المتابع لتصريحات قادتنا السياسيين، لكتابات أغلبية كتاب الأعمدة في صحافتنا الوطنية، نقاشات و حوارات المثقفين، يخرج بنتيجة واحدة : أن قرار مجلس الأمن 2803، والجهود الرامية إلى الانتقال من الهدنة في غزة إلى استكمال المراحل التالية، وصولا لبدء الإعمار، ما هي إلا شر مستطير، وخطر وجودي علينا التصدي له وإحباطه بكل السبل. وإذا تجرأت وسألت أحدهم : وماذا بعد ذلك؟ ينهال عليك بتعداد سلبيات خطة ترامب التي غدت القرار المذكور بعد التعديلات من هذا الطرف أو من ذاك. والخلاصة أن المصلحة الوطنية العليا تقضي بالعودة مجددا لنقطة الصفر. لا أظن أن أحدا لا يرى أن قرار مجلس الأمن هذا، وما توصف بخطة السلام المبنية عليه، مليء بالعيوب. عيوب تنتقص من مكاسب نضالنا الطويل، ومن حقوق شعبنا السياسية، وفي مقدمتها حقنا في تقرير المصير، إنهاء الاحتلال فالاستقلال. ولا أظن أيضا أن أحدا ينسى أن ترامب والطاقم الذي أعد خطة العشرين بندا التي عدت قرار مجلس الأمن، ليسوا أصدقاء لشعبنا، ليسوا طرفا محايدا، ليسوا فاعلي خير، وليسوا حكما لديه شيء من النزاهة. وفوق هذا وذاك لا يزعم ترامب أنه صديق للشعوب المغلوبة على أمرها، أو مسكونا بالدفاع عن الديمقراطية، حقوق الإنسان والحريات، وغيرها من مكونات المعزوفة الأمريكية والغربية البالية. ولمن لا يقر بهذه الحقيقة عاودت إدارة ترامب التذكير بثبات موقفها من رفض حق شعبنا الفلسطيني في تقرير المصير، بوقوفها في الجمعية العامة للأمم المتحدة عارية مع إسرائيل في وجه الإجماع العالمي يوم الاثنين الفائت. إضافة لكل ذلك، لا أظن أن أحدا لا يعرف بأن ترامب صهيوني متعصب، أقرب لبن غفير و لسموتريتش مِنه لِغانتس، لبيد، غولان وباقي يمين الوسط. وفقط فاقد أي معرفة بالسياسة من يتوقع انصافا من عدو مثل هذا. لكن يا سادة أليس نحن، ونحن هذه تعني الفلسطينيين والعرب ومعهم كثرة من المسلمين، مَن سلم هذا القط مفتاح الكرار، كما يقول إخوتنا المصريون؟ فما الذي كنا ننتظر منه غير ذلك؟ ثم ألا يعرف أي سياسي مبتدئ أن اتفاقيات حل نزاع بلا نصر كامل لطرف وهزيمة كاملة للطرف الآخر، تأتي انعكاسا للقائم على الأرض؟ وهذا القائم يصرخ عاليا في غزة: حماس تحتمي في الأنفاق، تخرج خلية لها، بين الفينة والأخرى، تنفذ عملية وتعود للاحتماء بالأنفاق، فيما القوات الإسرائيلية تحتل القطاع، وتعيث فيه قتلا، دمارا، وشللا لأي مظهر إنساني من مظاهر الحياة. وأكثر من ذلك تنتظر بادرة ضعف في الجوار كي تباشر تنفيذ مخطط التهجير القسري، وإنهاء القضية الفلسطينية برمتها. وهنا أسأل: ألا يعكس قرار مجلس الأمن هذا الحال؟ ولكن ألا يضع بعض اللمسات للخروج منه؟ مع ذلك وبالرغم من ذلك، ألا نعرف أن نتنياهو وحكومته الفاشية تعارض هذا القرار وتوظف كل قدراتها وطاقاتها لِإفشاله؟ ألا نعرف أن أغلى أماني نتنياهو وحكومته أن يعود الحال لنقطة الصفر، فإطلاق يدي قواته في إعادة تشغيل مسلسل عدوان الإبادة لأكثر من مليوني غزي بكامل أطواره وطبقاته : محرقة، مقتلة، مقصلة، مطحنة، معجنة، مغسلة في فصل الشتاء، محمصة في الصيف، وما لا يخطر على بال إبليس ذاته؟ إذا، ألا يحق للمواطن البسيط منا أن يتساءل : تحت أي تصنيف علينا أن نضع توجيهات كتابنا و قياداتنا السياسية؟ ثم هل حقا لا يحتوي القرار 2803 على أية نقاط إيجابية؟ نعم صحيح أن ترامب هو في الأصل تاجر عقارات. وهو سيد الصفقات حسب الوصف المحبب لكتابنا. لكن ترامب هو أيضا من يقود دولة هي الأعظم حتى الآن. وهو من اعترف في شعار حملته الانتخابية "لنعيد أميركا عظيمة ثانية"، أن عظمة دولته تتآكل. تعيش وتواصل حالة انحدار سَتحرمها من استمرار انفرادها بالجلوس على قمة قيادة العالم. وعليه يقر ترامب، وهو يرى جماهير العالم، واحتجاجها على جرائم الإبادة الوحشية في غزة، بحقيقة عدم قدرة دولته على إدارة الظهر لغضب ومطالب هذه الجماهير. لهذا ولغيره الكثير كان مضطرا لتضمين مشروعه عددا من النقاط الإيجابية التي واظب كتابنا، مثقفونا، قادة الرأي وقادة تنظيماتِنا وأحزابِنا على التقليد المقدس بعدم الانتباه لأهميتها، بل مددوا هذا التقليد لتجاهل النظر إليها. لماذا؟ لأن الوفاءً للقاعدة الذهبية المقدسة، الموروثة من تراث سياسة المقامرة، والتي فاضت وعمت علينا بركة تطبيقها العام 47: يا نربحه كله يا نخسره كله، يقتضي ذلك. كيف؟ للبحث عن إجابة تعالوا نخرج على تلك القاعدة الذهبية و نُعدد تلك النقاط التي تحتمل الوصف بالإيجابية. أولها يا سادتي أن ترامب تراجع عن مشروع الريفيرا. مزق أوراقه ورماها في سلة المهملات. لم يكتف بذلك. ألزم بن غفير و سموتريتش على لحس مشروعات إعادة الاستيطان في غزة. الإثنانِ بلعا لِسانيهما وصمتا. رأيا البديل في تكثيف نشاطاتهما في الضفة. وثانيها أن البدء في تنفيذ الإعمار ينهي الحصار الإسرائيلي المضروب على غزة منذ 17 عاما. بداية الإعمار، ومن كل بد ستفتح القطاع على العالم من جديد. وثالثها أن تفعيل دور القاعدة العسكرية الأمريكية الأطلسية في قريات غاد سيكف يد إسرائيل عن مواصلة حصار القطاع أمنيا. لا زنانات إسرائيلية تنغص الحياة في غزة، ولا بوارج إسرائيلية تراقب سواحلها وتقطع عيش صياديها. ورابعها أن إعادة الإعمار تقضي بدفن مشروع إسرائيل للتهجير والضم ولو إلى حين. والتقدير أن هذا الحين ذهب ولن يعد. وخامسها أن إعادة الإعمار ترسي أساسات، وتقيم دعائم الصمود الحقيقي لأهلنا في القطاع. بما يعني إسقاط مشروع إسرائيل لإنهاء قضيتنا الوطنية، فَخلق بيئة ومناخ حقيقي للظفر بِ، وتطبيق فعلي لحقنا في كنس الاحتلال وفي الاستقلال والحرية. وسادسا أن إعادة الإعمار ستمكن أخوتنا الغزيين من استعادة كرامتهم المسلوبة، وسَتنفتح أمامهم أبواب ونوافذ هائلة الاتساع لِاجتراح مبادرات شعبية خلاقة، ولبناء وطني جديد يحمل كل تباشير الأمل في وطن حر وسعيد. قيادات تنظيماتنا، فصائلنا، أحزابنا ليست عمياء. هي ترى كل ذلك. تراه ولكنها لا تريده. لماذا؟ لأن الآني الآخر من القرار 2803 يستبعد دورها. لا يستجيب لِطموحاتها وأهدافها الوطنية المشروعة، يرجئ تطبيق نتائج نضالاتها..الخ. وهي لذلك تستدعي تراثها في سياسة المقامرة، خصوصا ذلك الجزء من العام 47، وتعمل على إحيائه حرفيا، ولتكن النتيجة ما تكون. كيف؟ الإجابة في المقال القادم.