كنا قد ختمنا الحلقة الفائتة بالتساؤل التالي : كيف كان أن وضعنا المتخلف لم يسمح لنا بقراءة صحيحة للغة وعد بلفور الملتوية؟ في محاولة الإجابة سأبدأ بالتالي : في مؤتمر بازل الثاني 1898 تم الفصل في عروض الوطن البديل لليهود باختيار فلسطين. وكان أن المؤتمرين رأوا أن رعاية دولة عظمى تشكل الضمانة لإحراز النجاح. تم تشكيل وفد برئاسة هرتزل لزيارة عواصم الإمبراطوريات ؛ برلين، لندن، باريس، فيينا، موسكو، واسطنبول لعرض المشروع على قياداتها، استنادا لقاعدة تبادل الخدمات. عرض الوفد حل المشكلات المالية لكل من روسيا والخلافة العثمانية، رعاية وحماية المصالح للآخرين وحراسة قناة السويس للبريطانيين خاصة.لم يتلق الوفد ردا إيجابيا من أي منها. استمر هذا الحال حتى قرب نهاية الحرب العالمية الأولى،حيث الهزيمة كانت في انتظار دول المحور ؛ ألمانيا، النمسا - المجر، والخلافة العثمانية. بدا لبريطانيا أن تقاسم الممتلكات العثمانية في آسيا العربية - سايكس بيكو - سيعظم مصالحها في بلاد العرب، وربما الاحتياج لشيء من المساعدة في رعاية وحماية هذه المصالح، حراسة قناة السويس مثالا. وكان أن غدا هذا الاحتياج ملحا بانسحاب روسيا من شراكة سايكس بيكو بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى، وظهور خطر انتشار أفكارها في المستعمرات العربية. هكذا توافرت كل عوامل حدوث انعطافة تجاه طلب الرعاية الذي كان قد تقدم به الوفد الصهيوني للحكومة البريطانية قبل عشرين عاما، وحيث توجت الانعطافة بوعد بلفور.ما يعنينا هنا أن لغة الوعد، مثلها مثل لغات سائر الوعود البريطانية، جاءت ملتبسة،مراوغة، وملتوية، فَقابلة لأكثر من قراءة.كيف؟ وردت في النص العبارة التالية :" His Majesty;s government view with favour the establishment in Palestine of a national home ". وفي الترجمة الرسمية العربية :" إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين ". ثم تلتها العبارة التالية : ".. it being clearly understood that nothing shall be done which may prejudice the civil and religious rights of existing non-jewish population communities in Palestine ''. وفي الترجمة العربية : ".. على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين ". حرف الجر in، في، كان مصدرا للالتباس. إذ ما الذي يعنيه تعبير في فلسطين؟ في جزء منها؟ أم فيها كلها؟ وهل يعني الاعتراف لكل الفلسطينيين بحقوق مدنية ودينية، فيما تصادر حقوقهم السياسية وفي مقدمتها حقهم في تقرير المصير والاستقلال؟ أم هل يعني ضمانَها - المدنية والدينية - لذلك الجزء من الفلسطينيين الذين سيَشكلون أقلية في الوطن القومي اليهودي الذي سيقام على جزء من فلسطين؟ القراءة الفلسطينية والعربية قالت فيها كلها ومصادرة الحقوق السياسية بما في ذلك الحق في تقرير المصير، فيما التطبيق البريطاني لخارطة الطريق التي نص عليها صك الانتداب الصادر عن الشرعية الدولية الجديدة - عصبة الأمم -، قال: بل في جزء من فلسطين. فكيف كان ذلك؟ كانت بريطانيا التي دخل جيشها فلسطين بقيادة الجنرال اللنبي في آذار من العام 1917، و أكملت احتلالها نهاية العام، لا تحتاج عونا في حال لو كان الهدف استعمار فلسطين فقط. لكن وعدها بإقامة الوطن القومي اليهودي ألزمها بطلب دعم الولايات المتحدة حليفتها في الحرب العالمية الأولى. هذه الحليفة التي رحبت بطلب الدعم ساندت بريطانيا في استصدار وعد عالمي، تبني عالمي لِمشروع الوطن القومي اليهودي العام 1922، عرف باسم صك الانتداب. كلف الصك بريطانيا تطبيق خارطة الطريق التي رسمها المجتمع الدولي. بموجبها حولت بريطانيا حكمها العسكري لفلسطين إلى إدارة مدنية يقف على رأسها مندوب سامي بريطاني، تحددتْ مهامها في تأهيل أهل البلاد لحكمها بأنفسهم. أعادت الإدارة العليا تقسيم فلسطين إداريا ؛ ألوية، أقضية.. الخ، وأنشأت في كل منها إدارة جديدة وظفت فيها، إلى جانب الرؤساء البريطانيين، يهودا وفلسطينيين، ممن تسمح كفاءاتهم بذلك. البداية جاءت بعدد من الموظفين اليهود، تفوق نسبة تعدادهم في البلاد، نسبة نظرائهم الفلسطينيين، فيما بدا محاباة لهم آنذاك. كذلك أنشأت الإدارة الجديدة كلية إدارة وقانون، مهمتها رفد الإدارات بالموظفين. استقبلت الكلية طلابا فلسطينيين ويهود، كانت قدرات الطالب هي المقرر في القبول. يلفت انتباه الباحث أن قامات وطنية فلسطينية بحجم عبد القادر الحسيني، يحيى حموده، موسى العلمي، عوني عبد الهادي، وغيرهم كثير، حصلوا على غير قليل من تأهيلهم في هذه الإدارات. ولم يكن ذلك كل شيء. وقع الاحتلال البريطاني لفلسطين وهي تفتقر لطبقة سياسية، كانت الإدارة العثمانية قد حالت دون نشوئها. كان من الطبيعي أن يتقدم أصحاب النفوذ الاجتماعي - الإقطاعيون وملاك الأرض الكبار، التجار، المتعلمون.. إلخ - لملء الفراغ. كما اعتادوا في العهد العثماني وما سبقه، واصلوا في البداية نقل شكاوى وطلبات الأهالي إلى الحكام العسكريين، وفيما بعد إلى المندوب السامي ورؤساء الإدارات المدنية. ثم كان أن الوضع الجديد، الانفتاح على العالم، الحراك الشعبي المتعاظم، قد سرَّع في نمو وتطوير الوعي السياسي، فولادة أحزاب سياسية وظهور سياسيين بقدر مقبول ومتنامي من الأهلية والكفاءة السياسية، وإن بقيت أقل من المطلوب، قياسا بتطور وتعقد القضية الوطنية. سار الأمر هكذا حتى الإضراب الكبير العام 1936 والثورة المسلحة التي تلته في العام 1937، حيث اتضح للقيادات السياسية أن المنهج السابق في نقل الشكاوى والمطالب للبريطانيين قد عفا عليه الزمن. ذلك أن المندوب السامي كان قد قابل بالرفض كل مطالب الثوار. هكذا دفعت الأحداث بالفعل السياسي إلى البحث عن شكل وأسلوب جديد، تبلور في شكل لجبهة وطنية، وقيادة موحدة عرفت باللجنة العربية العليا، ولكن.. لكن سير الأحداث كشف للقيادة الجديدة أن القضية الوطنية أكبر بكثير من قدرات وإمكانيات الشعب الفلسطيني، الأمر الذي حدا بها إلى طلب العون العربي، بداية للتوسط لدى بريطانيا بعرض الاستجابة للحد المعقول فَالمقبول من مطالب الثورة. عون أوجد ويوجد إشكالية لكل باحث جاد. كيف؟ قلنا في المقال السابق أنه في كل عمر الحقبة العثمانية، و حتى بداية الحرب العالمية الأولى، لم تكن هناك دولة عربية واحدة مستقلة. لكن بعدها وحتى العام 1937 كانت قد نشأت عبر مسار معقد، و بالتوجيه والعناية البريطانية، ثلاث ممالك في السعودية، العراق، والأردن، سبقتها اليمن ومصر. وكان الملفت للنظر أن هذه الممالك، بشبه استقلالها، لا يجمعها رابط من أي نوع كان، وعلى العكس سادت بينها حالة تنافس وعداء. بالرغم من ذلك حضر إلى فلسطين من قيل أنه يمثلها، وهو الأمير - الملك فيما بعد - سعود بن عبد العزيز، ثم أخوه فيصل بن عبد العزيز آل سعود. ليس المهم هنا من استدعاه، أو من طلب العون، بريطانيا أو فلسطين، المهم أن وساطته نجحت في وقف الثورة تجاوبا مع وعود استند في تنفيذها لما وصفه هو بعدالة الصديقة بريطانيا، ولكن.. لكن، اتضح أن بريطانيا كانت قد رأت أنها أوفت بشروط إقامة الوطن القومي اليهودي في ذلك الجزء الذي شهد كثافة استيطانية، ووفرت تفوقا عدديا على نظرائهم الفلسطينيين، بما في ذلك في المدن المختلطة، ومعه تفوق في عدد المستوطنات على جاراتها القرى الفلسطينية، وفوق ذلك ملكية مناسبة من الأرض. لكل ذلك شكلت بريطانيا لجنة تقصي وتحقيق، رفعت في نهاية عملها تقريرا يوصي بتقسيم فلسطين، والاكتفاء بإقامة الوطن القومي اليهودي في ذلك الجزء الصغير الذي وفر الشروط آنفة الذكر. بريطانيا ظنت أنها بذلك حسمت النقاش حول الالتباس الذي أتى به حرف الجر في : وطن قومي في كل فلسطين أم في جزء منها. في النتيجة كان أننا رفضنا القرار وسحبته بريطانيا. اعتقدنا أن العرب خذلونا. استأنفنا الثورة التي تواصلت حتى نهاية العام 1939. نجحت بريطانيا في سحقها وفي كسر ظهر شعبنا. ولكن مرة ثالثة. لكن بريطانيا بالرغم من انشغالها في الحرب العالمية الثانية، بدا أنها واصلت القناعة بإنجازها لشروط إقامة الوطن القومي اليهودي. صحيح أن تعداد اليهود قفز قفزات كبيرة في السنوات العشر التي تلت تقسيم بيل، وصحيح أن ملكيتهم للأرض ازدادت بذات النسبة تقريبا، لكن الصحيح أيضا عند بريطانيا أن الشروط كانت متوافرة في جزء ما زال صغيرا من فلسطين وليس فيها كلها. انعكس ذلك في تتابع تشكيل وعمل لجان التحقيق، وتقديم مشاريع التقسيم التي كان آخرها قرار 181، وكلها تحصر الوطن اليهودي في ذلك الجزء الذي تتوافر فيه الشروط، وحيث كان في تقسيم 181 يقارب 40% من أرض فلسطين الصالحة للاستثمار، وقرابة 25% من كامل أرض فلسطين. ما يثير انتباه واهتمام الباحث في كل هذه القرارات، إصرار بريطانيا، ثم الولايات المتحدة، فَالامم المتحدة، على الاعتراف بحق أهل فلسطين في تقرير المصير، وتجسيد هذا الحق في دولة مستقلة، تتوفر لها كل مقدرات الدولة المستقلة، ومن بينها حظوة بعضوية كاملة في الأمم المتحدة، وندية لشقيقاتها العربيات. خلاصة الأمر أن قيادتنا قرأت كل محاولات الحل، كل القرارات قراءة خاطئة توجتها بالرفض عملا بقاعدة يا بربحو كله يا بخسرو كله. فكان أن ذهبنا إلى ما نحن فيه، نرضى ونتسول العالم بأقل من نصف ما كان مقررا لنا. المؤلم أننا بعد كل تجاربنا المريرة هذه، نقف على شفا تكرار ما هو أكثر إيلاما من نكبة العام 47. نحتكم إلى ذات القاعدة ونعمل بها. وحيث حال سياسيينا كمن يجلسون حول مائدة قمار، لا كمن يصارعون في ساحة نضال. كيف؟