أشارت نتائج الانتخابات الرئاسية في تشيلي وهندوراس إلى خسارة المرشّحين المحسوبين على التيار اليساري، وتقدّم اليمين المتطرّف. جاء هذا التقدّم لليمين في الوقت نفسه الذي كانت فيه الإدارة الأميركية تعلن عن استراتيجيتها الأمنية، والتي ركّزت بوضوح على نصف الكرة الغربي، وأشارت من دون لبس إلى أنّ المقصود هو دول أميركا الجنوبية، بإعادتها تكريس مبدأ مونرو، وإضافة ملحق ترامب إليه، ليحكم علاقتها مع جاراتها الجنوبيات. إذا احتكمنا إلى لغة الصناديق والأرقام، فاليسار خسر في هاتين الدولتين، وقبلهما في الأرجنتين وبوليفيا، والسلفادور. يتفاقم هذا الشعور بالخسارة تحت وطأة الحملة الإعلامية التي يشنّها الإعلام المموّل غربياً، محاولاً تصوير الولايات المتحدة بصورة من يحقّق الانتصار النهائي، إذ لم يتبقَّ أمام إعلان هذا الانتصار سوى فنزويلا المحاصرة، وكولومبيا المقبلة على انتخابات رئاسية عام 2026. ما هو مبدأ مونرو، الذي تحدّثت عنه الاستراتيجية الأمنية الأميركية؟ في العام 1823 أطلق الرئيس الأميركي جيمس مونرو تصريحاً يتعلّق بدعم الولايات المتحدة لاستقلال المستعمرات الأوروبية في أميركا اللاتينية، ورفضها أيّ عملية استعمارية جديدة في المنطقة. اعتبر ثوّار أميركا اللاتينية، ومنهم سيمون بوليفار، هذا المبدأ مناوئاً للاستعمار. خلال السنوات اللاحقة، ومع تعاظم قوة الولايات المتحدة الأميركية تحوّل مبدأ مونرو إلى أداة استعمارية تستعملها الجارة الكبرى لفرض هيمنتها على جاراتها. عام 1904 أضاف الرئيس ثيودور روزفلت (1901 – 1909) إلى مبدأ مونرو ملحقاً يسمح للولايات المتحدة بالتدخّل في أميركا الوسطى والجنوبية في حال ارتكاب أيّ من دولها "مخالفات خطيرة"، وبناء على هذا الملحق تدخّلت قوات المارينز في سانتو دومينغو 1904، ونيكاراغوا 1911، وهاييتي 1915. واستمر مبدأ مونرو – روزفلت في حكم علاقة الولايات المتحدة بنصف الكرة الغربي فبرز في أزمة الصواريخ الكوبية 1962، وفي التدخّل في الدومينكان 1965، وبنما 1989. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أعلن وزير الخارجية الأميركي جون كيري عدم وجود مبرّر لبقاء مبدأ مونرو، وأنّ على الولايات المتحدة بناء علاقاتها مع جاراتها الجنوبية على أساس التعاون المشترك، وانعكس هذا الموقف بتحسّن العلاقات الأميركية الكوبية خلال رئاسة باراك أوباما (2014 – 2017). عاشت أميركا الجنوبية فترة ازدهار للحكومات الوطنية في ظلّ انحسار التدخّل الأميركي في شؤونها، وتوجيه هذا التدخّل نحو مناطق أخرى من العالم، إذ استطاعت القوى اليسارية المناهضة للولايات المتحدة الوصول إلى سدّة الرئاسة في معظم دول أميركا اللاتينية، بما في ذلك دول كان من المعتقد أنها غير قادرة على مغادرة التحالف مع الولايات المتحدة مثل الأرجنتين والمكسيك وكولومبيا. جاءت رئاسة ترامب الأولى لتعلن عن عودة التيار الانعزالي الأميركي، وهو التيار نفسه الذي انتمى إليه الرئيس مونرو، وسرعان ما توجّهت السياسة الأميركية إلى إعادة تصنيف كوبا كدولة راعية للإرهاب وتشديد الحصار عليها، ودعم التيارات اليمينية المحافظة في دول أميركا الجنوبية، فكانت البداية من البرازيل بدعم المرشّح اليميني خافيير بولسونارو، ودعم الاحتجاجات لإسقاط إيفو موراليس في بوليفيا. وعاد ليستهلّ رئاسته الثانية بدعم الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي في الانتخابات النصفية لمجلس النواب، إذ أعلن أنه في حال عدم نجاح حزب ميلي فإنّ الولايات المتحدة ستفكّر في إلغاء مساعداتها للأرجنتين البالغة 20 مليار دولار. حقّق حزب ميلي 40% من الأصوات، فيما حصل الحزب البيروني على 31% من الأصوات. تكرّرت الصورة في هندوراس التي دعا الرئيس ترامب صراحة إلى دعم مرشّحه نصري عصفورة، الذي يعتبره "الصديق الحقيقي الوحيد للحرية"، وأنه لن يتعامل مع مونكادا "الشيوعية" حليفة عصابات المخدّرات والهجرة غير الشرعيّة. تدخّلت الآلة التقنية الأميركية في فرز النتائج الانتخابية، مما دفع المرشّح اليميني الآخر، سلفادور نصر الله، للحديث عن سرقة الانتخابات، من خلال التلاعب بالنظام المعلوماتي للنتائج، الموقف الذي أيّدته مرشّحة اليسار داعية إلى إلغاء النتائج المزوّرة التي احتاجت إلى أكثر من عشرة أيام لتصدر بشكل نهائي. انتقل الحدث إلى تشيلي، حيث تدخّلت الولايات المتحدة بشكل مباشر من خلال تهديد تشيلي بالحصار والعقوبات، وبشكل غير مباشر بدعم عصابات المخدّرات والجريمة المنظّمة المرتبطة بدوائر الاستخبارات الأميركية، هذا الدعم الذي أدّى إلى تصاعد العنف في شوارع المدن التشيلية. حضر المرشّح اليميني خوسيه أنطونيو كاست ببرنامج يشبه برنامج الرئيس ترامب بتركيزه على نشر المزيد من القوى الأمنية، وترحيل المهاجرين، خاصة الفنزويليين، الذين يتهمهم بالمسؤولية عن انتشار الجريمة المنظّمة. في مواجهة هذا الضغط السياسي الاقتصادي والسياسي الأميركي، والتدخّل المباشر من خلال عصابات الجريمة المنظّمة، والقوى السياسية التقليدية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمصالح الأميركية، استطاعت القوى الوطنية اليسارية المحافظة على حضورها في المشهد السياسي، وتشكيل معارضة قادرة على لجم التغييرات التي ستعمل القوى اليمينية على إنجازها. يعتبر حصول المرشّحة الشيوعية جانيت خارا على 42% من الأصوات في تشيلي، وحصول المرشّحة مونكادا على 20% من الأصوات في هندوراس، إنجازاً مهماً في ظلّ الحملة الأميركية المسعورة على دول أميركا اللاتينية والوسطى. لقد كان التهديد والحصار الذي تفرضه الولايات المتحدة على فنزويلا، بأكبر أسطول في تاريخ الحشد في منطقة الكاريبي، أبلغ رسالة توجّهها الولايات المتحدة إلى شعوب أميركا الجنوبية، إذا ما فكّرت بالتمرّد على الموقف الأميركي. لم تنتصر الولايات المتحدة، بل انتصر الرعب والذعر الذي ينشره الإجرام والإرهاب الأميركي، ولم يخسر اليسار، ولكن خسرت الشعوب التي تعطّلت مسيرتها نحو الحرية والاستقلال الحقيقيين، لكنّ التاريخ يخبرنا أنّ النصر النهائي يكون دائماً من نصيب الشعوب. ينشر في الاتحاد بالاتفاق مع الكاتب، ونشر أولاً في موقع "الميادين نت"