news-details

"وأَخُو الجَهَالَةِ فِيْ الشَّقَاوةِ يَنْعَمُ"| هادي زاهر

كنت عائدًا من رحلتي، منغمسًا بالبشر، وصلت إلى دالية الكرمل الحبيبة عن طريق "أم الزينات"، وقررت أن أسلك الطريق الالتفافي للوصول إلى قريتي عسفيا، وعند وصولي إلى منتصف المنحدر تبدلت مشاعري كليًا.. اسودت الدنيا في ناظري، وتحوّل سروري إلى حنق.. ازداد خفقان قلبي، أردت الحفاظ على صلابتي إلا أن دمعة وثبت على خدي، وكانت كواسر السرعة (المطبات) ترفع بالسيارة قليلًا وتنزلها، فأسمع ضربًا في جمجمتي، ورحت أسأل نفسي:

أوصل بنا الوضع إلى هذا الحد؟! ما الذي جرى لنا.. هل نحن لم نعد نحن.. رحماك يا الهي.. أوقف هذا الانهيار الذي يأخذنا إلى الحضيض.. أهلنا لا يفقهون خطورة تصرفاتهم، كان في منتصف الانحدار هناك شارع فرعي يحمل اسم "مناحم بيغن"، وبيغن هذا ديماغوجي كان يتمتع بإتقانه للخطابة ولديه قدرة بالغة على التلاعب بمشاعر مستمعيه وكان قد زار طيرة الكرمل وخطب في حشد شعبي كان ينتظره، قال بلهجة حزينة وهو يشير بيده: "انظروا إلى أعلى، ان الدروز يسكنون في أعالي الجبل، بينما نسكن نحن اليهود في الأسفل"، ثم واصل حديثه بلهجة باكية: "لا يمكن لهذا أن يستمر، الأغيار فوق وشعب الله المختار تحت"، متناسيًا بأن هذه الأرض ليست أرضه، وأنه كالعقرب المخلوق الوحيد  الذي لا يبني لنفسه بيتًا وإنما يأتي غازيًا، يطرد صاحب البيت ويستوطنه وهو يطمح بتهجير الجميع من بيوتهم. 

 ونحن يا سبحان الله نطلق على شوارعنا أسماء من يتمنى لنا الشر، ذلك اعتقادًا منا بان ذلك سيسهل امورنا، وفي الحقيقة، التجارب تثبت العكس تمامًا، تثبت بأن التملق يقودنا إلى أن يستهتروا بنا أكثر، والمؤسف أن الكثيرين ينظرون إليهم وكأنهم مثلنا الأعلى، ويا للعجب، نطلق على أولادنا أسماءهم ايضًا؟! نتنكر لتراثنا العريق ظنًا منا بأن ذلك رجعية؟! تنكرنا لدورنا البطولي القومي في التاريخ العربي بعد أن نجحت الصهيونية في غسل دماغ الكثير من أهلنا، ولقد أتقن الكثير منا لغتهم أكثر مما أتقن لغته دون أن يدركوا المخاطر الكارثية لذلك، إن من يتقن لغة الآخر أكثر مما يتقن لغة الأم ينصهر رويدًا رويدًا في الاخر، لأن نفسية الإنسان تُصقل من خلال مناخ اللغة التي يتقنها.. من خلال العبارات والأمثال الشعبية والعادات والتجارب ومن خلال الثقافة المكتسبة في المجتمع الذي يعيش ويتفاعل مع القيم السائدة فيه.

نفخت زفيري بعيدًا افففف، وقلت لنفسي لماذا أتفاعل إلى هذا الحد.. لماذا أوجع قلبي.. لماذا لا أتفاعل مع الحدث ببساطة.. كان يمكن أن نبقى بسطاء لأن البساطة تكفل سعادة الفرد، والوعي يزيد الهم وربما يقصر من العمر..  وأخذني أبو طيب إلى قوله: "ذُو العَقْلِ يَشْقَى فِيْ النَّعيم بِعَقْلِهِ وأَخُو الجَهَالَةِ فِيْ الشَّقَاوةِ يَنْعَمُ".

وكنا قد حدثناكم عن أبا حوشي الذي كانت مهمته ضمن مخططات الحركة الصهيونية أن يسايرنا ويضحك علينا كي يهجرنا وقد لبس ثيابًا عربية وأطلق على نفسه اسم "أبو خالد" وسافر إلى جبل العرب برفقة بعض المتعاونين الذين ربما لم يعلموا بنواياه الحقيقية، وهناك اجتمعوا مع المغفور له عطوفة سلطان باشا الأطرش.. كان أمل أبا حوشي المتخفي ان يشير للوفد المرافق له بالقول، ما دام أهلكم في فلسطين قد خرجوا من بلادكم فافعلوا ما فعلوا، ولكن القائد الفذ الذي طرد الأتراك والفرنسيين من بلاده شاهد ببصيرته المتقدة الحقيقة، فقال للوفد: "اياكم ان تخرجوا وأفضل لكم ان تموتوا في بلادكم من ان تهجروها"، وهكذا عاد ابا حوشي (أبو خالد) بخفي حنين.

ترى هل نحن نعاني من المازوخية، نعشق الضرب وجلادنا، ونطلق على شارع رئيسي في عسفيا اسم شارع "أبا حوشي" وعلى شارع في دالية الكرمل اسم "مناحم بيغن"؟ رحماك يا إلهي.. أرشد عبادك الطيبين.. دعهم يشاهدون بأبصارهم وبصائرهم ابعاد خطواتهم ليستدركوا قبل فوات الأوان.

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب