news-details

       صُدْفة

 

كل صدفة فيها جوانب من الغرائب والعجائب، لم تكن تتوقعها، وقد تكون مؤاتية بحسب الأمنية والطلب، وقد تكون سيئة إلى أقصى حدّ، وياما أوقعت الصدفة نساءً مع رجال في وضع محرج، وطاط الخبَر والفضيحة، والخبط واللّبط والفراق والطلاق.

بحكم عملي ودوري، عليّ أن أشارك في احتفال هام، وأقدّم مداخلة حول الموضوع، وبالذات ليلة السابع من تشرين الثاني، سافرت في الحافلة العمومية المجمِّعة قِسمًا من الطريق، تقف هنا وتعرّج هناك، عشرات المحطات والوقفات، لست محشورًا في الوقت، وعليّ أن أقْطع بقية المسافة مشيًا على الأَقدام، كانت الغيوم الناعمة الرماديّة، تخيّم على الأودية والخلاّت والدروب، تكاد تلامس جَمام الأرض الرطبة بمطر الخريف المبكِّر، كان الشتاء كافيًا لتنبت بعض الحشائش الموسمية وتنتظر المزيد، القرية الوادعة المقصودة مكسوّة أيضًا بغلالة من النّدى والغمام، يلثم البيوت الهادئة، تشعّ منها أضواء خافتة في أول الليل.

الغيم كاف ليمسّد الحواكير ذات الأشكال والأحجام المختلفة، ويحبو في الأزقة الضيقة على مهله، فالنسمات هادئة تداعبه وتهدهده ببهجة، بعض البيوت مِطرفه خرجتْ عن سمت القرية القديمة الواقعة على تلة واطئة تطل على كروم الزيتون والوعر والطريق العام، حيث تمر سيارات تشع أنوارها الكاشفة من خلال الغيم بلونها الأصفر الباهت. من النادر أن تجد قرية بلا تاريخ وآثار وحكايات وأبنية قديمة، معاصِر ومغاور وحتى قلاع تحافظ على وجودها، كنّا هنا ونحن هنا. ويتسامع الناس عن قلعة النمرود البعيدة، وعن قصر شْبيب التّبعي على إحدى قمم جبل الشيخ المطلّ على الجهات الأربع بلا عوائق وحواجز، ومع ذلك قتله "بني هلال"، وناح عليه أهل بيته والرّعية:

صاحتْ ديوك العَرْش مات شْبيب!! نَحَره أبو زيد الهلالي.

ارتأى الفَرع المحلي أن تعقد الأمسية الاحتفالية في بيت واسع لأحد الاصدقاء، وليس في النادي الضيّق، وفعلاً حضر قرابة الخمسين من السكان، الطقس عذب لطيف، وضوء – لوكْس الكاز – يرتَشّ على الوجوه بمزح ونعومة، وعلى فناجين القهوة والضيافة. الليل في أوّله، ليل أسمر واسع كبير، وبدأتُ أقدّم المداخلة عن المناسبة، وشاءت الصّدف وأنا أمرّ على ذكر لينين والاشتراكية والشيوعية، وإذا بربة البيت الغائبة تعود ويقف وراءها اثنان خارج الباب، لا تظهر ملامح الوجوه، فهما في العتمة التي بدأت تعلن عن نفسها. وبلا مقدّمات، رشقتْني ربة البيت بنظرات غاضبة مقهورة وفحّت بصوت عميق مبحوح في منتهى القهر:

حِلِوْ!! شيوعية!! اتقلّع من هون!! كُلكوا انقِلعوا من وجهي...

لا أدري لماذا لمَح في فكري انّها كانت تقصد أن يسمع الشخصان المرافقان لها، وبهذا الوضوح والمباشرة، هذا ما عنّ على بالي.

كنت اول من تدحرج الى خارج البيت، بعد أن لمحت كيف انكمش وانقبض المعزّب وقد اُحرِج جدًّا، وليس من المستبعد ان تكون حبات كثيفة حارة من العَرَق قد أغرقت وجهه.

فسحتْ لي الطريق بتثاقل، وكأنني سمعت الرجلين يضحكان بتقطع وشماتة، رحت أخفش في الطريق المعتم، والحجارة والصرار تتدحرج تحت قدميّ. لحقني البعض معتذرين، بخجل شديد.

  • ولا يهمّكوا!! تحدث مثل هذه الأمور. والناس أجْناس.

ولكني قلت في سرّي، لماذا عقدتم الأمسية في هذا البيت بالذّات!!

الغيوم البيضاء المكسّرة والمكدسة المفجّمة فوق البحر، كالجبال، ما أشبه الغيم بالجبال، وهو يُحرحج فوق البحر البعيد!! لكن أشكاله تُمحى على الدّوام لتتكون من جديد، بإبداع بهيج، فيه دروب ومسارب ومرجات وتلال وقمم شاهقة، الطريق المعبّد أسود غرق وأنا أنتظر وسيلة نقل. وظلت القرية وادعة جميلة هادئة، والأضواء تشع من الشبابيك.. أما لماذا رحتُ أضحك من كل قلبي، وبصوت مرتفع، فلست أعرف السبب، هل هو رد فعل معاكس!! او لأنني رحت استعرض بعجالة ما تعرّضنا له من ملاحقات ومضايقات، ليست قليلة على كل حال، وفي اكثر من مكان ومناسبة، ولم يخلُ الأمر من ضرب جمَش على مكان الاجتماع، وقهقهات كقعقعة الضباع، يبتلعها الليل الأجوف وتذوب في تلك الأصقاع.

وتمرّ الشهور والأيام، وبحكم دوري، ها أنا في أثينا وفي حي "كِسارْياني"، في بلاد اليونان، في مناسبة كفاحية بدعوة من الحزب "الشيوعي" "كابا كابا إكْسِلو.."، لهم لغة صعبة جميلة، فنادق ومتاجر على اسم أبطالهم وحكمائهم القدامى، سقراط، أرسطو، أفلاطون، أخيل، افروديت، فوسيذون، البارثينون.. خلّدها هوميروس الشاعر العظيم في الأوذيسة والالياذة وأنشدها ذومودوك الضّرير والفنان القدير على قيثارته، مع عقَب أخيل.

وألتقي مع شاب فلسطيني من الضفة الغربية المحتلة حديثًا، والفلسطينيون يحنون إلى بعضهم أينما كانوا، ونروح نتحدث مع قنينة من "الأوزو"، بطعم العَرَق الزحْلاوي، لكنه لا يصل إلى مستواه، قد يكون لأنه من لبنان، ومن زحلة بالذات، لكل مدينة وموقع هناك تاريخ وأحداث فيها المُرّ وفيها الحلو، وها هم يغنون لزحلة:

زَحْلَه عَروس مْزيّنِه

  ومزيّنِه بِرْجالِها

ويندبون:

يا ويل زَحْلَه خَرّبَتْ

  وتْشَحَّرتْ حيطانِها

ويوصيني الرفيق الفلسطيني من الضفة المحتلّة حديثًا: لي أخت متزوجة عندكم، سلّم عليها، هي معلمة مدرسة في (...) وأرسلَ معي بعض التذكاريات من الزيتون، من القدس ونابلس والخليل، ومن اليونان، تذكاريات عن أحداث قديمة وأيقونات، ذكرني بما هو معروض في الناصرة العريقة بتاريخها المجيد وحاضرها المجيد، بأهلها النشيطين، الكرام اللطيفين.

بعد عودتي رحتُ أحمل البشائر والتذكاريات للمعلمة أخت الرفيق من الضفة المحتلة حديثًا، طلبت إذنًا من مدير المدرسة الكَهل الرّزين، أصغى إلي باحترام، وذهب بنفسه لدعوة المعلمة، يبدو أنّه قال لها: هنالك شخص يسأل عنك، فجاءت مستعجلة متسائلة.

  • التقيت مع (...) أخوكِ ...

ولدهشتي، راحت تبكي بشهقات، ودموعها على عَرْض وجهها، تضايقتُ أنا، والمدير الذي وقف جانبًا على مسافة معينة، نظر إليّ باستغراب ولوم، بأي خبرٍ مشؤوم جئت في هذا الصّباح.

  • لماذا تبكين!! هو بخير، فارقتُه قبل يومين فقط، وأرسل لك هذه الهدايا..

زاد بكاؤها بحرقة أكثر، ودموع أغْزَر، وشهقات أعمق، أردتُ ان أترك المكان بسرعة.

  • اسْتنّى!! أنا لا أبكي على أخي، فهو بخير، لكن أنت، ألا تعرفني..
  • الصحيح لأ، لم يحصل لي الشرف.
  • أنا طردتُكَ من بيتنا، يومَها، يوم...

رحتُ أبحلق فيها، وأذكر ما حدث.

  • هو انتِ
  • أنا أنا ولا أحد غيري.

نحن فقراء، ودفعت الثمن الكبير حتى سمحوا لي بأن أتزوج وأنتقل إلى هنا، وأنا معلمة مدرسة، وكل شيء عندهم بثمن، اقترب المدير وعلى وجهه دلائل الحزن والغضب والدّهشة... خفّت حدة نظراته إليّ.

ولا زلتُ ملاحقة ومهدّده، بالأُسْرة والاقامة والوظيفة، والاثنان رافقاني كشاهِدَين لأن أقول ما قلت.

  • سامِحْني خيّة، لا تواخذني.
  • إنْسي، ولا يهمِّك!!

شدّتْ على يَدي، وغادرتُ المكان، يبدو أنها ظلت تنظر إليّ هي والمدير.

أما أنا فرحتُ أحزن وأضحك وأعجب، والحياة في سوق المدينة على حالها، أصوات الباعة سيدة المكان، على سَمَك المشط والغزال والبلاميدا والسردين، وعلى الكثير من الخضار والفواكه، أناس محليون، وقرويون، وسيّاح وسائحات، جدال ومماحكة وضحك... حياة زاخرة بكلّ شيء، حياة، وصُدف، حلوة، ومرّة...

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب