كنت أسمع عنه كثيراً، قبل أن أتعرف إليه شخصياً في أيلول/سبتمبر 2008. كنت قد عُيّنت في صيف ذلك العام أستاذاً مشاركاً في قسم الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بير زيت، حيث درّست في هذا القسم طوال شهر أيلول من سنة 2008، ولم تفلح الجهود التي بذلت مع السلطات الإسرائيلية في تجديد إقامتي، فاضطررت إلى مغادرة الأرض المحتلة. ولكن خلال وجودي في مدينة رام الله في ذلك الشهر، استطعت بفضل الرفيقة عايدة توما زيارة عكا وحيفا والناصرة، وتعرفت إلى عدد من الرفاق من ضمنهم عصام مخول ومحمد بركة. ومنذ ذلك الحين، ربطتني بالرفيق عصام علاقة رفاقية وثيقة، إذ أعددت بناء على طلبه عدداً من المقالات عن إميل توما، وعن عصبة التحرر الوطني وعن الحركة العمالية النقابية في فلسطين في عهد الانتداب. في مطلع خريف سنة 2019، تواصل الرفيق عصام معي مقترحاً أن يعد كتاباً حول: عصبة التحرر الوطني في فلسطين، وقراءة التطورات على موقف الشيوعيين من قرار التقسيم الصادر عن الامم المتحدة بموازاة التحولات في الواقع الفلسطيني والعربي والدولي، على أن يُنشر هذا الكتاب بدعم من مؤسسة الدراسات الفلسطينية، فطلبت منه أن يرسل رسالة بهذا الخصوص إلى المدير العام للمؤسسة الزميل خالد فراج، وأن يرفقها بعرض عن محتوى هذا الكتاب، فأرسل، في 5 تشرين الثاني/نوفمبر من ذلك العام، الرسالة والنص التالي: أتوجه اليكم ومن خلالكم الى مؤسسة الدراسات الفلسطينية، التي نقدرها ونعتز بها، طلبا لدعم تفرغي لإصدار كتاب عن مؤسستكم المرموقة... ويتناول هذا الكتاب جانباً متميزاً من تاريخ الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية العادلة، ويتزامن إصداره مع حلول الذكرى المئوية لنشوء اول تنظيم شيوعي في فلسطين في سنة 1919، سبق اعتراف الكومنترن (الأممية الشيوعية) بالحزب الشيوعي الفلسطيني في سنة 1924، وهو الحزب الذي شقً الطريق نحو مئة عام من العمل الشيوعي في فلسطين، مع كل ما رافقه من تناقض ومواجهة مع مشاريع الامبريالية والصهيونية في فلسطين، وما رافقه من تناقضات مع نهج القيادات التقليدية المتنفذة في قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، المستندة الى الجامعة العربية المحكومة بالتبعية للقوى الامبريالية المتنفذة في حينه، وقراءتها المبتورة للتطور الناشئ في فلسطين ومهادنتها سياسات الانتداب البريطاني. سيركّز الكتاب، بوجه خاص، على تاريخ "عصبة التحرر الوطني في فلسطين"، التي ظهرت بقوة بين سنوات 1943- 1949 على الساحة اليسارية الوطنية الفلسطينية، وشكلت ركناً أساسياً أصيلاً ومتميزاً يستحق المزيد من البحث والمتابعة، من تاريخ العمل الشيوعي في فلسطين والعمل الشيوعي الفلسطيني، وجزءاً لا يتجزأ من تاريخ النضال الوطني الفلسطيني. فهذه العصبة التي ضمت الشيوعيين العرب في فلسطين منذ سنة 1943، قامت على خلفية الانشقاق في الحزب الشيوعي الفلسطيني على أساس قومي، لكنها لم تعلن نفسها حزباً شيوعياً بالمفهوم التقليدي للحزب الشيوعي. وسيحاول الكتاب تناول سياسات هذه العصبة وتقييماتها الاستراتيجية، ليس من خلال استعراض أدبياتها فقط، وانما كذلك من خلال قراءة ما تكشف لاحقاً عن الخيارات الحقيقية والواقعية التي كانت متوفرة لدى الحركة الوطنية الفلسطينية ولدى النظام العربي الرسمي من جهة ، ومن خلال قراءة أدبيات الحركة الصهيونية ووثائقها ويومياتها وتقييماتها، التي نشر قسم منها مؤخراً بشأن مشاريعها خلال عقد من الزمن انتهى في سنتَي 1947-1948، من جهة ثانية. وعلى الرغم من توفر عدد من المراجع الاساسية والدراسات فائقة القيمة والأهمية التي تناولت العمل الشيوعي في فلسطين والعمل الشيوعي الفلسطيني، وأبرزها مؤلفات إميل توما وماهر الشريف وسليمان بشير وموسى البديري وسميح سمارة وبولس فرح ونعيم الأشهب وغيرها، والتي تناول بعضها تاريخ العصبة والموقف من قرار التقسيم، فإن بعض الدراسات التي صدرت في العقدين الاخيرين أخرجت التجربة الشيوعية الفلسطينية والتجربة الشيوعية في فلسطين من سياقها التاريخي، وتسترت أحياناً على أدبيات الحركة الشيوعية ووثائقها، وخصوصا في كتابة تاريخ عصبة التحرر الوطني وأسس تبلور موقف الشيوعيين الفلسطينيين والشيوعيين في فلسطين من مسألة تقسيم فلسطين وصولا الى قرار التقسيم الذي اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني/1947. وسينطلق الكتاب المقترح في تعامله مع الماضي من مقولة المفكر الماركسي المصري محمود أمين العالم القائلة إن "الموقف من التراث ليس موقفا من الماضي والقضايا التي عالجها فقط، وإنما هو بنفس المدى موقف من قضايا الحاضر والمستقبل ويأتي في خدمة المعارك الفكرية والسياسية الآنية"، وذلك في وقت تشتد فيه الهجمة على القضية الفلسطينية وعلى انجازات نضال الشعب الفلسطيني التاريخي، والاعداد لفرض "صفقة القرن" كمشروع لتصفية هذه القضية. وعليه، سيخصص الكتاب فصلاً للبحث عن خيط يربط بين التآمر لإجهاض حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير ومنع قيام الدولة العربية في فلسطين منذ النكبة وحتى "صفقة القرن" و"قانون القومية" الذي شرعته حكومة إسرائيل في تموز/يوليو الماضي مرورا بمنطق عملية أوسلو. التحولات الطبقية وانعكاساتها على البنى السياسية وعصبة التحرر الوطني وتعالج فصول الكتاب التحولات الطبقية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها فلسطين الانتدابية وانعكاسها على البنى والتشكيلات السياسية التاريخية، وعلى تبلور محطات فاصلة في تاريخ القضية الفلسطينية مثل ثورة سنة 1929، وثورة القسام وثورة سنة 1936 والاضراب الوطني الكبير الذي رافقها، ومرحلة الإعداد للحرب العالمية الثانية، واتساع قاعدة الطبقة العاملة الفلسطينية ومنظماتها النقابية، وتنامي دور المثقفين اليساريين، وانعكاس نتائج الحرب في أواسط أربعينيات القرن الماضي على فلسطين وصولاً الى قرار التقسيم. ويتوسع الكتاب في تحديد المتغيرات على البنى الاجتماعية التي قادت الى نشوء عصبة التحرر الوطني والدور المتميز والجديد الذي اضطلعت به على الساحة الفلسطينية كتيار ثوري واعد يعبّر عن قوة اجتماعية ثورية صاعدة، وعن طبقات حديثة العهد يعكس مصالحها ويبلور خطابها ومفهومها للصراع، وعن مرحلة جديدة في معركة الحركة الوطنية الفلسطينية. كما يحاول الكتاب أن يتقصى أو يقتفي أثر تطور الموقف الاستراتيجي لعصبة التحرر الوطني من تقسيم فلسطين، انطلاقاً من تصدي العصبة الفكري والسياسي لمشروع التقسيم قبل قرار الأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، وبعد موقفها في شباط/فبراير 1948، وذلك في ظل غياب مشروع عيني ومتكامل لدى القيادة التقليدية للحركة الوطنية الفلسطينية لإفشال التقسيم، بحيث يقارن الكتاب، بذلك، ما بين نهجين من التفكير والعمل السياسي ومنطلقات كل منهما. وفي هذا السياق، يعرض الكتاب، عبر وثائق العصبة وجريدة الاتحاد الناطقة باسمها، وبالاعتماد على أرشيفي اثنين من القادة المؤسسين للعصبة وهما إميل توما وتوفيق طوبي المحفوظين في معهد اميل توما للدراسات الفلسطينية والاسرائيلية في حيفا، يعرض المواقف والنقاشات الفكرية والسياسية التي خاضتها العصبة مع القيادة التقليدية الفلسطينية والنظام العربي الرسمي على مدار سنوات 1945 - 1947. كما يحاول الكتاب الإجابة عن السؤال المركّب الآتي: ما هي المتغيرات التي تكشفت في الفترة بين 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 وبين 15 شباط/فبراير 1948، ودفعت عصبة التحرر الوطني إلى تغيير موقفها من قرار التقسيم، بحيث انتقلت من مواجهته إلى القبول به وصولاً إلى ما بعد النكبة ؟ وكيف وفّقت عصبة التحرر الوطني ما بين موقفها المبدئي التاريخي وبين هذا الانتقال؟ وكيف انعكس منطق هذا الانتقال على "معركة البقاء" التي خاضتها الأقلية القومية الفلسطينية التي بقيت في وطنها لاحقاً بقيادة الشيوعيين في اسرائيل؟ وهو المنطق الذي قاد الى مجابهة الحكم العسكري ومجازره واضطهاده حتى إسقاطه في سنة 1966 ، والانتقال بالجماهير العربية الفلسطينية في اسرائيل من نفسية النكبة الى نفسية الصمود والمواجهة ، والتأكيد في وثيقة 6 حزيران/يونيو 1980 على أننا "نحن أهل هذا الوطن ولا وطن لنا سواه ... حتى لو جوبهنا بالموت نفسه فلن ننسى أصلنا العريق، نحن جزء حي وفاعل ونشيط من الشعب الفلسطيني". وارتباطاً بالسؤال المركّب المطروح أعلاه، سيحاول الكتاب الإجابة عن جملة من الأسئلة الأخرى: هل تشكّل هذه المواقف الاستراتيجية الصدامية مع المشروع الصهيوني من داخل اسرائيل استمراراً مباشراً للمواقف الذي اتخذتها العصبة واتخذها الشيوعيون في سنتَي 1947- 1948، أم تشكّل انقطاعاً عنها وتناقضاً معها ؟ وهل المنطق الذي طبع ما أطلق عليه "معركة البقاء" في الوطن، كنقيض للمشروع الصهيوني وإفشال ممنهج له، هو استمرار للمنطق الذي قامت عليه استراتيجية عصبة التحرر الوطني حتى سنة 1948، وسياسات الشيوعيين في اسرائيل بعد النكبة وقيام اسرائيل، وما مثلته في وقت مبكر وثيقة عصبة التحرر الوطني التي كتبها توفيق طوبي تحت عنوان :"لماذا علينا النضال من أجل قيام الدولة العربية الوطنية الديمقراطية"؟ وهي الوثيقة التي شددت على ضرورة قيام الدولة العربية الفلسطينية وعودة اللاجئين الفلسطينيين والاعتراف بالحقوق المدنية والقومية للاقلية القومية الفلسطينية داخل إسرائيل. وبهذا، فإن الكتاب المقترح يطمح إلى إدراج الأحداث المنفصلة، مهما كانت مهمة، في السياق التاريخي الذي حدثت فيه، إذ من دون عملية الإدراج هذه ستكون قراءة التاريخ الفلسطيني والفكر السياسي الفلسطيني قراءة مبتورة وناقصة وربما مشوهة. مقدمة تاريخية ويخصص الكتاب المقترح مدخلاً أو مقدمة تاريخية وفكرية تتناول أدوات ومفاهيم الصراع الاساسية في فلسطين وعليها، التي تبلورت لدى الحركة الشيوعية منذ قرن من الزمن، في خضم صراع الشيوعية الناشئة في فلسطين مع الصهيونية من جهة، وموقفها من حركة التحرر الوطني الفلسطينية والعربية أوائل القرن الماضي وأدائها، والتي تزامن تبلورها على أرض فلسطين مع تبلور الحركة الشيوعية في فلسطين في سنة 1919، وموقع الحركة الشيوعية وموقفها الصدامي مع الانتداب البريطاني والمشروع الامبريالي في فلسطين والمنطقة، كجزء من موقعها وموقفها من الصراع العالمي بعد الحرب العالمية الأولى وتداعيات انهيار الامبراطورية العثمانية وانتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية. كما ستعالج المقدمة موقف الحركة الشيوعية في فلسطين من اليسار الصهيوني الذي أسس للمشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين وادعى الانتماء الى الماركسية، وتناقضها الفكري والسياسي منذ نشأتها مع هذا "اليسار الصهيوني". وستحلل المقدمة مركزية "النهج الاممي" في النظرية والممارسة الشيوعية في فلسطين، وما خلفه من تميز من جهة ومن صراع وتصدعات في داخل الحركة الشيوعية نفسها على مدار مئة عام من صراع قومي قاسٍ ومرير من الجهة الأخرى عصام مخول – رئيس معهد اميل توما للدراسات الفلسطينية والاسرائيلية شرع الرفيق عصام في إعداد هذا الكتاب، بعد أن أقرّ مكتب لجنة الأبحاث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية مشروعه، لكن مشاغله الكفاحية والفكرية الكثيرة، ووجوده في قيادة الحزب الشيوعي ثم رئاسته الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، حالت دون أن ينهي هذا المشروع، وتضمنت آخر رسائله لي في هذا الخصوص، المؤرخة في 20 آذار/مارس 2024، ما يلي: "سأضع جدول عمل متشدداً للانتهاء من هذا المشروع وسأطلعك على تقدم الكتابة في مراحل مختلفة؛ مع تقديري ومحبتي عصام".