كنت جالسًا أنا وطفولتي تحت شجرة الزيتون المُعمّرة في حاكورة بيتنا القروي البسيط، عندما شعرت بحركة مُريبة تخترق الصمت المخيّم حولي. سمعت استغاثة فرخ طير صغير، فالتفت إلى حيث خمّنت أنه ينبعث منه، فإذا بي أرى و يا للهول أفعى تنساب من قلب الشجرة الوارفة تحمل في فمها فرخًا غضًّا طريًا، لم ينبت له ريش بعد، يطلق زقزقات الاستغاثة، طالبًا النجدة. تجمّدت في مكاني. فكّرت في أن أرمي الافعى بحجر إلا أنني خشيت أن تتحوّل إلي وتغرس أنيابها السامّة في جسدي الصغير. انسابت الافعى مختفية بين الواح الزينكو المحيطة بالحاكورة، غابت الافعى هناك إلا أنها لم تغب عن ذهني. ترى كيف ستفتك بذلك الفرخ الصغير؟ وأي استغاثة سيطلق بعد تلك المريعة؟ بل ماذا ستقول أمه وماذا سيفعل والده عندما يفتقدانه؟ حالة من الأسى النابع من أعماق الخوف انتابتني، دون أن أعرف ماذا بإمكاني أن افعل.
وضعت أمي في منتصف النهار صحن العدس المجروش، وإلى جانبه حبّة حامض وراس بصل، وهي تقول لي:
-كلّ.. أنت تحب المجروش.
بقيت صامتًا. افتعلت أمي عدم الانتباه لما ران على الغرفة الصغيرة من صمت ابتدأ منتشرًا في أنحائها من جسدي الطفل. فعادت تُربّت على ظهر:
-ألا يعجبك الطعام؟ لو لم نكن غرباء في هذه القرية وبقينا في قريتنا.. كان اعددت لك المحمّر.. والمنسف.
تابعت صمتي.. كان ما انتابني من وجل في ساعات الصباح المبكّرة، قد تغلّغل في أعماقي. وضعت أمي يدها على جبيني، وقالت:
-حرارتك مرتفعة.. أنت يجب أن تأكل.. وتابعت: إذا لم تأكل سنضطر لأخذك إلى الحكيم.. ويلي مِن أين نأتي بالمال لندفع له؟
ارتميت في حضن أمي. لائذًا به من أنياب تلك الافعى. وتصوّرت أنني أنا من شدت عليه بأنيابها.
-أنا خائف يا أمي. قلت، فتساءلت أمي:
-ما الذي يخيفك يا مُهجة قلبي؟
عندها رويت لها ما حصل في الصباح تحت زيتونتنا المُباركة. فربّتت على ظهري مُطمئنة وروت حكاية طويلة عن الافعى.. لخصتها في النهاية بأن الافعى المجاورة لا تؤذي مستضيفيها أصحاب البيت. عندها انبريت قائلًا لها:
-لكنني رأيتها تشدّ بأنيابها على فرخ صغير.
عندها اسقط الامر من يد أمي.. وضربت كفًا بكف قائلة "والعمل.. ماذا سنعمل..."
في صبيحة اليوم التالي. شعرت بحركة هامسة في القرب من فراشي. رابني الامر فافتعلت مواصلة النوم. وسمعت أمي تحكي لأبي عن تلك الافعى اللعينة موضحةً أنها دبّت الرعب في قلبي، وأنها قد تؤذي أيَ واحدٍ منّا. فتضيف بذلك مصيبة أخرى إلى ما لحق بنا من مصائب التشريد والتهجير. عندها سمعت أبي يسألها وماذا بإمكاننا أن نفعل؟ ازدادت ملامح الحيرة في وجه أمي الجميل وقامتها الممشوقة، عندها لم يكن أمام أبي سوى أن يعدها بإيجاد الحلّ المناسب لتلك المُصيبة الرهيبة، مُشيرًا أنه سيتخذ الاجراء المناسب في ساعات المغرب.. بعد انتهاء عمله في الكوبانية اليهودية المجاورة. ومضى منطلقًا في متاهته.
بعد مغادرة أبي رحت أتساءل عما سيفعله أبي. أعرف أنه سيجد الحلّ المناسب. لكن ما هو ذلك الحلّ؟ هل سيواجه الافعى بيديه العاريتين؟ لا.. لا.. أنا لن أسمح له، وتصوّرت أن تلك الافعى ستغرس أنيابها في جسده الأعزل المسكين، وأنه سيموت ويغادر دنيانا تاركًا ايانا للمزيد من المصائب. فجُن جنوني، ورحت أنتظر المغرب متخذًا كلّ الإجراءات والاحتياطات اللازمة. أبي لن يموت. لن أسمح له بأن يغمض عينيه ويرحل منطويًا على سمّ تلك الافعى اللعينة.
عاد أبي في المساء. ارتدى "ساكتته" العتيقة. قطف قرنفلة من حوض استرخى هناك في حضن حاكورتنا. وضعها في جيب ساكتته، ووضع خطوته الأولى في الحاكورة. متوجهًا إلى الشارع المحاذي. إلى أين سيتوجّه أبي الآن؟.. وماذا سيفعل.. تراكضت الأسئلة صوبي مثل ألف فرخ أفعى وفرخ. عندها لم يكن منّي إلا أن اركض وراءه، عندما أدركته. أمسك بيدي. "لا تخف. يوم غد أو بعده لن تجد تلك الافعى مكانًا لها في حاكورتنا"، قال أبي وهو ينظر للأفق البعيد.
مضينا أنا وأبي في شوارع القرية متنقليَن من شارع إلى آخر، ومن بيدر إلى بيدر. توقّف أبي قُبالة بيت ظهرت في أسفله بقالة ملأى بالمأكولات الشهية الساحرة. اعتقدت أنه سيشتري لي منها شيئًا يخفّف عني وينسيني ما أنا فيه من قلق وخوف، إلا أنني فوجئت به ينادي صاحب البيت.. أبو جمال.. أسعد المصري. أطلّ صاحب البيت من شرفته العالية وأطلت معه بارودته. نزل إلينا حيث وقفنا في الطريق. سأل أبي عمّا أتي به إليه في بيته. فروى أبي له حكايتي مع تلك الافعى وما انتابني من جزع ورعب لوجودها في الحاكورة. عندها افترشت وجه المصري ابتسامة، "وما المطلوب منّي؟"، سأل والدي وهو يُرسل نظرة غامضة نحوي. فرد أبي أريدك أن تكمن تحت زيتونتنا.. حتى تظهر تلك الافعى، فتُطلق عليها من جفتك الفتّاك. بعدها جرى حديث بين الاثنين. حول مُقابل تلك العملية الخطرة. واتفقا على أن يقوم ذلك الصياد الشجاع بالمهمة على أكمل وجه.. وأن يريحنا من تلك الافعى.
رانت علينا.. على الشارع والدكان المفتوح بشائر الارتياح، ومضينا أنا وأبي عائدَين إلى بيتنا الخطر.. بيت الافعى الرهيبة فيما عاد صيادنا المُطهّم إلى شرفته العالية، وهو يعدنا بأن يبدأ عمليته العتيدة ابتداءً من صبيحة اليوم التالي.
في اليوم التالي.. الثالث من ظهور الافعى في محيطنا.. سمعنا طرقًا قويًا على بوابة الحاكورة. بعد قليل دخل أبو جمال وعلى كتفه جفته المُخلّص. وتوجّه من فوره إلى الحاكورة.. اتخذ موقعه تحت زيتونتنا الملغومة، وجلس هناك بانتظار انسلال تلك الملعونة ليطلق عليها رصاصة الموت. مضى الوقت. دون أن تظهر تلك الافعى. فما كان من أمي إلا أن أعدت له العدس المجروش.. الحامض وراس البصل البلدي. وقدّمتها له على طبق من قش بلادنا. تناول بطلُنا المغوار طعامه هنيئًا مريئًا. مسح فمه واستلقى بانتظار إنهاء مَهمته. مضت الأيام يومًا ينطح يومًا.. دون أن تنتهي تلك المهمة الصعبة.. الامر الذي أقلقنا جميعًا.. فالرجل يلتهم معظم ما لدينا من مأكولات. والمهمة تتواصل دون أن تجد لها حلًا.. أثارني هذا الوضع.. في اليوم السابع. كمنت وراء سياج حاكورتنا.. وفوجئت.. يا للهول.. بذلك البطل المغوار.. يلعب مع أفعى زيتونتنا ويُغدق عليها مبتسمًا ومحرّكًا شاربيه.. ماسحًا لحيته بعد تناوله ما قدّمته اليه الوالدة من مجروش.. و.. آتيًا عليه عن بكرة أبيه.
إضافة تعقيب