انتصار على الوعي، صمود الإرادة وتجذّر الإنسان في أرضه وهويته نسطّر اليوم، في التاسع من كانون الأول هذه السنة، خمسين عاما على انتصار جبهة الناصرة الديمقراطية في الانتخابات البلدية، بقيادة الشاعر والمناضل توفيق زيّاد. في هذا التاريخ من العام 1975، كانت البداية التي غيّرت وجه المدينة ليترك هذا اليوم بصمته على مجمل الحياة السياسية والاجتماعية للفلسطينيين في البلاد. لم يكن ذلك الانتصار تبدّلًا عابرًا في إدارة بلدية، بل تحوّلًا عميقًا في الوعي الجماعي وولادة مرحلة جديدة عبّرت عن إرادة الناس في استعادة القرار المحلي، في وجه عقود من التهميش والهيمنة الرسمية والتمييز وألأضطهاد القومي. في هذا المقال لسنا بصدد استعراض او دراسة لتاريخ جبهة الناصرة وانتصارها، انما القاء الضوء على جوانب ونقاط في احياء الذكرى الخمسين. فتاريخ جبهة الناصرة وانتصارها يتطلب دراسة عميقة تشمل العديد من المحطات والتقييمات. لحظة التحوّل الكبرى "لقد انتصرت الناصرة لنفسها، لكرامتها ولحقها في أن تكون سيدة قرارها"، كلمات دوّت صداها في سماء مدينة الناصرة بصوت توفيق زياد في خطابه الأول بعد الفوز، حيث شعر سكان المدينة عند اعلان نتائج الانتخابات بان التاريخ انقلب لصالحهم. ومنذ تلك اللحظة، لم تعد الناصرة مجرد مدينة عربية كبرى، بل أصبحت رمزًا سياسيًا وثقافيًا للوجود الفلسطيني المنظّم. ومن قلبها انطلقت تجربة مميزة في الحكم المحلي الوطني، استطاعت أن تثبت أن الإدارة يمكن أن تكون أداة للنضال، وأن البلدية يمكن أن تكون منبرًا للكرامة والخدمات وليس بوابة للولاء للسلطة، فقد تميّزت تجربة الجبهة بتحويل العمل البلدي إلى مشروع اجتماعي وثقافي ووطني شامل، يمزج بين "الخدمات والكرامة." فُتحت أبواب البلدية لكل المواطنين، وطُوّرت أقسام الخدمات، واهتمت بدعم التعليم، كما أنشأت البلدية مشاريع عمرانية وتنظيمية واسعة جنبا الى جنب تعزيز الحركة الثقافية والفنية. أبرز هذه التجارب مشروع مخيمات العمل التطوعي الذي استمر ستة عشر عامًا، وشكّل مدرسة سياسية وثقافية ووطنية جمعت أبناء المدينة ووحّدت صفوفهم. وقد صمد هذا المشروع في مواجهة محاولات الحكومة مقاطعة الناصرة، وعكس روحًا فلسطينية وإنسانية جامعة، تؤكد قدرة المجتمع على تنظيم ذاته بإرادته الحرة. في الوقت نفسه، كانت الجبهة منبرًا للموقف الوطني، في مواجهة السياسات الحكومية التي حاولت مرارًا تقليص صلاحيات البلديات العربية والعمل على افشالها. لقد جسدت الناصرة في تلك المرحلة نموذج الحكم الشعبي القائم على الشفافية والمشاركة والموقف المبدئي، فأصبحت قبلةً لكل المناضلين والمثقفين الذين رأوا فيها "عاصمة الجماهير العربية في إسرائيل". البعد الوطني والقومي للتجربة لم يكن انتصار الجبهة حدثًا محليًا فقط، بل محطة مفصلية في مسار الفلسطينيين داخل البلاد، وانتقالًا من مرحلة العزلة ومحاولات الأسرلة إلى مرحلة الوعي السياسي الوطني. فقد أكدت الجبهة أن العمل البلدي ليس نقيضًا للهوية الوطنية، بل امتداد لها. ومن الناصرة انطلقت مواقف سياسية صلبة في الدفاع عن الأرض والحقوق، ودعم نضال الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة والمطالبة بالمساواة الكاملة: القومية والمدنية للمواطنين العرب داخل إسرائيل. في كل مناسبة وطنية، كانت الناصرة - بفضل جبهتها وقيادتها - صوتًا للحق العربي والفلسطيني، وصدى لنبض الناس البسطاء الذين رأوا في الجبهة انعكاسًا لكرامتهم ومصالحهم اليومية. وقد انعكست تجربة الناصرة على بناء الجبهات الوطنية في المناطق المحتلة، إذ استلهمت قوى عديدة نموذج التنظيم الشعبي الديمقراطي الذي يجمع بين الوعي الوطني والبرنامج الاجتماعي الواضح. كما وكان انعكاس واضح لهذا الانتصار على بقية البلدات العربية حيث ساهمت في فوز 19 رئيسا جبهويا في مختلف ارجاء البلاد عام 1978. فالحملة الانتخابية لجبهة الناصرة جاءت استثنائية وغير مسبوقة حيث ربطت المطالب المطلبية بالمطالب السياسية وأكدت على البعد الوطني كما انها تجاوزت الاعتبارات الحاراتية والطائفية وجمعت كل أطياف المدينة لتسد الطريق امام الطائفية، الناصرة: مكانة وطنية وقطرية ودولية تحولت الناصرة في ظل قيادة الجبهة إلى مركز وطني وقطري مؤثر. كان لها دور محوري في لجنة رؤساء السلطات المحلية العربية، وفي اتخاذ مواقف مصيرية مثل يوم الأرض، بل كانت الجبهة ركيزة أساسية ليوم الأرض، حيث شكل انتصار جبهة الناصرة الديمقراطية عاملًا حاسمًا في إنتاج الوعي الوطني الذي مهّد لإعلان إضراب يوم الأرض في 30 آذار 1976. فنجاح الجبهة شكّل نقطة تحوّل في المزاج الشعبي، ورسّخ الثقة بقدرة الجماهير العربية على تنظيم نفسها والدفاع عن حقوقها. ولذلك لم يكن يوم الأرض حدثًا منفصلًا أو طارئًا، بل جاء امتدادًا طبيعيًا للزخم السياسي والشعبي الذي أطلقته الناصرة بعد فوز الجبهة، إذ لعبت المدينة وقيادتها دورًا محوريًا في بلورة الموقف الوطني الذي قاد إلى الإضراب التاريخي، كأول مواجهة جماعية منظمة ضد سياسات المصادرة والتمييز. وعلى مستوى العلاقة مع القوى اليهودية الديمقراطية، فتحت الناصرة أبوابها لشخصيات تقدّمية مثل إيبي ناتان، في تأكيد على أن الشراكة الحقيقية تُبنى على أساس العدالة والمساواة. وأما على المستوى الفلسطيني العام، شكّلت المدينة جسر تواصل مع القوى الوطنية في الوطن والشتات، كما أسهمت في بناء مدن توأمة على المستوى العالمي، ما منح الناصرة حضورًا دوليًا يعكس هويتها وانفتاحها. نضالات تراكمية سبقت انتصار 1975 ولدت جبهة الناصرة الديمقراطية من رحم المعاناة اليومية لأهالي المدينة بعد نكبة 1948، في ظلّ واقع من المصادرة والتمييز وحرمان الناس من حقوقهم الأساسية. ومع بدايات السبعينيات، وبعد سقوط الحكم العسكري، كانت الحاجة ماسة إلى إطار وطني تقدّمي جامع يستند إلى وعي اجتماعي وصوت فلسطيني واضح. وبمبادرة من الحزب الشيوعي، التفّ حول الفكرة عدد من المثقفين والعمال والمعلمين والطلاب وأصحاب المصالح والحرفيين، ليبلوروا إطارًا يجمع بين الانتماء الوطني والموقف الديمقراطي الاجتماعي يرتقي الى مهام المرحلة وضرورة وحدة كل القوى المعادية للسلطة، يحمل هموم الناس بلغة الوعي الوطني والاجتماعي، ويواجه سياسات السلطة التي أرادت من البلديات العربية أدوات خاضعة لا منابر وطنية مستقلة. تأسست الجبهة من عدة مكونات سياسية وشعبية وعمودها الفقري كان الحزب الشيوعي المتحالف مع رابطة الأكاديميين في الناصرة ولجنة التجار والحرفيين ولجنة الطلاب الجامعيين ابناء الناصرة وشخصيات وطنية وشعبية بارزة. وقد اعتمدت الجبهة منذ تأسيسها دستورا يرتكز على مبدأ أساسي وهو مبدأ الاجماع والاقناع ولم يفرض أي موقف على أحد من الأطر التي تشكلت منها الجبهة. لقد جاء انتصار الجبهة في عام 1975 ثمرة نضالات تراكمية تواصلت عبر عقود من الصمود والعمل الشعبي، وبلغت نضجها في أوائل السبعينيات مع تصاعد الوعي الوطني والاجتماعي. وكان الانتصار نتيجة طبيعية لمسار طويل من التنظيم والمثابرة والتضحيات. من الماضي إلى الحاضر: استمرارية المشروع على مدى خمسين عامًا، بقيت الجبهة وفية لرسالتها الأولى: الدفاع عن الإنسان الفلسطيني وحقه في التحرر والاستقلال والمساواة والكرامة. وعلى رغم التحديات والتحولات، بقيت الجبهة مدرسة سياسية تخرّج منها المئات من الكوادر التي حملت فكرها إلى ميادين النضال المختلفة. في العقود الأخيرة، ومع تصاعد التشتت السياسي، بقيت تجربة جبهة الناصرة تذكيرًا بأن القوة في التنظيم والوضوح والالتزام الجماعي هو أساس كل تقدم. فما تحقق عام 1975 لم يكن نتيجة شعار أو حملة إعلامية، بل ثمرة عمل شعبي منظم، وإيمان بأن النضال السياسي ليست مهنة بل تضحية عامة ومسؤولية أخلاقية تجاه الناس. استعادة الزخم الديمقراطي في الناصرة احياء الذكرى الخمسين لانتصار جبهة الناصرة الديمقراطية ليست مجرد مناسبة احتفالية بل هي دعوة إلى أعادة تقييم المسار واستعادة المشروع الوطني – الاجتماعي في ظل الظروف الحالية، خاصة في مواجهة اللجنة المعيّنة. لقد أثبتت الجبهة أن الكرامة الوطنية لا تنفصل عن العدالة الاجتماعية، وأن بناء مجتمع متماسك يحتاج إلى وعي نقدي وتنظيم وطني ديمقراطي، لا إلى شعارات عابرة. كما أن إرثها يدعونا اليوم، في زمن الأزمات والانقسامات، إلى إعادة صياغة مشروع وطني تقدّمي يستعيد الثقة بالعمل الجماعي والمشاركة الشعبية. إن النظر إلى هذا الانتصار اليوم، في ظل الأزمات التي تعيشها الناصرة واللجنة المعينة التي تدير شؤون المدينة، يتيح استخلاص دروس حيوية لإعادة إطلاق النضال الديمقراطي تحت قيادة جبهة الناصرة الديمقراطية بقيادة الحزب الشيوعي ، كقوة مركزية لتوجيه العمل الشعبي والسياسي ولتوحيد كل القوى المخلصة والتي قلبها على الناصرة . دروس الانتصار التاريخي أول درس يبرز من تجربة الجبهة هو قوة الوحدة الشعبية. فقد تمكنت القوى الوطنية والتقدمية في الناصرة من توحيد طاقاتها وتجاوز الحسابات الحزبية الضيقة، لتقديم برنامج سياسي واضح يلامس احتياجات المواطنين اليومية. درس آخر مهم هو التنظيم الميداني الذي اعتمد على العلاقة اليومية مع الجمهور من خلال زيارات الأحياء، حملات التوعية وتوثيق المطالب الشعبية، ما مكّن الجبهة من كسب ثقة السكان وإشراكهم في القرار السياسي. كما تُبرز تجربة جبهة الناصرة أهمية البرامج الملموسة والواضحة، إذ كان انتصار الجبهة مبنياً على حلول عملية لمشاكل التعليم، الإسكان، الصحة والنقل وتوسيع مسطح المدينة. لم يكن الانتصار فقط شعارات، بل خطوات واقعية شعر بها المواطن. إضافة إلى ذلك، لعب الإعلام والتواصل الثقافي دوراً محورياً في نشر الوعي، وتوثيق الإنجازات، وكشف قصور القوى التقليدية المرتبطة مع السلطة وأجهزتها ألأمنية والحزبية وهو ما أكسب الجبهة ثقة الجمهور واستدامة نفوذها السياسي. دور جبهة الناصرة في إعادة إطلاق النضال من أجل استعادة المكانة الوطنية للناصرة اليوم، وإزاء وجود اللجنة المعينة وما تمر به الناصرة من أزمات، فان قيادة الجبهة هي ضرورة استراتيجية لانقاذ البلد واستعادة المكانة الوطنية للناصرة كعاصمة للجماهير العربية الفلسطينية في البلاد¸ فالجبهة تمتلك الخبرة التاريخية والتنظيمية التي تمكّنها من توحيد جميع مركبات المجتمع في الناصرة وتوجيههم نحو برنامج واضح وفعّال، مع المحافظة على الطابع الشعبي الجماهيري والعمل الميداني. ارث الوعي والكرامة خمسون عامًا مرّت، وما زالت الناصرة تحمل آثار تلك التجربة المجيدة. إن إرث جبهة الناصرة الديمقراطية هو رسالة للمستقبل: جدران البلدية القديمة، ساحة العين، أصوات المهرجانات والمظاهرات، كلها تشهد على زمنٍ آمن فيه الناس بأن بإمكانهم أن يصنعوا التغيير بأيديهم. اليوم، حين نحيي الذكرى الخمسين لانتصار جبهة الناصرة الديمقراطية، فإننا نكرّم إرث الوعي والكرامة والإنسانية الذي تركه روادها. إنها ليست ذكرى فوز انتخابي، بل ذكرى انتصار الروح الشعبية على الخضوع، وانتصار الفكر الوطني التقدّمي على الانقسام والهيمنة. إن استعادة الزخم الديمقراطي في الناصرة لا يمكن أن يتم إلا من خلال التعلم من الدروس التاريخية، توحيد القوى الشعبية، وضمان قيادة مركزية فعالة. جبهة الناصرة الديمقراطية، بخبرتها وتنظيمها، هي الأقدر على قيادة هذا المسار، عبر الجمع بين العمل الشعبي الميداني، البرنامج الواقعي والمراقبة المستمرة للجنة المعينة. إن إعادة بناء النضال الديمقراطي في الناصرة ليس مجرد هدف سياسي، بل ضرورة اجتماعية وثقافية لحماية مصالح المدينة ومواطنيها، وضمان مستقبل يعكس إرادة الجماهير والتزامها بالعدالة والمساواة. جبهة الناصرة الديمقراطية - بعد نصف قرن - ما زالت رمزًا لمسيرة لم تنتهِ، ومسؤولية ما زالت مستمرة: أن نحافظ على المدينة منارة للوعي الوطني الفلسطيني والوعي الاجتماعي، والاهم على الإنسان كمحور لكل سياسة، وعلى الذاكرة الحيّة في وجدان الأجيال القادمة. الناصرة – كانون الأول 2025