من يراقب المشهد في الضفة الغربية اليوم يدرك أن النكبة لم تُطوَ، ولم تصبح فصلًا من الماضي، بل ما زالت تُكتب لحظة بلحظة. فاعتداءات المستوطنين على القرى ومزارع الفلاحين ليست أحداثًا متفرقة، ولا "توترات" عابرة؛ إنها استمرار مباشر لفصول الأولى من النكبة، ذلك الفصل الذي بُني على الترهيب والحرق والنهب والطرد، وما زال يُعاد إنتاجه تحت أسماء جديدة وأشكال مختلفة. منذ اللحظة التأسيسية للمشروع الاستعماري، كانت أدوات السيطرة واضحة: الخوف وسيلة، التهجير نتيجة، وانتزاع الأرض غاية. واليوم، بعد مرور عقود، ما زال المشهد يتكرر بالآليات نفسها وإن اختلفت التسميات. الميليشيات التي ارتكبت الجرائم في القرى الفلسطينية صارت تُقدم اليوم للرأي العام العالمي باسم "المستوطنين"، والعمليات المنظمة يُطلق عليها "اعتداءات فردية"، والتهجير يُسوق باعتباره "إجراءات أمنية". لكن الحقيقة التي لا يمكن طمسها بسيطة: النهج لم يتغير، بل يستمر بالمنطق ذاته والأدوات ذاتها. المستوطنون اليوم يهاجمون القرى، يقتحمون البيوت والمزارع، يعتدون على الفلاح الأعزل، ينهبون المواشي، يحرقون المحاصيل، ويُبث كل ذلك مباشرة، تحت حماية جنود يقفون متفرجين أو مشاركين بالفعل. وكأن المؤسسة العسكرية تترك "الذراع غير الرسمي" يؤدي الدور الذي أدته العصابات في بدايات المشروع، بينما تنشغل الدولة بإدارة حرب على الحدود لا تبدو نهايتها قريبة إلا بتشريع سياسي ينقذ رأس الهرم. الاحتلال يتفنن في صناعة التفاصيل التي تخنق الحياة اليومية للفلسطيني. بوابات صفراء وبرتقالية تقطع أوصال الجغرافيا. سواتر ترابية تسد مداخل القرى وتعزلها. حواجز تفرضها قوة السلاح وتُعيد تشكيل طرق الناس ومواعيدهم وأيامهم. وقد لا تكون صورة أبلغ من مشهد المريض الذي حُمل من سيارة إسعاف إلى أخرى فوق بوابة حديدية تشكّل "حدودًا" بين مدينتين لا يفصل بينهما سوى دقيقة أو دقيقتين سيرًا على الأقدام، بينما يُجبر الاحتلال سيارة الإسعاف على الالتفاف في رحلة قد تمتد ساعة كاملة. الجسد مرفوع فوق الحديد، والأجهزة معلّقة في الهواء، والزمن يتباطأ حدّ الخطر — لأن الاحتلال يريد للحياة أن تُقاس بمقاييس القوة، والمرض أن يمر من تحت سلطته. هذا المشهد، بكل تفاصيله العبثية، ليس إلا امتدادًا لمشاهد النكبة الأولى: فصل الإنسان عن أرضه، وفصل القرية عن جارتها، وإعادة تشكيل المكان بما يخدم مشروعًا واحدًا — إضعاف الفلسطيني، إرهاقه، ودفعه إمّا إلى الرحيل أو إلى الاحتماء بصمته. وفي هذا السياق، يبرز السؤال الذي لا يُسكت: إذا كان البعض يبرر صمته في الماضي بالجهل، فكيف يُبرَّر الصمت اليوم؟ الصور مرئية، التسجيلات متاحة، والشهادات تُنشر لحظةً بلحظة. فما الذي يبقى من حجج للسكوت؟ وكيف يمكن للصمت أن يكون خيارًا أصلًا؟ في زمن صار فيه كل شيء موثقًا، لم يعد الصمت مجرد غياب موقف؛ الصمت بات شراكة. اتخاذ جانب. ومساهمة في تجديد النكبة، فصلًا بعد آخر. لقد حاولوا دفن النكبة في كتب التاريخ، لكن الوقائع تُعيدها إلى الواقع اليومي. تتبدل الوجوه، تتغير الأزياء، قد يخفى الخطاب خلف المصطلحات، لكن القصة واحدة: جرح يتجدد، ومشروع مستمر، وفلسطيني ما يزال واقفًا على أرضه، يحمي بيته وذاكرته وحقه في الحياة. ما بين فصولها الأولى ونهايتها التي لم تُكتب بعد — النكبة تتجدد.