تعدّ الذاكرة الجماعية أحد الحقول المركزية في الدراسات الثقافية والأنثروبولوجية المعاصرة، إذ تشكّل الإطار الذي تُعاد من خلاله صياغة الماضي بوصفه عنصرًا فاعلًا في الحاضر، ومحددًا للهوية والانتماء. وفي السياق الفلسطيني، حيث تتقاطع التجربة الاستعمارية مع النكبات المستمرة، برز الفن بوصفه أحد أهم وسائط حفظ الذاكرة ومقاومة محوها. ضمن هذا الإطار، يحتل الفنان الفلسطيني محمد بكري موقعًا إشكاليًا ومركزيًا، ليس فقط كممثل مسرحي وسينمائي(مخرج وممثل )، بل كمثقف فاعل جعل من الفن أداةً لتفكيك السرديات المهيمنة وإعادة بناء الذاكرة الجماعية الفلسطينية. ينتمي محمد بكري إلى جيل الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم بعد نكبة 1948، وهو ما منح تجربته الفنية بعدًا خاصًا، يتجاوز الأداء الجمالي إلى موقع الشاهد والناقل للتجربة الجمعية. فلم يكن حضوره الفني محايدًا أو منفصلًا عن سياقه التاريخي، بل اتسم منذ بداياته المسرحية والسينمائية بانحياز واضح للإنسان الفلسطيني بوصفه ذاتًا تاريخية مكسورة، لكنها فاعلة. في أعماله التمثيلية، سواء في المسرح أو السينما، غالبًا ما جسّد بكري شخصيات تعيش التوتر بين القهر والرفض، بين الصمت والكلام، وهو توتر يعكس بنية الذاكرة الفلسطينية ذاتها، حيث يمتزج التذكر بالألم، والسرد بالفعل السياسي. يُشكّل فيلم "جنين جنين " (2002) ذروة في مشروع صياغة الذاكرة لدى محمد بكري. فالفيلم لا يقدّم رواية تاريخية تقليدية، ولا يسعى إلى التوثيق الأرشيفي البارد فحسب، بل يعتمد على الشهادة الشفوية بوصفها مصدرًا للمعرفة التاريخية. هنا، تتحول الذاكرة الفردية للناجين إلى لبنة في بناء ذاكرة جماعية مضادة للسردية الرسمية الإسرائيلية. تكمن أهمية الفيلم في أنه أعاد الاعتبار لما يسميه موريس هالبفاكس «الذاكرة الجماعية الحيّة»، أي تلك التي تُنتج داخل الجماعة ومن أجلها، لا داخل مؤسسات السلطة. لقد منح بكري الكاميرا للضحايا، وجعل من أصواتهم المكسورة خطابًا تاريخيًا مشروعًا، الأمر الذي يفسّر حجم الهجوم السياسي والقضائي الذي تعرّض له العمل وصاحبه. لا يتعامل محمد بكري مع الذاكرة بوصفها حنينًا إلى الماضي، بل كفعل معارض للطمس. فالفن لديه مرتبط بمفهوم الصدمة الجمعية، حيث تتحول النكبة، والمجازر، والاقتلاع، إلى أحداث مؤسسة للهوية. ومن خلال الأداء الصوتي، ونبرة الحكي، ولغة الجسد، يسهم بكري في تحويل الصدمة من حالة شلل إلى مادة للتفكير والسؤال. بهذا المعنى، يقترب مشروعه من تصورات يان أسمان حول «الذاكرة الثقافية»، حيث تصبح الأعمال الفنية وسائط لنقل التجربة التاريخية عبر الأجيال، خارج حدود التوثيق الأكاديمي الصارم، ولكن دون التفريط بالحقيقة. لا يمكن فصل تجربة محمد بكري الفنية عن بعدها الأخلاقي. فإصراره على سرد الرواية الفلسطينية، رغم ما ترتب عليه من ملاحقات قانونية وإقصاء مؤسساتي، يكشف عن وعي عميق بدور الفنان كمثقف عمومي. لقد تحوّل بكري من فنان يؤدي أدوارًا، إلى فاعل في حقل الذاكرة، يعيد مساءلة العلاقة بين الفن والسلطة، وبين الرواية والعدالة. إن دوره في صياغة الذاكرة الجماعية لا يكمن فقط في ما قاله، بل في إصراره على القول، وفي جعل الذاكرة الفلسطينية مرئية ومسموعة في فضاء يسعى باستمرار إلى إنكارها. بين الذاكرة المضادة والذاكرة المتجاورة : على خلاف القراءة الشائعة التي تختزل مشروع محمد بكري في كونه فعل إدانة أحادي للسردية الإسرائيلية، تكشف بعض أعماله – ولا سيما الفيلم التسجيلي "من وراء القضبان" (1984) – عن انتقال نوعي من خطاب الذاكرة المضادة إلى ما يمكن تسميته الذاكرة المتجاورة أو الذاكرة المزدوجة غير المتصالحة. ففي هذا العمل، لا يقدّم بكري الذاكرة الفلسطينية بوصفها سردية مغلقة على ذاتها، بل يضعها في تماس مباشر مع ذاكرة الطرف الآخر، داخل فضاء مكثف هو السجن. السجن هنا ليس مجرد مكان فيزيائي، بل بنية رمزية تتقاطع فيها الذاكرتان: ذاكرة السجين الفلسطيني بوصفه ضحية استمرار القمع والسيطرة، وذاكرة السجان الإسرائيلي بوصفه فردًا يعمل داخل جهاز سلطوي يحمل بدوره تصورات تاريخية وخوفًا وجوديًا خاصًا به. يتميّز "من وراء القضبان " بجرأته في تفكيك ثنائية الجلاد والضحية دون تذويبهما أخلاقيًا. فالفيلم لا يساوي بين الطرفين، لكنه يكشف كيف تعمل الذاكرة لدى كل منهما بوصفها نظام تبرير وتفسير للواقع. السجين الفلسطيني يستدعي تاريخ الاقتلاع والنكبة ومحاولة رفض الواقع الناتج عنهما، بينما يستحضر السجان سردية الأمن والخطر والواجب القومي. تكمن القيمة التحليلية للعمل في أن بكري لا يتدخل بوصفه قاضيًا، بل بوصفه منظّمًا للفضاء السردي، يسمح للذاكرتين أن تنطق كل منهما بمنطقها الخاص. وبهذا، يتحول الفيلم إلى مختبر سردي يبيّن أن الصراع ليس فقط صراعًا على الأرض، بل صراعًا على المعنى والذاكرة. في مسرحية أخرى مثل "المتشائل" (عن رواية إميل حبيبي الوقائع الغريبة...)، يستخدم محمد بكري صوته وجسده بوصفهما أدوات لنقل ذاكرة مركّبة. ففي "المتشائل"، تتجسد الذاكرة الفلسطينية داخل الخط الأخضر بوصفها ذاكرة مزدوجة أصلًا: ذاكرة مواطن يعيش داخل دولة دأبت على نفي روايته التاريخية. هذا الأداء القائم على السخرية السوداء، والانكسار، والتوتر اللغوي، يعكس ما يمكن تسميته "ذاكرة العيش في التناقض"، حيث لا يعود الصراع خارجيًا فقط، بل داخليًا أيضًا، متجسدًا في اللغة، والهوية، والوعي اليومي. الذاكرة المزدوجة وحدود التعاطف: لا يسعى بكري في هذه الأعمال إلى خلق مصالحة سردية زائفة، بل يكشف حدود التعاطف الممكن. فالذاكرة المزدوجة التي يصوغها ليست مشروع سلام ثقافي، بل مشروع كشف. إذ يبيّن أن التعايش بين الذاكرتين يتم داخل بنية قسرية غير متكافئة، ما يجعل أي تماثل أخلاقي مستحيلًا. هذا المعنى، تلتقي أعمال بكري مع أطروحات الذاكرة النقدية لدى باحثين مثل رونيت لينتين، الذين يرون أن الاعتراف بذاكرة الآخر لا يعني التخلي عن مساءلة البنية التي تنتج الصراع. في صياغته للذاكرة المزدوجة، يتحول محمد بكري إلى وسيط ذاكرة (memory mediator)، لا ينتمي بالكامل إلى أي من السرديتين، لكنه لا يقف خارج الصراع. فهو فلسطيني الهوية، واضح الانحياز، لكنه في الوقت ذاته يغامر فنيًا بفتح مساحة مواجهة سردية نادرة في الثقافة البصرية الإسرائيلية–الفلسطينية. هذا الموقع الوسيط هو ما يمنح أعماله قيمة بحثية خاصة، إذ تتيح قراءة الذاكرة ليس فقط كمحتوى، بل كبنية تفاعلية تتشكل عبر الحوار، والهيمنة، والصمت، والانكسار. من التجاور إلى تمازج الذاكرة: إذا كان فيلم "من وراء القضبان" قد وضع الذاكرتين الفلسطينية والإسرائيلية في حالة تجاور قسري داخل فضاء السجن، فإن فيلم "قطرة" يذهب خطوة أبعد، نحو ما يمكن تسميته تمازجًا سرديًا هشًا للذاكرتين، حيث لا تعود الحدود الفاصلة بين المعاناة واضحة أو صلبة. في هذا العمل، لا تُعرض الذاكرة بوصفها ملكًا حصريًا لجماعة قومية واحدة، بل كحقل ألم إنساني مشترك، وإن كان غير متكافئ في أسبابه وبنيته السياسية. العنوان ذاته، "قطرة"، يحيل العمل السينمائي إلى وحدة شعورية صغيرة، فردية، لكنها كثيفة الدلالة: قطرة دواء، قطرة ماء، قطرة ذاكرة، تختزل مسارًا طويلًا من العنف والخوف والفقدان. المعاناة الفردية بوصفها نقطة التقاء : يشتغل فيلم "قطرة" على المعاناة الفردية لا بوصفها نقيضًا للذاكرة الجماعية، بل كمدخل إليها. فالشخصيات لا تمثّل "الشعب" أو "الأمة" بشكل مباشر، وإنما تحمل جراحًا شخصية تتقاطع – في لحظة ما – مع جراح الآخر. هنا، يتخلى محمد بكري عن خطاب الشهادة الجماعية الصريح، لصالح سردية صامتة نسبيًا، تُبنى على الإيماءة، والنظرة، والفراغ، أكثر مما تُبنى على الخطاب.هذا الاختيار الجمالي يتيح للذاكرتين أن تلتقيا على مستوى الإحساس، لا على مستوى الرواية التاريخية المتصارعة. التماثل الشعوري دون تماثل تاريخي: تكمن أهمية "قطرة" في دقته الأخلاقية: فالفيلم ينجح في إنتاج تماثل شعوري (symmetry of suffering) دون السقوط في تماثل تاريخي أو سياسي. المعاناة هنا مشتركة من حيث الإحساس الإنساني بالألم والخسارة، لكنها غير مشتركة من حيث السياق البنيوي الذي أنتجها. بهذا، يتجاوز بكري فخ "الأنسنة المجردة" التي تُفرغ الصراع من علاقات القوة، ويقدّم بدلًا منها " أنسنة نقدية"، تُظهر الألم المشترك دون إنكار أن أحد الطرفين يعيش هذا الألم من موقع الهيمنة، والآخر من موقع الخضوع لها. في "قطرة"، يصبح الجسد هو الأرشيف الأساسي للذاكرة. لا خطابًا سياسيًا مباشرًا، ولا استدعاء صريحًا للنكبة أو الاحتلال، بل جسد يحمل آثار الصدمة: ارتباك، صمت طويل، نظرات مترددة. هذا الاشتغال يتقاطع مع نظريات "ذاكرة الصدمة"، حيث تُختزن الذاكرة خارج اللغة، في الإحساس الجسدي. ففيه يوظّف محمد بكري، كممثل، حضوره الجسدي والصوتي المحدود ليجسّد هذا النوع من الذاكرة «المكتومة»، حيث لا يتكلم الألم، بل يُرى. مع ذلك، لا يقدّم الفيلم لحظة مصالحة أو تطهير. فتمازج الذاكرتين يظل لحظيًا، هشًا، وقابلًا للانكسار. لا يُقترح اللقاء بوصفه حلًا للصراع، بل بوصفه كشفًا لعمقه الإنساني وتعقيده الأخلاقي. وبهذا، يحافظ بكري على توتر العمل، رافضًا إغلاق الجرح سرديًا. يمكن النظر إلى «قطرة» بوصفه العمل الأكثر تجريبية وهدوءً في مشروع محمد بكري الصائغ للذاكرة. فهو لا يصادم السردية الإسرائيلية مباشرة كما في "جنين جنين"، ولا يضعها في مواجهة كلامية مع السردية الفلسطينية كما في "من وراء القضبان" بل يختبر إمكانية التقاء الألم الإنساني دون رفع الصراع عن جذوره السياسية. تكشف أعمال محمد بكري، ولا سيما "من وراء القضبان" و"المتشائل" و"قطرة"، عن تطور مهم في تعاطيه مع الذاكرة الجماعية، من توثيق الصدمة الفلسطينية إلى تفكيك آليات إنتاج الذاكرة لدى طرفي الصراع. وفي هذا التحول، لا يفقد بكري بوصلته الأخلاقية، بل يعمّقها، جاعلًا من الفن مساحة اشتباك معرفي، لا تسوية سياسية. وعليه يمكن القول إن محمد بكري أسهم، عبر مشروعه الفني المتعدد الوسائط، في ترسيخ نموذج للفنان الفلسطيني بوصفه حاملًا للذاكرة الجماعية، لا ناقلًا محايدًا لها. لقد جعل من الفن أداة أبية على النسيان، ومن الذاكرة ساحة صراع رمزي وسياسي، مؤكّدًا أن الصراع على الرواية والسردية لا يقل أهمية عن الصراع على الأرض. وبهذا، يغدو محمد بكري أحد الوجوه البارزة في تاريخ الثقافة الفلسطينية المعاصرة، حيث يتقاطع الإبداع مع الشهادة الحية، والجمال مع الالتزام.