يفيد استطلاع حديث أجري في سوريا أن شعبية أحمد الشرع شديدة الارتفاع، تبلغ 80 في المئة من الذين طالهم الاستطلاع. وحتى لو أخذنا بعين الاعتبار رداءة الاستطلاعات التي تُجرى في بلدان غير مستقرة وغير آمنة، واعتبرنا أن الاستطلاع المذكور يعكس في المقام الأول الرأي السائد في المناطق السورية التي يهيمن عليها اليوم الحكم الجديد الناجم عن «هيئة تحرير الشام»، وأنه بالتالي لا يعكس حقاً حالة الرأي العام في عموم الأراضي الواقعة ضمن الحدود الرسمية للدولة السورية، يبقى أنه من المؤكد أن الشرع يحوز على شعبية مرتفعة في أوساط الأغلبية العربية السنّية في سوريا. بالطبع، لم يثبت الحكم الجديد قدميه بعد، ولا زالت البلاد تحت وقع التخلّص من نظام آل الأسد الخانق الذي ساد البلاد أكثر من نصف قرن، بما فيها سنوات طويلة من حرب دامية خاضها ضد غالبية الشعب السوري بمشاركة إيران وأعوانها الإقليميين، وكذلك مشاركة روسيا بطائراتها وصواريخها. لكن دعنا ننظر في أمر بلد آخر في منطقتنا، تختلف حاله اختلافاً جذرياً عن الحال السورية، هو تونس. فليست تونس منقسمة طائفياً ولم تمرّ بأي شكل من أشكال الحرب في تاريخها الحديث، بل تميزت بسلمية حياتها السياسية بالمقارنة مع محيطها الإقليمي، وشهدت أطول المراحل الديمقراطية الناجمة عن «الربيع العربي». والحال أن تونس بالذات هي التي دشّنت تلك الوثبة الإقليمية، وقد أفضت فيها إلى عقد كامل من الديمقراطية الليبرالية (بالمعنى السياسي للتعبير)، قضى عليه الانقلاب الذي دبّرته الأجهزة الأمنية برئاسة قيس سعيّد في صيف عام 2021. وقد مضت أكثر من أربع سنوات على الانقلاب في تونس ولا تزال غالبية شعبها تتراوح بين التأييد لسعيّد والرضى النسبي عن حكمه، ولو من باب الإذعان أو التعب، بحيث إن المعارضة السياسية لم تستطع بعد أن تحشد أكثر من بضع مئات أو آلاف قليلة في احتجاجاتها، على غرار التظاهرة التي جرت مؤخراً اعتراضاً على اعتقال السياسي الديمقراطي المخضرم أحمد نجيب الشابي. ويزيد من غرابة الأمر أن شعب تونس وقف في الأمس القريب في طليعة الانتفاض ضد الدكتاتورية، وخاض تجربة ديمقراطية بدت كأنها فريدة بحيث حيكت في صددها حكايات عن فرادة «ثقافة الياسمين» من وحي الاغترار بالنفس تونسياً أو من وحي الاستشراق غربياً. فيا ترى، ما هو سرّ انخفاض قيمة الديمقراطية في منطقتنا إلى حدّ توهّم أغلب الناس أن هذا الزعيم أو ذاك خيرٌ لهم بالرغم من سلطوية حكمه السافرة وسيره الجليّ على درب الدكتاتورية؟ لدى الاستشراق الغربي، ومن يستوحي منه في ربوعنا، إجابة جاهزة عن هذا السؤال: يزعمون أن «ثقافة» شعوبنا غير متناسبة مع الديمقراطية، وهم يفترضون أن «الثقافة» سرمدية لا تتغيّر مع الوقت، وغالباً ما يقصدون بها الدين الإسلامي. وهذه الإجابة تتغاضى عن كون الأديان عقائد يتغيّر الدنيوي فيها تغيّراً عظيماً مع الزمن، بل ينزع الدنيوي فيها إلى الانفصال عن الديني البحت، وهو ما أدّى في التاريخ العالمي إلى فك متزايد للعلاقة بين الدين والدولة، هو ما يُعرف باسم «العلمنة». بل إن الدين قابلٌ لتفسيرات سياسية عديدة ومتضاربة في الزمن التاريخي الواحد، والمسافة شاسعة للغاية بين تفسير أيمن الظواهري للإسلام وتفسير جمال البنّا على سبيل المثال. لذا فإن الإجابة «الثقافية» عن السؤال الذي انطلقنا منه إنما هي تفسير للماء بالماء، إذ إن ما تنبغي الإجابة عنه يبقى هو هو: فحتى لو افترضنا أن الدين مفتاح السياسة في منطقتنا، لِمَ، يا ترى، يسود هذا التفسير أو ذاك، في هذا المكان أو ذاك، وفي هذا الوقت أو ذاك؟ فلنعُد إلى الموضوع خالصاً من الأساطير الاستشراقية، ولنطرح السؤال بصورة أوضح: لماذا نرى اليوم شعبيّ البلدين المذكورين، تونس وسوريا، يتخليان عن المطالبة بالديمقراطية بينما هبّا إصراراً عليها ونبذاً للاستبداد قبل عقد ونصف؟ وإنه لتخلّ طوعي على ما يبدو، إذ ليس في البلدين حتى اليوم من إرهاب سياسي رادع بمستوى ذلك الذي يمارسه نظام عبد الفتّاح السيسي في مصر، مثلاً. فلو رغبت جماهير عريضة في التعبير عن معارضتها للمسار الدكتاتوري في البلدين لاستطاعت بالتأكيد. فإن سرّ هذا اللغز إنما يكمن في إبخاس الديمقراطية في أعين الشعبين التونسي والسوري، وذلك من خلال تجربتين مختلفتين. فإن الشعب التونسي ذاق طعم الديمقراطية البرلمانية طيلة عشر سنوات، لكنها استحالت في تجربته متاجرة بالسياسة ومناصب الحكم بين جماعات سياسية اهتمّت بمصلحتها ولم تكترث لمصلحة سواد الشعب، بل تفاقمت أوضاع هذا الشعب المعيشية خلال العقد الذي تلا الإطاحة بزين العابدين بن علي. أما الشعب السوري، فأمامه مشهد الديمقراطية البرلمانية القائمة لدى الجارين العراقي واللبناني، وهو مشهد أسوأ بكثير بعد مما شهدته تونس، لا يثير، والحق يُقال، أي رغبة في تقليده. فإن ما تحتاج منطقتنا إليه هو بدائل سياسية تجسّد معنى الديمقراطية الأصلي، وتعمل بانسجام كامل على إرساء «حكم الشعب، وبيد الشعب، ومن أجله» على حد عبارة أبراهام لينكولن الشهيرة في خطاب ألقاه في عام 1863 خلال الحرب الأهلية الأمريكية، التي قاد فيها المعركة ضد الولايات الانفصالية المتمسكة بالنظام العبودي. هذا ما افتقدت منطقتنا إليه حتى الآن، عدا قوى قاعدية على غرار «لجان المقاومة» السودانية أو «جيل زد 212» المغربي، لم تجد في بلدها قوة سياسية مقابلة لها وحائزة على قسط مقنع من القدرة والمصداقية كي تقود تغييراً تقدمياً. فإلى أن تتطور وتنضج مثل هذه القوى في منطقتنا، ستبقى شعوبنا تنتقل من خيبة أمل إلى خيبة أخرى، ولا شكّ على الإطلاق في أن الخيبة هي ما ينتظر الذين لا تزال لديهم أوهام في قيس سعيّد أو أحمد الشرع. كاتب وأكاديمي من لبنان، يُنشر المقال بالاتفاق معه