news-details

هلِ اكتملتِ الدّائرة؟

أخذتْني خُطايَ إليها كما يأخذُ المجرى الماءَ، والسّماءُ غائمةٌ، والغيومُ ماطرةٌ، والمطرُ رفيقُ خُطايَ. لم أدرِ أنّها قصدُ الخُطى، كانت خُطايَ تتدفّقُ في مجرى الطّريقِ، وكانَ المطرُ المتساقطُ حبّةً حبّةً يُهرولُ نحوَ غايتِهِ، جاريًا على عادتِهِ، يلتوي بِهِ الطّريقُ كخصرِ بلادي يتلوّى في رقصةِ الطّيرِ الذّبيح.

     تستسلمُ قدمايَ لعزمِ القَصدِ في صدري، ووضوحِ الطّريقِ في عينَيَّ، كما يستسلمُ الماءُ لمجراهُ، يأخذُهُ إلى غايةِ مُبتغاهُ، يَصُبُّ في قلبِ البحرِ، يذوبُ في مائِهِ مُستملحًا عذوبتَه، مُستعذبًا ملوحتَه، يمتزجُ الحبيبُ بمحبوبِهِ بنفسجًا يصبغُ وجهَ البحرِ ووجهَ السّماءِ.

     مَجرى خطايَ رحلةٌ عريضةٌ طويلةٌ، خِلتُها أَبعدتْني عنكِ وأَبقتْني في ثنايا الدّروب، فإِذْ باندفاعي يَرتمي في حضنِكِ، فعدْتُ مِنْ حيثُ بَخَّرتْني الشّمسُ قطرةً قطرةً إلى حيثُ تساقطَ المطرُ حبّةً حبَّةً؛ وكأنّي بأبي تمّام ينطقُ بلساني:

نَقِّلْ فؤادَكَ حيثُ شِئْتَ مِنَ الهوى        ما الحُبُّ إلّا للحبيبِ الأوّلِ

كَمْ مَنزِلٍ في الأرضِ يألَفُهُ الفَتى                  وحَنينُهُ دَومًا لأوَّلِ منزلِ

     في عام 1979، عندما بدأتْ إدارةُ مجلسِ كفرياسيف المحلّيِّ الجبهويّةِ، وهي حديثةُ العهدِ، ببناءِ غرفِكِ الجديدةِ، وقاعةِ مكتبتِكِ، في عطلةِ الصّيفِ، قَضينا شهرَيِ العطلةِ بالعملِ التّبرّعيِّ، رفعنا رملَكِ دلوًا دلوًا، ونقلْنا بلاطَكِ بلاطةً بلاطةً، ودشّنّاكِ في الصّفِّ التّاسعِ، في الأوّلِ مِنْ أيلولَ طالبًا طالبًا. وكانتِ الابتسامةُ، المتفائلةُ، المُتحدّيةُ لطيّبِ الذّكرِ، الرَّفيقُ، القائدُ، الرّاحلُ، نمر مرقس تنيرُ لنا الطّريقَ.  

     قالَ لي والدي العزيزُ، الكريمُ، طويلُ العمرِ، أحمد نايف الحاج: لقد تخرّجتُ منها ضمنَ أوَّلِ فوجٍ عامَ 1953/1954، وعُدْتُ إليها مُعلِّمًا عامَ 1958، وعلّمْتُ فيها حتى عامِ 1996، حيثُ خرجتُ إلى التّقاعدِ، والفضلُ كلُّ الفضلِ يعودُ إلى القائدِ، بعيدِ البصرِ وعميقِ البصيرةِ، خالدِ الذّكرِ، يني قسطندي يني.

     لقد علّمَني والدي فيها، كما علّمَ إخوتي وأخواتي جميعًا، وها أنا، وبعدَ سفرٍ طويلٍ في رحلةِ العمرِ، ينتهي مَجرايَ في بحرِكِ المُتَّسعِ للجيلِ الواحدِ والسّبعينِ، ويداهُ لا تزالا مفتوحتَيْنِ لاحتضانِ المزيدِ والمزيدِ مِنَ الأبناءِ. أعودُ إليكِ مُعَلّمًا مشحونًا بالطّاقةِ التّعليميّة والتّربويةِ لردِّ بعضِ الجميل.

     في مكتبَتِكِ تثقّفتُ على أدبِ إميل حبيبي، توفيق زيّاد، سميح القاسم، محمود درويش، غسّان كنفاني، إبراهيم طوقان، عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، عبد الرّحيم محمود، حسين مهنّا، محمّد نفّاع، محمّد علي طه، فدوى طوقان، سالم جبران، راشد حسين، معين بسيسو، طه محمّد علي، حنّا أبو حنّا ...، فيكِ تبلورتْ شخصيّتي، وتكوّنَتْ ثقافتي، ومنكِ انطلقَتْ رحلتي إلى ربوعِ وطني، إلى أرجاءِ عالمي وإلى فضاءِ قصيدتي.

     مسارٌ دائريٌّ يعود بي إلى رحمِها الثّقافيّ، بقلبٍ يفيضُ بالحبِّ والتّقديرِ والوفاء، يقطرُ بالامتنانِ والإخلاصِ وعميقِ الانتماءِ. بدايتي فيكِ كانتْ، فهلْ تكونُ نهايتي فيكِ، يا مدرسةَ "يني" الثّانويّة الغالية؟!

(كفرياسيف)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب