لا، ليست هذه محاولة للتّعمشق أو التّعشمق [عامّيّ مفصَّح] على خدّ السّحاب، بل هو إحساس جوّانيّ جامع، ودافع من دون وازع، يبعثانِني ممّا أنا فيه من قاعٍ موجع، ويَبْتَعِثانِني إلى مغامرة الكتابة عن قامة فنّيّة أيقونيّة فِلَسطينيّة عربيّة وعالميّة باسقة، كم من حكايات روت عن أرض الأناجيل، وفي ليلة الميلاد غابت فذهبت لتروي طيّون الجليل. لم يكن لي سابق معرفة شخصيّة بشخصه دون صفته، لكنّه بحضوره الآسر، بغضون وجهٍ حادّ الملامح، بعينيْن زرقاويْن ثاقبتيْن يغار منهما النّهار، بحنجرته المجلجلة، بقوامه الرّفيع، كان يشدّ بحر عكّاه وحيفاه ويافاه إلى ليل الصّيّادين، وفي كفّه المشرعة لمصافحة الرّيح مصباح علاء الدّين. محمّد صالح بكري، محمّد بكري، أبو صالح، الممثّل القارح والمخرج الجارح والمعلّم الحرّيف الحرّ الصريح، الّذي بَزّ أقرانه إقناعًا وقناعة، وتواضعًا وصمودًا وأصالة وكرامة، واستئسادًا وسموًّا ورقيًّا وبراعة، كان وسيظلّ بمواهبه الفذّة وبعطاياه المُلهِمة علامة فارقة في المشهد الفنّيّ السّينمائيّ والمسرحيّ في الأرضِين، وهو الّذي لولا أنْ آثر حواكير البِعْنة وخشب فِلَسطين على مسارح روما وكاميرات هوليوود لكان – وبشهادة الغريب قبل القريب – أحد أبرز وجوه السّينما والمسرح على مستوى العالم. لكن حسْبه أنْ كان محمّد بكري، أبا صالح، الّذي سيظلّ بصفته وشخصه، وبأعمال مثل "حنّا كي." و"من وراء القضبان" و"المتشائل" و"حيفا" و"جنين جنين"، وغيرها وقد نيّفت على الأربعين، وحظيت بمئات مرّات العروض في جهات الدّنيا الأربع، مشهدًا أعلى [Master Seen] في وجه الطُّغيان وفي سبيل إنسانيّة الإنسان. وإنّه ما كان لهذا الأسد الإنسان أن يكون ما كان لولا أنْ كان قرين لبؤة هي أمّ صالح، هي لَيْلاه الّتي أحبّته واحتضنته، وكانت له بعد الله خير ظهير يشدّ أزره، فما كان لأمر أن ينال منه وما كان لشيءٍ أن يفتّ في عضده، وقد أثرَيانا بخمسة أشبال وشبلة، فإنّه من خلّف ما مات أبدًا. ونحن إن عرّفنا الإبداع بأنّه تجاوز للثّنائيّات، وإن عرّفنا الفنّ بأنه جعل جلال الألم جمالًا، نقول لك شكرًا أبا صالح على كلّ ما علّمتنا إيّاه من تجاوز وغمرتنا به من جمال الجلال. تقبّلكَ الله قَبولًا حَسَنًا، وتغمّدك الرّحمن الرّحيم بشآبيب رحمته، وأسكنك جنّته، وألهم أهلك وذويك وكلّ محبّيك ومناصريك الصّبر والسّلوان، حُسن العزاء وطول البقاء.