في منتصف تسعينات القرن الماضي عندما كان مصطلح "العولمة" يتردد بكثافة، كان من بين من انبروا لمناقشة المفهوم كاتبان هما هانس بيترمارن وهارالد شومان اللذين وضعا كتابًا مكثفًا بعنوان "فخ العولمة". في حديثهما عن دور الإعلام والبروباغاندا في الحرب الباردة لخص بيترمارن وشومان الحرب الباردة إعلاميًا بمقولة طريفة: "تتلخص الحرب الباردة في أن ستالين أراد زعامة العالم ولكن ميكي ماوس تفوق عليه". إضافة إلى القنوات المتلفزة التقليدية ووسائل ووكالات الإعلام الضخمة فمع التطور التكنولوجي بات كل فردٍ عبارة عن كائن إعلامي بمجرد امتلاكه لآيفون أو جالاكسي، ولكن بدون أن ينفصل أو يكون فردًا مستقلًا عن أدوات تشكيل الوعي التي تحركها منظومات كبيرة. تفكك البنى الحزبية التقليدية وما سمي "عالم ما بعد الأيدولوجيا" خلق حالة من الفاعلية السياسية الجوفاء، قوام هذه الفاعلية هو تحريك الوعي الأخلاقي فقط والتماهي مع عفوية الجماهير وعدم الالتزام التنظيمي، أي أن الأحزاب باتت سلعة لا يتهافت عليها الجماهير. في الحرب الباردة كان ميكي ماوس رمزًا لجهد مؤسسي وكفاءة الأجهزة الأيدولوجية التي تؤدي وظائف تعليمية وناقدة أحيانًا، أمّا "ميكي ماوس" الجديد فهو ما يعرف بالصرعة، "الترند". الاستهلاك في المجتمع الحديث يشمل المواقف السياسية والأخلاقية، ويتم البحث عن الماركة السياسية الأبرز في كل لحظة عينية وليس الموقف الصواب بالضرورة، مثل الشخص الذي يشعر بالعطش فيشرب الكولا بدل الماء. استهلاك المواقف السياسية والأخلاقية خلق نمطًا من الفاعلية السياسية تعززه الناشطية على أرض الواقع، هذا النمط يقوم على استثارة الوعي الأخلاقي وافتعال ضجة إعلامية حول حدث ما أو شخصية ما، بدون منفعة مادية أو تشريعية مباشرة، ويأخذ هذا الترند بالانتشار بسرعة ولفترة زمنية محددة بعدما تنتهي قيمته الاستعمالية ليتم اختلاق غيره، وبالطبع تحتاج صناعة كل حدث إلى مجموعة من النجوم من مبدعي التصنع والرياء. الترند في كل الحالات ليس حالة فردية بل يسبقه إمبراطوريات إعلامية تحاكي العصر، كحالة أذرع قنوات الجزيرة وببغاوات عزمي بشارة. يعبر ستالين عن التنظيم الحديدي أما ميكي ماوس فكان يعبر عن كل الزخم الأيدولوجي الأمريكي مؤدلجًا، واليوم جاء دور الترند ليعبر عن صناعة مواقف سريعة تحتاج فقط إلى بعض الشحن الأخلاقي عبر الترندات، ويبقى ستالين بعيدًا عن المعمعة. طبعًا الانتقال من ميكي ماوس إلى الترند يعبر أيضًا عن تفاهة "عصر السرعة"، فمن الصحيح أن ميكي ماوس أدى وظيفة أيديولوجية، ولكنه كان إبداعًا جماليًا تذوقه الجميع. في دول "العالم الأول" يتعاطى اليمين مع الظاهرة الترندية عبر خلق الترند بنفسه ممثلًا في شخص القائد المنقذ المخلص المدافع عن القيم المحافظة. في دول "المحيط"، كروسيا والصين، لا تحظى الظاهرة التردنية بنفس القوة، ففي دولة مثل الصين مثلًا لكي يصل شخص إلى منصب رفيع يجب أن يمر بتجربة حزبية رفيعة ويتدرج في أجهزة الدولة والحزب، هذا يلزمه بأن ينمي مهاراته وثقافته بحيث لا يمكن أن لموضة مؤقتة أن تؤهل طباخًا لإدارة وزارة. طبعًا أنا لا أدعو الأحزاب أن تكون الركن الرشيد وسط ثقافة الترند، أولًا على الأحزاب أن تحصن رفاقها من الانجرار وراء الموضة عبر التثقيف، وثم تشتبك بشكل عصري مع ثقافة الترند لتقوم هي بتوجيه "الوعي" الترندي عبر آلياته نفسها.