لطالما رافقت الاعتبارات السياسية حروب إسرائيل وتسوياتها السياسية. إلا أن الحرب الأخيرة حطّمت أرقامًا قياسية في هذا السياق. فالثقل غير المسبوق للاعتبارات السياسية لا يؤثر فقط في تحديد الأهداف، والسياسات المتَّبعة، ومدة المعركة، بل أيضًا في القدرة على التمييز بين الأعداء والأصدقاء. وكما هو الحال دائمًا، تتجلى الفجوات أساسًا في القضية الفلسطينية، المتجذّرة في عمق الخطاب السياسي الإسرائيلي والمشبعة برؤى أيديولوجية، وأقلّ في المجالات التي يسودها إجماع، مثل المواجهة مع حزب الله وإيران. في ظل غياب استراتيجية منظّمة، يُعرَّف كل من ينتقد إسرائيل تلقائيًا كعدو، وكل من يعارض منتقديها، حتى دون صلة مباشرة بإسرائيل، يتحوّل إلى صديق. وهكذا، فإن من اعترف في سبتمبر الماضي بدولة فلسطينية يُشتبه به تلقائيًا باعتباره معاديًا للسامية أو خاضعًا للإسلام (ولا سيما دول أوروبا)، في حين يُعدّ كل طرف يعارض منتقدي إسرائيل حليفًا. إنها سياسة تفتقر إلى الاتساق والبوصلة الواضحة، وغالبًا ما تُحدَّد وفق احتياجات لحظية أو بصورة اعتباطية. في هذا المناخ المشوَّش والمليء بالتناقضات، تُعرَّف قطر كدولة "معقّدة"، وبعد وقت قصير تُنفَّذ ضربة على أراضيها؛ ويُوصم بايدن، الذي أنقذ إسرائيل في مطلع الحرب من مواجهة متعددة الجبهات عبر تحذيرات حادّة لإيران وحزب الله، بالعداء؛ كما تُقام علاقات بين جهات في الحكومة الإسرائيلية ومنظمات يمين متطرف في أوروبا، من دون تمحيص يُذكر في عقائدها وماضيها. تتحرك حكومة إسرائيل فعليًا في هامش مناورة ضيّق، محصور بين تهديدات "الصهيونية الدينية" و"عوتسما يهوديت"، وبين الخطوط الحمراء التي تضعها واشنطن. وبدلًا من تبنّي مفهوم أمني متماسك ومحدَّث يستند إلى تحقيق نقدي معمّق في أحداث 7 أكتوبر، يسود نمط "إدارة" يعتمد على استخدام القوة واحتلال الأراضي، مع السخرية ممن يطالبون باستراتيجية، وتقديم الخطوات المتَّخذة باعتبارها تعبيرًا عن "صحوة". نتيجة لذلك، تبدو إسرائيل عاملًا عنيدًا، غارقًا في أوهام، يخرج عن توازنه ويُلحق الضرر بنفسه، كما تجلّى في الهجوم على قطر. وتتضح هذه الرؤية في غزة، حيث تطالب إسرائيل بحلّ طوباوي يتمثل في حكم لا هو للسلطة الفلسطينية ولا لحماس، مع نزع سلاح كامل و"إزالة تطرف". والنتيجة هي تقليص مكانة إسرائيل في صياغة "اليوم التالي"، كما ظهر في عدم دعوتها إلى الاجتماع الذي عقده ويتكوف بشأن القوة متعددة الجنسيات في القطاع، والذي شارك فيه مسؤولون كبار من تركيا وقطر، وهما دولتان لا ترغب إسرائيل في أن تكون لهما تأثير في المنطقة. ويأتي ذلك على خلفية استمرار تلميحات تركية بشأن الرغبة في التواجد في غزة، وغياب توضيح أمريكي في هذا الشأن. الفراغ الذي نشأ في المكان الذي كان يفترض أن تكون فيه استراتيجية، يملؤه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يتخذ قرارات عديدة نيابة عن إسرائيل، ولا سيما في الشأن الفلسطيني. ففي غزة برز قراره بإنهاء الحرب رغم أن رد حماس لم يتطابق مع مطالبه ومطالب إسرائيل؛ وإصراره على الحفاظ على وقف إطلاق النار رغم الانتهاكات المتواصلة من جانب حماس؛ وضغطه للانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق رغم الفجوات العميقة (رفض حماس نزع سلاحها وعدم إعادتها جثمان الرهينة ران جويلي)؛ وعلامة الاستفهام التي تركها بعد تصفية رائد سعد، بشأن إمكانية أن تتمكن إسرائيل من اتخاذ خطوات مشابهة في المستقبل. في الضفة الغربية، برز الرفض القاطع الذي أبداه ترامب تجاه المتمسكين بالتصوّر الجديد القائل إن الرئيس الأميركي سيسمح لإسرائيل بضمّ أراضٍ في الضفة؛ إلى جانب إدراج مصطلح "دولة فلسطينية" في القرار الذي مرّره مؤخرًا في الأمم المتحدة؛ وموافقته على بيع طائرات F-35 للسعودية حتى دون موافقتها على التطبيع مع إسرائيل، الذي اشترطت تنفيذه من دون نقاش في القضية الفلسطينية. في الخلفية، تبرز قضايا إضافية تُظهر الفجوات بين القدس (بحسب الكاتب) وواشنطن: الضغط من أجل دفع تسويات في سوريا (وتجنّب الهجمات على نظام الشرع)، وكذلك في لبنان؛ تعاظم العلاقة بين ترامب وأردوغان؛ وتوقيع اتفاق دفاع استراتيجي مع قطر بعد وقت قصير من الهجوم الإسرائيلي الفاشل في الدوحة (إضافة إلى إجبار نتنياهو على تقديم اعتذار). وعلى الرغم من تعداد هذه الفجوات المقلقة، يروّج مسؤولون في إسرائيل لادعاء غريب مفاده أن وضعها الاستراتيجي الدولي ممتاز، وأن الانتقادات "مجرد حقد". يتجلى الخلل في آلية التمييز بين الصديق والعدو في العداء المتنامي تجاه مصر، ذي المصادر الغامضة والمريبة، والمصحوب بادعاءات من جهات في الائتلاف بأن القاهرة تخطط لهجوم ضد إسرائيل. وهنا أيضًا يتدخل ترامب لفرض خطوات على إسرائيل في حالات يرى فيها أنها تضر بمصالحها وبمصالحه هو أيضًا. وفي هذا السياق، تبرز القمة التي يخطط لها قريبًا بين نتنياهو وعبد الفتاح السيسي (والتي كان ينبغي، في وضع طبيعي، أن تشكّل مصلحة إسرائيلية واضحة)، ولتحقيق ذلك دفع ترامب نتنياهو إلى توقيع اتفاق الغاز مع المصريين. إن مقولة الراحل هنري كيسنجر، التي قال فيها إن إسرائيل لا تمتلك سياسة خارجية بل سياسة داخلية فقط، صحيحة في جوهرها، لكن ما يجري منذ 7 أكتوبر هو تصعيد مقلق لهذه الظاهرة القديمة، يسبب ضررًا استراتيجيًا ويمس بصورة إسرائيل كدولة تُدار وفق استراتيجية منظمة وحسن تقدير. فالقيادة التي تصر على عدم التحقيق في الماضي، تبنّت نهجًا مضادًا استفزازيًا مفاده أنها على حق دائمًا تقريبًا، وأن أي انتقاد لها نابع من دوافع سياسية — وهو ما يخلق دورة تدميرية من نشوء تصوّرات جديدة تعد بمزيد من الأضرار. وفي هذا السياق، يجدر التذكير بمقولة أخرى ذات صلة لكيسنجر: "الخطوات التي تبدو ضرورية في لحظة معينة، تصبح خطِرة إذا تم اتباعها لفترة طويلة". د. ميخائيل ميلشتاين رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز ديان – جامعة تل أبيب