
كان أبي يعاني من قرحة،عاشت في معدته عقودًا عدَّة من الزمن،استعمل وصفات، لا تعد، ولم يتردد في الذهاب الى كلِّ طبيب يسمع به، من أجل الشفاء منها، ولكن دون جدوى..
في أحد الأيام، دخل عليَّ وصاح بي:
"خُذني على طولكرم..!".
فرددت عليه مستغربا :" خير.!؟ على طول- كرم.!.".
" قالوا لي، في هناك دكتور لوجع المعدة – واحدة بواحدة.! ".
ردَّ علي بلهجة،لا تحتمل النقاش أو المعارضة..
عندما وصلنا عيادة الطبيب في طولكرم، نظرت الى اللافتة المعلَّقة، فوق باب مدخل العيادة، فكان اسمه مكتوبا عليها، كما قيل لأبي :" محمود عبد الله القوقاني..".
"قوقاني..!؟.. هاي البلد كانت مشهورة بدخانها.. كنا نأتي إليها لشرائه منها.. كان أحسن دخان في فلسطين.!".
علّق أبي بعد أن سمع اسم الطبيب، واستنتج أن أصله من قرية قاقون المهجَّرة.
وعندما جاء دور أبي، دخلنا الى العيادة، فطلب الطبيب منه ان يضطجع على السرير ليقوم بفحصه..
وما أن تمدَّد على السرير، حتى تفجَّر رنين، يصمُّ الآذان..
نظرت باتجاهه.. فإذا بعلبة أبي تسقط من جيبه، وترتطم بمصطبة الغرفة، وتتدحرج عليها، مخلِّفة هذا رنينًا قويًا أشعل المكان.!
أفاق الطبيب من الذهول،الذي أوقعه فيه رنين العلبة، وانحنى والتقطها عن الأرضيَّة، ورفعها باتجاه عيني أبي، اللتين كانتا تغوران في حرج وحياء..
وتوجه الى أبي سائلًا :
"شو هذا يا عمّي الختيار.!؟ ".
"دخّانات يا دكتور.! ".ردّ عليه أبي بلهجة، من غرق في بحر من الذنوب.
"إلبسْ وقومْ عن السرير، الله يسهِّل عليك.. أنا ما بدِّي أداويك.!".
قال الطبيب بلهجة من اتخذ قرارًا، لا رجعة فيه.
"ليش يا دكتور.!؟ " سأله أبي مستعطفًا.
"أنا ما بداوي مدخنين.!".
ردَّ الطبيب بحزم..
"وَلْ يا دكتور دخلك.!"
رد أبي بتوسل، محاولًا إثارة مشاعر شفقته.
بتوعدني أمام الله وابنك، إنك ما بدَّخن بعد هذا اليوم.! .. قال الطبيب.
"أوعدك يا دكتور أمام الله..! ردَّ أبي باستسلام.
عندما انتهى الطبيب من علاجه، قام أبي عن السرير، ورتّب ملابسه، توجه الى طاولة الطبيب، ومدَّ يده ليتناول العلبة..
"هاي العلبة بتتركها هون.. إحنا اتفقنا، أنه ما إلها استعمال بعد اليوم ! " صاح به الطبيب.
فسحب يده بسرعة، كأنه مدَّها الى نار ملتهبة.. وخرج من غرفة العيادة مسرعًا، كأنه ضُبط متلبسًا، في جريمة محاولة سرقة.. تاركًا العلبة وراءه على الطاولة..
خرج دون أن يودٍّع الطبيب.!
في الطريق.. وبعد أن ابتعدنا عن البلد.. قضيناها في صمت ثقيل.. محاولين تجنِّب ذكر، ما حدث في عيادة الطبيب،نطق أبي مخترقًا حاجز الصمت، الذي كان يفصل بيننا :
"بتعرف شو جاي على بالي.!؟".
نظرت باتجاهه معلنًا،عن استعدادي لسماع ما سيقول..
فقال وابتسامة تواقة لأمر حُرِم منه :
"آه على سيجارة، من دخان جزر قاقون.!!".
فهربت منه راجعًا الى حماية صمتي.!
(عرعرة)
إضافة تعقيب