مئوية مجلس كفرياسيف المحلي بالنسبة لي هي فرصة للتعبير عن بحرٍ عميق من الامتنان لقريةٍ لم نكن من أبنائها، لكنها كانت وما زالت بيتًا لنا. منذ طفولتي، وفي جلسات الحوار مع جدي “أبو أحمد”، كان يُصرّ دائمًا على أن يبرز مرحلة خاصة من العناء ما بعد النكبة، وهي مرحلة دراسته في كفرياسيف. بعد تهجيرهم من البروة، كان الوضع المادي للعائلة بالغ الصعوبة. أو على قولته: “ما ضلّ معنا لا من قدّامنا ولا من ورانا”. ولم يكن أثر النكبة بالنسبة للمهجّرين فقدان الأرض والمنزل فقط، بل فقدان التعليم وفرص التطور أيضًا. فعائلتي (التي كانت تعمل بالزراعة) استثمرت كل ما تملك في شراء “حَبْل من الأرض” عام 1947، ثم هُجّرت منها بعد عام واحد فقط في نكبة 1948! بعد هروبهم إلى شعَب ومكوثهم أيامًا في البعنة، لجأت العائلة إلى قرية جديدة. وكان خيار جدي الاستقرار في قرية جديدة لأن معظم المهجّرين “المعترين” أمثاله استقرّوا فيها، ولأن قربها الجغرافي من الديار سيسهّل العودة يومًا ما، محافظًا على أمل العودة إلى البروة. ورغم الظروف القاسية، لم يتخلَّ جدي عن حبّه للعلم؛ فبمجرد استقراره في جديدة عاد لمتابعة تعليمه في مدرسة كفرياسيف، التي جمعت طلابًا من قرى عديدة في المنطقة. لكن العودة لم تكن سهلة. فرغم تميّزه في الدراسة، بشهادة المربي الرفيق نمر نجّار ابن كفرياسيف، إلا أن الإرادة والشغف لم يكونا كافيين أمام واقع فرضته النكبة على الجيل الأول. فمن كان سيغطي تكاليف دراسة طالبٍ يتيم، استُشهد والده على يد الانتداب البريطاني، ولم يبقَ له سوى أمٍّ منهكة بالكاد توفّر له ولأخته طعامهما وشرابهما؟ اضطر جدي إلى ترك مقاعد الدراسة والاتجاه إلى سوق العمل. لكن بعد أيام لاحظ المعلّمون غيابه، فبحثوا عنه بنية مساعدته، فعاد ليُكمل تعليمه حتى الصف الثامن. وقد يبدو هذا إنجازًا بسيطًا أو “سخيفًا” في يومنا هذا، لكنه في تلك المرحلة كان إنجازًا حقيقيًا بكل معنى الكلمة. لم يأتِ امتناني لكفرياسيف فقط من احتضانها وتعليمها لجدي وما أثّر إيجابًا في إصراره على أن يكمل معظم أحفاده تعليمهم الأكاديمي لتحقيق ما لم يستطع هو تحقيقه، بل لأن كفرياسيف تركت بصمةً خاصة في تكوين رؤيتي للعمل السياسي والوطني، وفي توسيع نشاطي الشبابي من النطاق المحلي إلى نطاق أوسع: في كفرياسيف نفسها، وفي فروع الشبيبة في منطقة عكا. كانت كفرياسيف دائمًا الحاضنة لنا في كل أول أيار، تفتح أمامنا مساحة واسعة لإبراز دورنا وقدراتنا التنظيمية والإبداعية. وفي معظم الأحداث الحسّاسة التي احتاجت منّا الالتحام والتضامن مع أبناء شعبنا المضطهدين، كانت كفرياسيف هي ملجأنا الآمن للتعبير والتضامن والاحتجاج. وبمناسبة مئوية مجلسها المحلي واقتراب العام الجديد، أتمنى لكفرياسيف أن تفضّ عن كتفيها غبار الحزن؛ فلا يليق بها إلا أن تكون مركزًا وطنيًا جامعًا، للعلم والنضال والوحدة والتأخي. وكلي أمل بأن تكون الأحداث الأليمة الأخيرة مرحلة عابرة، لنعود ونردد بكل ثقة ما قاله رفيقنا الراحل إميل حبيبي: “تكفرسوا يا عرب."