يُفترض أن يكون السفر فعلَ حرية، قرارًا شخصيًا، رغبة في الاكتشاف، انتقالًا طبيعيًا من مكان إلى آخر. لكن هذا الافتراض لا يصمد طويلًا حين يكون الجسد محمّلًا بتاريخ، والاسم مثقلًا بدلالات، والهوية موضع شكٍّ دائم. عندها، لا يعود السفر رحلة، بل يتحوّل إلى امتحان طويل، يبدأ قبل حزم الحقيبة، ولا ينتهي عند بوابة الوصول. منذ اللحظة الأولى التي تطأ فيها قدماي أرض المطار، يتغير إيقاع جسدي. خطواتي تصبح محسوبة، ظهري أكثر استقامة مما يجب، نظراتي موزونة بين الجرأة والحذر. أفكّر: لا أبتسم كثيرًا، فالابتسامة الزائدة قد تُقرأ استخفافًا أو توترًا. لا أعبس، فالملامح الجامدة قد تُفسَّر غضبًا أو عدائية. أدرّب وجهي على حياد مُرهق، حياد لا يشبهني، لكنه مطلوب لكي أمرّ. في قاعة المطار، حيث يُفترض أن يكون الجميع عابرين، أشعر أنني مقيمة في لحظة تحقيق دائمة. كل حركة مراقبة، كل تفصيل قابل للتأويل. الاسم على جواز السفر ليس مجرد اسم؛ هو سؤال مفتوح. واسم القرية، تحديدًا، يتحوّل إلى عبء. إن كانت قرية نائية، غير معروفة في روايتهم للعالم، يبدأ الارتياب: من أين أنتِ بالضبط؟ هل هذه القرية موجودة؟ هل تقع داخل الدولة التي تقولين إنك تنتمين إليها؟ وكيف أتوقع منهم أن يعرفوا البلاد كما أعرفها أنا؟ هم لا يعرفونها إلا كما أعادوا رسمها. البلاد التي أعرفها أنا، بأسمائها الأولى، بحروفها الصعبة، بعينها التي يستبدلونها ألفًا، وبالقاف التي تختفي لأنها “ثقيلة على اللسان”. القرى التي أحببتها تُختصر، تُشوَّه، أو يُضاف إلى اسمها لاحقة جديدة، كأن المكان لا يكتمل إلا بعد تدجينه لغويًا. كأن الاسم الأصلي خطر بحد ذاته. قبل السفر، أُعدّ نفسي كما لو أنني ذاهبة إلى محكمة لا إلى رحلة. أرتّب المستندات بعناية: جواز السفر، بطاقة الهوية، تأكيد حجز الفندق، تذكرة العودة، الفيزا، وأحيانًا حتى مسودة برنامج الرحلة. كل ورقة هي درع. كل مستند محاولة لإثبات أنني “طبيعية”، أنني لست متهمة، أنني أعرف لماذا أسافر، ومتى أعود، وأين سأنام، ومع من. أتمرّن في رأسي على الأسئلة المتوقعة: لماذا تسافرين؟ إلى أين؟ كم ستبقين؟ من سيموّل الرحلة؟ هل لديك أقارب هناك؟ أتدرّب على الإجابات القصيرة، الواضحة، غير العاطفية. أتعلم كيف أشرح حياتي بجُمل مفهومة لهم، لا لي. كأنني أترجم نفسي مسبقًا، وأقصّ من قصتي كل ما قد يبدو “معقّدًا” أو “غير مريح”. لكن، في مرة واحدة على الأقل، انكسر هذا السيناريو كله. سافرت مع عائلتي من مكان الى اخر، في بلد مختلف تمامًا عن كل ما اعتدت عليه. ذهبنا قبل ثلاث ساعات، كما يفعل “الطلاب المهذّبون”. كنا مستعدين لكل شيء. دخلنا المطار ونحن نحمل كل الإثباتات الممكنة، وكل القلق الممكن أيضًا. وعندها… لم يحدث شيء. لا أسئلة. لا نظرات طويلة. لا توقف مفاجئ. عند التفتيش، نظرت الموظفة إلى تذكرتي الإلكترونية وقالت بهدوء: “اذهبي مباشرة”. وضعت حقيبتي على جهاز الأشعة، مشيت إلى الجهة الأخرى، التفتُّ قليلًا، توقّعت أن يناديني أحد. لم يفعل أحد. انتظرت داخليًا لحظة الاستدعاء، لحظة “تعالي من فضلك”. لم تأتِ. مرت الدقائق. ثم الساعة. ثم أكثر من ساعتين ونصف، وأنا أجلس في قاعة الانتظار، لا أفعل شيئًا. لا أُدافع عن نفسي. لا أشرح. لا أُثبت. كنت هناك فقط… مسافرة. صعدنا إلى الطائرة. أقلعت. هبطت. وفي مطار الوصول، تكرر المشهد ذاته. عبور عادي. إنساني. صامت. بلا امتحان. عندها فقط، تساءلت بصدق: أهذا هو السفر؟ أهذه هي التجربة التي يتحدث عنها الناس؟ عبور بسيط من مكان إلى آخر، بلا تاريخ يُستدعى، بلا هوية تُفكّك، بلا براءة يجب إثباتها؟ هذا التناقض لا يمكن تجاهله. فهو يكشف أن السفر ليس تجربة متساوية. وأن ما نعيشه في المطارات ليس صدفة، بل نتيجة مباشرة لمكاننا في العالم، وللصورة التي حُبكت عنا عبر السياسة والإعلام والتاريخ. السفر، في حالتنا، ليس عبورًا جغرافيًا فقط، بل عبور ثقافي وسياسي. كل مطار هو مساحة مواجهة صامتة مع سردية لا نملكها. كل نقطة تفتيش تذكير بأن هويتك ليست بديهية، وأن وجودك نفسه قابل للتشكيك. ووسط كل هذا، يتحوّل الجسد إلى أرشيف. يحمل ذاكرة أهله، وتجاربهم، وخوفهم المتوارث. فهل ما نعيشه نحن هو نتيجة تجاربنا الشخصية، أم صدى لتجارب آبائنا وأجدادنا؟ هل نحمل هذا القلق لأننا عشنا التفتيش، أم لأننا ورثنا حكاياته؟ السفر، في النهاية، يصبح تجربة داخلية بقدر ما هو خارجية. اختبار للصبر، للقدرة على التماسك، وللوعي بالذات في عالم لا يراك كما ترى نفسك. وفي الوقت ذاته، يكشف لحظات نادرة من الانفلات: تلك اللحظات التي تمرّ فيها بلا سؤال، بلا نظرة إضافية، فتشعر — ولو مؤقتًا — أن العالم يمكن أن يكون مكانًا عاديًا، وأنك لست متهمًا افتراضيًا. لكن هذه اللحظات، حين تأتي، لا تُنسينا الحقيقة. بل تؤكدها: أن السفر، بالنسبة للبعض، ليس حرية، بل تفاوض مستمر على الحق في الوجود. وفي كل رحلة، في كل مطار، في كل عبور، نُعيد تأكيد ما نحن عليه، ونُعيد سرد هويتنا، قبل أن نسمح لأنفسنا — إن سُمح لنا — أن نستمتع بالرحلة ذاتها.