نحن نعيش فترة زمنية تاريخية صعبة، حيث تهيمن الصهيو-امبريالية على الأحداث الدائرة حول العالم. ولذلك مهم جدا نشر المعارف الفلسفية العلمية. لأن إمتلاك المعارف الفلسفية العلمية الثورية تجعل الجماهير الشعبية تصل الى الاعتقادات الراسخة والمبدئية ويذودون بثقة عن مصالح شعوبهم، ويدافعون عن حرية واستقلال بلادهم. وامتلاك المعارف العلمية الفلسفية الجدلية المادية تحفز جماهير الشعب الواسعة للقيام بأعمال عظيمة من أجل السلام والسعادة على الأرض. من أجل بناء مملكة الحرية على الأرض. فالفلسفة المادية الجدلية الماركسية هي العلم عن قوانين الأكثر شمولا لتطور الطبيعة والمجتمع والتفكير البشري. ولكن يكون من الخطأ لو استخلصنا من هذا استنتاجا مفاده أن الفلسفة تستطيع الاستغناء عن العلوم الأخرى، وهذه بدورها، أي العلوم، عن الفلسفة. فالفلسفة المادية الجدلية الماركسية لا تستطيع أن تكون نظرة تقدمية ثورية طليعية الى العالم إلا حين تعتمد في دراساتها واستنتاجاتها على منجزات العلوم الأخرى. إن الفلسفة بشكل عام تعطي الناس مجموعة من نظرات معينة الى العالم، أي أنها تسلحهم بمفاهيم عنه، وهنا تكمن قوة الفلسفة الهائلة. وهنا لا بد أن نقول بأن النظرات الى العالم، المفاهيم عن العالم تختلف عند مختلف الناس. فلدى بعضهم قد تكون علمية وتقدمية ولدى البعض الآخر منافية للعلم بل ورجعية عنصرية اسطورية كالصهيونية. فمثلا، لو أخذنا مسائل فلسفية مثل المسائل المتعلقة بمعنى الحياة والسعادة والحرية، وما الى ذلك، لوجدنا أن فهمها يختلف بالنسبة لمن يضطهد الشعوب، مثل الامبريالية والصهيونية العالمية. أما المناضلون ضد العنصرية والشوفينية والأساطير والامبريالية الصهيونية فإنهم يفهمون الحرية والسعادة بصورة مغايرة لفهم الامبرياليين والقوى والطبقات الرجعية في هذه الدولة أو تلك وخاصة الطبقة طبقة رأس المال الوسيط الكومبرادوري في دول الخليج العربي لا بل الأمريكي، حيث الولايات المتحدة وإسرائيل تقاتل شعوب المنطقة من خلال أنظمتها- عرب أمريكا- وأجهزتها البوليسية والدينية و"الثقافية" والإعلامية. ان الفهم المختلف للمسائل الفلسفية يتوقف، كما يبدو، قبل كل شيء على الوضع الذي يشغله هؤلاء وأولئك الناس في الحياة، في المجتمع. إن الفهم المختلف للمسائل الفلسفية يتوقف كما يبدو، قبل كل شيء على الوضع الذي يشغله هؤلاء وأولئك الناس في الحياة، في المجتمع، ففي المجتمع الطبقي هناك صراع بين طبقات وفئات اجتماعية مختلفة تتصارع فيما بينها، وعندها تكون النظرات الفلسفية كما يبين التاريخ، مختلفة أيضا. لذا يستحيل أن تكون في التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الطبقية فلسفة واحدة ونظرة واحدة الى العالم بالنسبة للمظلومين والظالمين. فالفلسفة تدافع دومًا عن مصالح أولئك الذين تخدمهم. وهذا يعني أن الفلسفة لا تستطيع أن تكون محايدة عندما يدور نضال الشعوب قي سبيل التحرر من الظلم الاجتماعي الطبقي والاستعماري وخاصة الآن في عصرنا الصهيو-امبريالي. والفلسفة الماركسية من خلال معرفتها ودراستها وممارستها تستطيع أن تجيب على أسئلة عصرنا التي يطرحها التاريخ والحياة. لأن الفلسفة الماركسية، لا تحلق فوق الأشياء والأحداث وفوق البشر وتاريخهم، بل تهدف الى أن تكون أداة اجتياز الوعي ومحرك العمل الذي به يُغير الإنسان الأشياء ويغير نفسه ويبني بيده حاضره ومستقبله يبني تاريخه. فالماركسية، بالإضافة الى ما أتت به من مكتسبات لا يمكن للعلم أن يضعها موضع الشك لأنها شرط وجوده ذاته، هي فلسفة لا تزعم لنفسها تأليف مذهب مكتمل، مذهب كلي لا يلبث أن يقع في صدام مع الواقع الدائم التغير، لأن أي مذهب، وخاصة الفلسفة المثالية بكل أشكالها، وخاصة الأساطير الدينية الصهيونية، هو دائما صورة للماضي، الذي يسعى لأن يتصف بالكمال وحده وبأنه رسالة إلهية. أما الفلسفة الماركسية فهي الجهد لجعل العمل شفافا وجدليا أمام الفكر، ولحفزه بتجاوزه. ولأن ما تطمع اليه الفلسفة الماركسية هو أن تتحد مع حركة التطور والأشياء ومع فعل الإنسان الذي يُغير هذه الأشياء، ولذلك تتصف الماركسية بأنها مادية وبأنها جدلية. وفي هذا يكمن تفوق الماركسية مبدئيا، على كل الفلسفات الأخرى. وهذا التفوق الثوري المبدئي تجعل الماركسية قادرة أن تحمل إلينا النظرة التركيبية، والثورية التي يحتاج إليها عصرنا. وهذا التفوق المادي الجدلي والمبدئي، يلزم الماركسيين الأوفياء أنفسهم أن يبرهنوا على حقيقته العلمية والفعلية وعلى واقعه العملي في كل لحظة جديدة من لحظات التاريخ، بالارتفاع بوعيهم الفلسفي والتاريخي والأخلاقي الشيوعي والجمالي الى مستوى الظروف التي خلقوها جدليا هم أنفسهم. وهذا ما كان انجلس صريحا في الالحاح عليه في دراسته عن "لودفيغ فورباخ": "على المادية بالضرورة أن تكتسب صورة جديدة مع كل اكتشاف هام، بادي الأثر في تاريخ العلوم". ولقد فعل ذلك لينين في كتابه: "المادية والتجاربية النقدية"، قضى لينين ثلاث سنوات في جرد لأهم كتب الفيزياء المعاصرة، مؤلفات "ماكسويل" و "روكر" و "رورد" و "بيرسون" في الفيزياء الإنجليزية. ومؤلفات "أرنست ماخ" و "هرتز" و "بولتزمان" في الفيزياء الألمانية بالإضافة الى التفسيرات الفلسفية التي قدمها "كوهن" و "فون هارتمان" ومؤلفات "هنري بوانكارية" و "بيركيل" و "لانجفان"، وتفسيرات "درهيم" و "لوروا" في الفيزياء الفرنسية هذا عدا ذكر كتابات "المراجعين" الروس. ولو أننا قمنا اليوم باحصاء لما كتب لينين في هذا الموضوع يقف عند عام 1908، عام تأليف الكتاب، لوجدنا أن لينين لم يهمل أي مؤلف جوهري. وهو قد إنطلق من هذه الذخيرة العلمية ليظهر لنا ما يمكن أن تكون عليه، "الصورة الجديدة" للمادية والمقابلة لتلك المرحلة من تقدم الفيزياء فأتى بفكرة "نظرية" كاملة جديدة، هي فكرة عدم فناء المادة: "الالكترون لا ينضب، شأنه شأن الذرة". وهذه النظرية تحمل معها نتائج فلسفية جوهرية أهمها عدم جواز الخلط بين الصورة التي يكونها العلم عن المادة: "الالكترون لا ينضب، شأنه شأن الذرة" وهذه النظرية نتحمل معها نتائج فلسفية جوهرية أهمها عدم الخلط بين الصورة التي يكونها العلم عن المادة في لحظة من لحظات تطوره، وبين المادة نفسها. وما من ريب في ان هذا هو أكثر الاستنتاجات التي حواها كتاب لينين ثراء وخصوبة. وانه يمثل اسهامه الرئيسي في الكفاح ضد "المعتقدية" في الفلسفة. أما الفلسفة الماركسية اللينينية فهي بمبدئها نقيضة للمعتقدية. فماركس، منذ "أطروحته حول فورباخ" قد استطاع أن يكتشف العاهة الرئيسية في كل صور المادية السابقة: وهي أنها أغلقت اللحظة الفاعلة في المعرفة، أغفلت الفعل الذي يقوم به الانسان، طالبا لمعرفة الأشياء، بذهابه نحو هذه الأشياء يُسقط عليها رسوما خيالية لادراكها وفرضيات لتصورها، ثم يتحقق بالممارسة من صحة رسومه المتخيلة وفرضياته ونماذجه. فالمعرفة "بناء نماذج"، والمعيار الوحيد لقيمة هذه النماذج هو الممارسة. ولقى اهتمام ماركس وانجلس ولينين بهذه اللحظة الفاعلة في المعرفة، التي بدأ الحديث "كانط" (صاحب الفلسفة العقلانية والذي استفاد كثيرا من فلسفة ابن رشد العقلانية فلو لم يكن ابن رشد لما كان الفيلسوف كانط) و "فيخته" و "هيجل" أن أعلن هؤلاء الماديون دائما ان الينبوع الأساس للفلسفة الماركسية كان المثالية الألمانية. وأؤكد هذه الكلمة: المثالية الألمانية. صحيح أن الفلسفة الألمانية تضم أيضا "فورباخ" ولكنه ليس هو الذي يتحدثون عنه كينبوع أساسي وانجلس لا يألو يردد في كتابه عنه أن فورباخ أفقر كثيرا من هيجل. إن مكان الفلسفة الكلاسيكية الألمانية في التاريخ، ولا سيما منها مذهب هيجل بوصفه ذروتها حدده، برأي انجلس، دورها البارز في تطور العلم الفلسفي العالمي، وكذلك تأثيرها البالغ في الأحداث اللاحقة في حياة المجتمع الأوروبي السياسية والفكرية. وانجلس في مقدمة كتابه "حرب الفلاحين" الصادر عام 1874، يعلن: "ولو انه لم تكن هناك الفلسفة الألمانية ولا سيما فلسفة هيجل، لما تأنس للاشتراكية العلمية قط أن ترى النور" ثم نراه يقول مرة أخرى عام 1891: "نحن الاشتراكيين الالمانيين فخورون بأن نمتد بأصولنا لا الى سان سيمون وفوريه وأوين فحسب، بل أيضا الى كانط وفيخته وهيجل". في العقدين الرابع والخامس من القرن التاسع عشر جرت أولى نضالات البروليتاريا. ففي إنجلترا اتسع نضال العمال الجماهيري في سبيل الحقوق السياسية هذا النضال الذي دخل التاريخ تحت اسم الحركة الشارتية (الميثاقية): وفي فرنسا ثار عمال ليون، وفي ألمانيا دخل عمال النسيج في سيليزيا حلبة النضال. ان هذه المعارك الطبقية الأولى بين العمل والرأسمال قد دشنت بداية نضال الطبقة العاملة التحرري. وهكذا نشأ مذهب ماركس وانجلز على أساس نضال البروليتاريا التحرري ضد الاستغلال والاضطهاد وأصبح المعبر الواعي عن المصالح الجذرية للطبقة العاملة، وغدا برنامج نضالها في سبيل الاشتراكية. لقد بينت الفلسفة الماركسية للطبقة العاملة والجماهير المستغلة والشعوب المضطهدة بأنه السبيل الوحيد العلمي الثوري الأمين للتحرر من عبودية رأس المال، والسبيل الوحيد للتحرر القومي. فالأممي الحقيقي هو القومي الحقيقي، والقومي الحقيقي هو الأممي الحقيقي. إدراك وممارسة الفلسفة الماركسية السبيل الوحيد لتحرير الشعوب المضطهدة والطبقة العاملة عالميا. وهنا لا بد وأن نذكر بأن فلسفة ماركس وانجلس لم تظهر على هامش الطريق الرئيسي لتطور الثقافة العالمية، بل كان الوريث الشرعي لأفضل ما أنشأته البشرية التقدمية. فقد وجدت الفلسفة وتطورت قبل ماركس وانجلس، ومأثرتها الكبرى أنها أعطت الناس فهما ماديا للطبيعة، واعطتهم كذلك مذهب التطور الجدلي (الديالكتيك) وقد تجلت منجزات الفكر الفلسفي هذه، كما ذكر سابقا، في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر في الفلسفة الألمانية. ونذكر بأن أقرب أسلاف ماركس وانجلس في ميدان الفلسفة هما الفيلسوف المثالي الألماني المشهور جورج هيجل (1770-1831) والفيلسوف المادي الألماني البارز لودفيغ فورباخ (1804-1871). إن مذهب هيجل الفلسفي كان ذا قيمة كبرى لكونه احتوى على فكرة التطور الجلي- الديالكتيك. أما مذهب فورباخ الفلسفي فتضمن أستطع فهم مادي للطبيعة بالنسبة لذلك الوقت. وقد طرح فورباخ بقوة جديدة مسألة ضرورة الكفاح والنضال ضد المثالية. ونقول بأن مجمل تطور العلم عن الطبيعة والمجتمع كان يبين بأن النظرة المثالية والميتافيزيائية الى العالم فات آوانها، وفقدت مصداقيتها وظهرت الحاجة العلمية الفلسفية الضرورية لنظرة جديدة، وهي الفلسفة المادية الجدلية- المادية الديالكتيكية. ومن أروع نتائج هذه الانقلاب الثوري الذي أنجزه ماركس وانجلس في العلم والفلسفة انشاؤهما للفلسفة الماركسية، أي المادية الديالكتيكية. وممارسة الفلسفة الماركسية هي ليست فقط محكا للحقيقة فحسب انما هي أيضا نقطة إنطلاق للمعرفة. المراجع: كتاب بصدد مؤلف انجلس: "لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية" الناس والعلم والمجتمع- اصدار دار التقدم- موسكو: إعداد فريق من المؤلفين ماركسية القرن العشرين- روجيه غارودي