news-details

محمّد نفاع بين الشهرة والمحلّية والعالمية

أبدأ كلامي بسؤال مستفزّ: "كيف صار محمّد نفّاع كاتبًا عالميًا وهو الذي لا يقرأ أدبَه إلا اثنان من بيت جن وخمسةٌ من كابول وخمسةٌ من نحف؟!"وهذا السؤال الغاضب إلى حدّ الاحتقان ليس لي بطبيعة الحال، وإنما لمحمود النحفاوي وأنا أقتبسه مثل ما قاله بالضبط...ومن هو محمود النحفاوي؟

كنت أتحدّث مع طلاب الدراسات العليا في أحد مساقات الماجستير السنة الماضية عن العلاقة بين المحلية والشهرة والعالمية وأتيت بنجيب محفوظ مثالا، وقلت:

  1. إنّ محفوظ لم يكن معروفًا في العالم قبل نوبل إلا بين النخب الأكاديمية المحدودة... وإن كان مشهورًا على مستوى العالم العربي...
  2. وقلت إنّ محفوظ أديب محلّي... لم يغادر القاهرة لا في أدبه ولا في حياته إلا مرتين.حتى جائزة نوبل تسلّمتها ابنته نيابة عنه.. وكلّ رواياته تقريبًا تدور في حارات القاهرة...
  3. وقلت أيضًا رغم كلّ ما تقدّم إنّ محفوظ كاتب عالمي قبل حصوله على جائزة نوبل.... وجائزة نوبل هي ختم العالمية وليست من جوهرها ولا من أسبابها. 

ومن أدبنا الفلسطيني ذكرت محمد نفاع في نفس السياق وقلت إنّ تجربته الأدبية تشبه في بعض تفاصيلها تجربة نجيب محفوظ. فكان بين الطلاب واحد من نحف اسمه محمود فقحص وتململ في مقعده ثمّ قال برقّة نحفاوية ونعومة معروفة في طباعهم: "كيف صار محمّد نفّاع كاتبًا عالميًا وهو الذي لا يقرأ أدبَه إلا اثنان من بيت جن وخمسةٌ من كابول وخمسةٌ من نحف؟"لم يقل محمود هذا الكلام ساخرًا بل غيورًا على أدب نفاع وغاضبًا علينا نحن كيف لا نقرأ كلّ ما يكتبه هذا الكاتب المتميّز الكبير، مثلما قال!

على هذا السؤال النحفاوي الغاضب تنهض مداخلتي:الشهرة شيء، والمحلية شيء، والعالمية شيء ثالث...

 

الشهرة:

لهذا المفهوم المعقّد والخلافي ملحقات، منها: الشعبية والانتشار والرواج... وللشهرة ميزتان:

  1. الشهرة مغرية، طعمها حلو ... للأسف الشديد، بعض الأدباء والشعراء " بسكر من زبيبة" أو من حبّة عنب في أحسن الحالات.  ما يعني أنه ينتشي من كلمة مديح فيظنّ أنه صار في مصافّ الأدباء الكبار... وهؤلاء يؤثرون الشهرة على العالمية، لأنّ الشهرة مضمونة أما العالمية فمسألة أخرى تمامًا قد لا تكون إلا بعد الانتقال إلى العالم الآخر.
  2. الشهرة اعتراف مضمون ومكفول، وإن كان مؤقّتًا أو موضعيًا زائلا أو مخادعًا.

أذكّر ليست هناك علاقة عضوية ومباشرة بين الشهرة والعالمية.أدباء عالميون كبار لم يكونوا معروفين بقدر كافٍ في حياتهم حتى في أوطانهم: فرانتس كافكا التشيكي الأصل مثال جيد. لم يشتهر ولم يُترجم إلا بعد موته. عالمية محمود درويش غير قائمة على كونه معروفًا بالأساس بل لأنه استطاع أن ينقل قضاياه المحلية إلى العالم بأساليب يفهمها العالم. وشهرته بين الناس مؤسّسة على بعض القصائد، ومن أبرزها قصيدته"إلى أمي". وقد ظلّت هذه القصيدة تلاحقه كاللعنة أينما حلّ وارتحل.سميح القاسم كان معروفًا جماهيريًا بقصيدة "منتصب القامة"و"الانتفاضة"...لنعد إلى نجيب محفوظ اسمعوا كيف يفرّق بين العالمية وبين الشهرة في العالم في كلمة شكرَ فيها القائمين على جائزة نوبل:"أخبرنى مندوبُ جريدةٍ أجنبية فى القاهرة بأنّ لحظة إعلان اسمى مقرونًا بالجائزة سادها الصمت، وتساءل كثيرون عمّن أكون، فاسمحوا لى أن أقدّم لكم نفسى...".

من أبرز معايير الشهرة أو الرواج الحاضرة بنسب مختلفة في حالة محمد نفاع:

  1. منهاج التعليم. بعض قصصه تُدرّس منذ عقود في المرحلة الثانوية، وليس هناك شاب تخرّج من المرحلة الثانوية لا يعرف محمد نفاع. وعلاوة على ذلك، يحرص محمد نفاع، بقدر ما تسمح صحّته بذلك، على مرافقة مجموعات كبيرة من الطلاب إلى المواقع الجغرافية التي تشكّلت منها بعض قصصه.
  2. الترجمة. استطاع محمد نفاع، بفضل الترجمة إلى العديد من اللغات، أن يقتحم بعض الجامعات الغربية. وأنا أعلم ذلك علم يقين من مصدره الأول. 
  3. الندوات والأيام الدراسية واللقاءات مع الكاتب. لا شكّ في أنّ هذه النشاطات تساهم بقوّة في ترسيخ حضوره في الذاكرة العامة، بالإضافة إلى كونها شهادة تقدير لحضوره المتميّز في الفضاء الأدبي الفلسطيني.
  4. النقد في الصحافة العامة والأبحاث الأكاديمية. لا أعرف إلا قلّة قليلة جدًا من كتابنا وشعرائنا الفلسطينيين في الداخل حظيت باحتفاء الباحثين والنقّاد بصفة بارزة: محمود درويش، سميح القاسم، إميل حبيبي، ومحمد نفاع. لا أذكر رواية فلسطينية كُتب عنها كلّ هذا العدد من المقالات والدراسات أكثر من "فاطمة". وقلت أكثر من مرّة، كُتبت عن محمد نفاع أطروحة دكتوراة، وتُكتب الآن أطروحة أخرى بالإضافة إلى أطروحة ماجستير تُكتب عن لغته في جامعة حيفا. وأنا أعرف أطروحات أخرى كُتبت في جامعات أخرى.  

تجدر الإشارة إلى أنّ مفهوم الإقليمية في الأدب (أعني الرواج على مستوى العالم العربي) في تراجع سريع ومستمرّ. فصار كلّ باحث يُعنى بأدبه الوطني الموضعي، فالباحث أو الناقد المصري يُعنى بالأدب المصري، والسوري بالسوري، والعراقي بالعراقي والفلسطيني بالفلسطيني... وهكذا. وقد بدأت هذه الظاهرة المقيتة بالظهور منذ السبعينيّات من القرن الماضي بعد انهيار الفكر القومي ورحيل جمال عبد الناصر. فصرنا نعاني من تبعات التشظّي القومي والوطني  والفكري في المجال الأدبي أيضًا. لم يعد الحديث عن "أدب عربي"بل صار عن"آداب عربية"،وصار كلّ ناقد أو دارس يتراجع إلى حدود أدبه الوطني لا يُعنى إلا به.

 

المحلّية:

المحلية هي ترجمة لمفهوم سارتر والوجوديين عمومًا حول التورّط الإرادي اللاإرادي بالواقع الذي ينتمي إليه الكاتب.المحلية أساس العالمية، وعلى أساس هذه المعادلة حظي من حظي بجائزة نوبل للأدب وأول من يعنينا بينهم هو نجيب محفوظ.  يقول نجيب محفوظ في كلمة يشكر فيها الأكاديمية السويدية ولجنة نوبل:

"ولعلكم تتساءلون: هذا الرجلُ القادمُ من العالم الثالث كيف وجد من فراغ البال ما أتاح له أن يكتبَ القصص؟ وهو تساؤلٌ في محلّه.فأنا قادمٌ من عالم ينوء بالديون، ينوء بالفقر والمجاعة والنّبذ والحرمان من أيّ حقّ من حقوق الإنسان في عصر حقوق الإنسان! أجل كيف وجد الرجلُ القادم من العالم الثالث فراغ البال ليكتب قصصًا؟ ... في هذه اللحظة من تاريخ الحضارة لا يعقل ولا يقبل أن تتلاشى أنّات البشر في الفراغ... اليوم يجب أن تقاس عظمة أيّ قائد متحضّر بمقدار شمول نظرته وشعوره بالمسؤولية نحو البشرية جميعًا.‏‏..".

نجيب محفوظ يؤكّد بهذا الكلام التصاقه بواقعه والتزامه به. محمد نفاع غارق في شؤونه وفي محلّيته مثلما غرق محفوظ في القاهرة وإدريس في الطبقات المسحوقة في مصر... أذكر فقط بأنّ محمود درويش مثلا في المرحلة الشعرية الأخيرة، التي بدأت مع مجموعته "لماذا تركت الحصان وحيدًا (1995) ووصلت إلى مجموعته الأخيرة "لا تعتذر عمّا فعلت" (2008)، لم يطلّق المسألة الفلسطينية وتبعاتها. وإنما استطاع أن يترجم القضية الفلسطينية بتضاريسها التاريخية والجغرافية والإنسانية إلى حالة إنسانية عامة. معنى ذلك أنه أول من سعى إلى تدويل القضية وأنسنتها  شعريًا أي تحويلها إلى استعارة إنسانية عامة تنتظم في قيم عابرة للزمان والجغرافيا. 

وهذا بالضبط ما يفعله محمد نفاع. . . قلت أكثر من مرّة إنّ محمد نفاع استطاع أن يجعل من بيت جن بأهلها وناسها بلغتها وعاداتها بجمالها وقبحها في مركز العالم، ليس كقطعة جغرافية أو تاريخية بقدر ما هي منظومة من القيم الإنسانية والأخلاقيات العامة بحلوها ومرّها... 

 

العالمية:

الشهرة ليست أساسًا للعالمية... المحلّية هي أساس للعالمية إن كانت تنهض على صدق التجربة... وهذا الصدق كافٍ لتحويل التجربة العينية المحلية إلى فكرة عامة..نجيب محفوظ في كلمته التي اقتبست بعضها يربط بوضوح بين المحلية والعالمية، التي يسمّيها هو الإنسانية، ويجعل هذه شرطًا قبليًا لتلك.أن تكون عالميًا يعني أن تكتب فيما يعني العالم والإنسانية بصفة عامة. محمد نفاع دخل إلى العالم والإنسانية من ثلاثة أبواب كبرى:

  1. الكتابة عن طبيعة بيت جن هي كتابة عن كلّ طبيعة فلسطين، هي كتابة عن طبيعية العالم بأسره... انظروا كيف صارت الكتابة العينية في مسألة الأدب الأخضر (Eco/Green Literature) هو موجة عالمية حديثة في الأدب العالمي من أقصاه إلى أقصاه. والعالم قد لا يعلم أنّ نفاع مخلص لهذا التيّار بالفطرة السليمة قبل ولادته في الغرب والذي يقيمون حوله ضجّة كبرى في العالم اليوم. محمد نفاع جاء من المحلية وصدرها إلى العالم فتآلفت مع الفكر الأخضر الذي يلقى رواجًا بارزًا في العالم على كلّ المستويات: الأدب والسياسة والاقتصاد. وكنت قد نشرت مقالا سريعًا حول هذا الموضوع...
  2. الكتابة عن الطبقات... قيمة بعض الأدباء الفلسطينيين تظهر في قدرتهم على تحويل القضية العينية إلى قضية إنسانية عالمية. وما فعله نفاع في اهتمامه بالطبقات كان معاكسًا في المسار. محمد نفاع جاء من العالمية بأفكار، دان بها قسم كبير من العالم، ومثّل لها من محلّيته فصدّرها من جديد في حزمة فكرية تطبيقية. اهتمامه بالطبقات كفكرة عالمية معروفة وقديمة مثلا جعله يبحث في هذه الفكرة مثلما تنعكس في قريته. فأعاد الفكرة إلى العالم بكتاباته ملفوفة بالتطبيق والتمثيلات العينية.

3) الكتابة عن الهمّ الفلسطيني هي كتابة عن فكرة إنسانية عامة تُفيد منها التجربة الإنسانية بصفة عامة وتتحمّل تبعاتها... وما أعنيه هو الارتقاء بالحدث إلى مستوى الفكرة، ترجمة الخاص إلى عام، تحويل التاريخ الموصول بزمان ومكان محدّدين إلى فعل حضاري،مثلما فعل درويش في مرحلته الشعرية الأخيرة.

لهذه الأسباب سيذكر العالم لأديبنا الكبير بحقّ، محمد نفاع، هذه المساهمة الجادّة في الهمّ العالمي ولو بعد حين، يرونه بعيدًا ونراه أقرب من مدّ البصر.

 

* نصّ المداخلة التي ألقاها إبراهيم طه في ندوة تكريم الأديب محمد نفاع في النادي الثقافي الأرثوذوكسي في حيفا بتاريخ 12. 9. 2019

 

الشهرة ليست أساسًا للعالمية... المحلّية هي أساس للعالمية إن كانت تنهض على صدق التجربة... وهذا الصدق كافٍ لتحويل التجربة العينية المحلية إلى فكرة عامة..نجيب محفوظ في كلمته التي اقتبست بعضها يربط بوضوح بين المحلية والعالمية، التي يسمّيها هو الإنسانية، ويجعل هذه شرطًا قبليًا لتلك.أن تكون عالميًا يعني أن تكتب فيما يعني العالم والإنسانية بصفة عامة. ومحمد نفاع دخل إلى العالم والإنسانية من ثلاثة أبواب كبرى

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب