تخيّل مدينة تستيقظ على الضوء، لا على الانفجار. تخيّل غزة كما كانت تُرى، أو كما كان يمكن أن تُرى لو أُعطيت فرصة عادلة للحياة. مدينة تعرف الألوان، وتستخدمها بلا تردّد. في الصباح، الشوارع تمتلئ بحركة عادية تشبه أي مدينة حيّة: سيارات تمرّ، زامور هنا وآخر هناك، أصوات متداخلة لا تحمل خوفًا بل استعجال يوم جديد. المحال تفتح أبوابها، الأقمشة المعلّقة على الواجهات ملوّنة، فساتين، قمصان، ألعاب أطفال. لا شيء فخم، لكن كل شيء نابض. الأطفال يملؤون المكان. يحملون بالونات ملوّنة أكبر من أيديهم، يركضون بلا خوف، يضحكون بصوت عالٍ. في الحدائق القليلة، لكنها العنيدة، أشجار خضراء تحاول أن تكبر رغم ضيق المساحة. في مدن الملاهي الصغيرة، أصوات موسيقى، ضحكات متقطعة، صراخ فرح. الحياة هنا لا تُقدَّم كترف، بل كحق بسيط يُمارَس بإصرار. في المساء، يقترب الناس من البحر. الكورنيش ليس مجرد رصيف، بل مساحة تنفّس. الأزرق مفتوح، والسماء تعرف كيف تتدرّج في ألوانها عند الغروب. هناك من يمشي، من يجلس، من يأكل سمكًا طازجًا، من يتبادل حديثًا عاديًا. غزة، رغم الحصار، كانت تعرف كيف تبدو مدينة. لا ضحية دائمة، بل مكانًا للعيش. لم أزر غزة في حياتي. لكنني عرفتها. عرفتها من أهلها، من أصدقائي وصديقاتي الذين حملوها معهم في كلامهم وحنينهم. كنت أستعدّ لزيارتها دائمًا، حتى وأنا أعرف أن الزيارة مؤجلة. أؤجّلها في الخيال، لا ألغيها. أقول: يومًا ما سأمشي على كورنيشها، سأراقب البحر عند الغروب، سآكل سمكًا من بحرها، وسأفهم لماذا يتحدثون عنها بهذه المحبة. كانوا يحكون عنها كمدينة تُحب، لا كخبر عاجل. مدينة محاصرة، نعم، لكنها جميلة، حيّة، مليئة بالتفاصيل الصغيرة التي تصنع الانتماء. ثم تغيّر المشهد. المدينة تغيّر لونها. لكنها لا تختار اللون. غزة لم تستيقظ يومًا وتقرّر أن تكون رمادية. لم تختر هذا الطلاء الباهت الذي يغلّف تفاصيلها اليوم. الرمادي فُرض عليها، تسلّل إلى جدرانها، إلى سمائها، إلى ملامح ناسها، حتى صار لونًا قسريًا لا يُغادر المشهد. الرمادي المغبر لا يوجع العين فقط، بل يضغط على الصدر. يخلق شعورًا دائمًا بالاختناق، بالضيق، بالعجز عن التقاط نفس كامل. هو لون ما بعد الانفجار، لون الغبار الذي لا يسقط سريعًا، لون الأشياء حين تفقد معناها وتتحوّل إلى بقايا. غزة، المدينة التي هُدمت عن بكرة أبيها، لم تُدمَّر مرة واحدة فقط، بل تُدمَّر كل يوم من جديد. بيوتها التي كانت زاهية، شرفاتها المليئة بالغسيل الملوّن، الجدران التي حملت رسومات أطفال وكتابات حب ومقاومة، كلّها ذابت في لوحة واحدة باهتة. حتى الشوارع التي كانت خضراء رغم ضيق المساحة، رغم الحصار، فقدت لونها. الأشجار التي صمدت طويلًا باتت تحمل غبارًا رماديًا، كأنها شاخت فجأة. في الصورة الأخرى لغزة، لا موسيقى، لا ضحكات، لا زحام عادي. مبانٍ مهدّمة تتكئ على بعضها كأجساد متعبة. شوارع فقدت اتجاهها. الغبار معلّق في الهواء، لا يسقط ولا يرحل. حتى السماء تبدو ثقيلة، كأنها نسيت ألوانها. الوجوه شاحبة، مغبرة. الأطفال أصغر من الركام الذي يحيط بهم. لا بالونات، لا ألعاب، لا حدائق. الصمت هنا ليس هدوءًا، بل فراغ. فراغ بعد صدمة طويلة. الرمادي لا يغطّي المكان فقط، بل يهدد الذاكرة. كل مرة أنظر إلى الشاشة لمتابعة الأخبار، أرى الرمادي. رمادي في السماء، رمادي في الأرض، رمادي في الوجوه. الكاميرا لا تكذب، لكنها لا تُظهر كل شيء. لا تُظهر كيف تسلّل هذا اللون إلى الذاكرة أيضًا، وكيف بات جزءًا من صورتنا عن غزة، رغم أنها لم تكن كذلك يومًا. حتى بحر غزة… ذاك الأزرق الذي كان نافذة المدينة الوحيدة على العالم، صار رماديًا. ماؤه محمّل بالركام، بالظلال الثقيلة، وبانعكاس السماء المثقلة بالطائرات والدخان. البحر الذي كان وعدًا، صار شاهدًا. البحر الذي كان مهربًا، صار حدودًا أخرى. الرمادي في غزة ليس لونًا، بل حالة. حالة مدينة مُنهكة، مدينة تُسلب منها الحياة ببطء، ثم يُطلب منها أن تبدو “صامدة” بما يكفي. هو لون الزمن المتوقف، ولون الانتظار الطويل، ولون الخوف الذي لا يُقال. لكن الأخطر من الرمادي الذي نراه، هو الرمادي الذي نكاد نعتاد عليه. أن يصبح الدمار مشهدًا متكررًا، أن تتحول الصور إلى خلفية للأخبار، أن تُختصر مدينة كاملة بلون واحد. حينها لا تخسر غزة ألوانها فقط، بل نخسر نحن قدرتنا على الدهشة، على الغضب، على الإحساس الكامل بالفاجعة. غزة ليست رمادية بطبيعتها. غزة كانت مدينة ألوان: ألوان الفجر فوق البحر، ألوان الفاكهة في الأسواق، ألوان فساتين العيد، ألوان الطفولة التي كانت تركض في الأزقة. الرمادي ليس هويتها، بل ي الجريمة المستمرة بحقها. غزة اليوم مدينة فقدت ألوانها، لكنها لم تفقد معناها. وربما أخطر ما في الرمادي أنه يحاول إقناعنا بأن لا شيء سيتغير. لكن المدن، مثل الناس، قد تُرهق، قد تُجرح، لكنها لا تنسى ألوانها الأصلية. حتى لو اختفت مؤقتًا تحت الغبار.