news-details

ألاقي زيّك فين يا علي

 (إلى روح تريز هلسه وإلى روح الشهيد علي طه) 

دخلت الى غرفة خالتي فوجدتها تمزق مجموعة من الصور كانت سابقًا قد وضعتهم في كيس من المخمل الأحمر، سألتها لماذا تمزقهم؟ لم تجب، بل تركتني وقامت بإشعال -الكانون- في عز الصيف، وأخذت تنفخ فوق قطع الفحم  حتى تحولت الى جمرات، سرعان ما ألقت ببقايا الصور الممزقة فوق الجمر، ووقفت لترى البقايا وهي تتآكل وتنكمش وتغيب الوجوه حتى دخلت في السواد واختلطت مع ذرات الرماد.

رأيت مشاعر الارتياح على وجه خالي الكبير، الذي قال بلهجة ممزوجة بالأسف: مش ناقصنا مشاكل...!! وعرفت بعد ذلك أن خالتي كانت صديقة لبعض الممرضات اللواتي يعملن في المستشفى الإنكليزي في الناصرة، وأن بعض الممرضات اختفين، وتبين بعض ذلك أنهن التحقن بإحدى المنظمات الفلسطينية في لبنان، وان الصديقة الممرضة  "تريز هلسه" قد قامت مع مجموعة بخطف طائرة بلجيكية بعد وصولها الى مطار اللد، مطالبين إطلاق سراح مئة فدائي أسير في السجون الاسرائيلية، وعندما سمع خالي اسم "تريز هلسه" في نشرة الأخبار، هرع الى البيت وطلب من خالتي حرق الصور التي التقطتها معها في مناسبات عديدة، كنت عندها صغيرة لا أعرف لماذا لغة التمزيق يجب أن ترافق لغة الخوف الذي شعاره "امش الحيط الحيط ويا رب السترة".

هل للتاريخ عطر؟ نعم هناك رائحة تتسلل من الذاكرة، من الورق، من الصور، وهناك رائحة لا تضيع مهما فسد التاريخ وغرق في قوالب الحلوى المزيفة.

ها أنا فجأة وجهًا لوجه أمام صور خالتي التي أحرقتها – بعد مضي سنوات ندمت-  وأمام زمن كان الخوف يأتي مدججًا بسيوف الحذر، ويقفز اسم "تريز هلسه" التي تعيش حاليًا مع عائلتها وأولادها في الأردن،  لكن "علي طه أبو سنينه" الذي تريد ابنته سحبه من جارور النسيان يقف الآن على المسرح ليؤكد أن خطوات مسيرته المشتعلة  ما زالت تحفر في أرض الأبناء.

في زيارة سرية للذاكرة، وتحت نصب تذكاري صنعته الابنة، نقف، لنتحدث عن رجل رسم فوق جسده خارطة الوطن، لكن الرسم اختفى مع الغياب، وها هي الابنة تعيده الى الوجود منتصبًا بدمه، شامخًا بشبابه، مدفونًا في تابوت أسطورة.

هناك أغنية للمطربة صباح توجهها لفريد الأطرش الذي يدعى "علي" في أحد الأقلام، حيث تغني "ألاقي زيك فين يا علي"، وكأن "علي بابا" وقف أمام الابنة مقدمًا لها مفتاح مغارة والدها.

رائدة طه، ابنة علي طه، الذي قام بخطف طائرة سابينا او كما عُرف الرحلة "571"، ففي يوم 8/5/ 1972 وصلت طائرة " سابينا البلجيكية الى مطار اللد، وقد تم الاستيلاء على الطائرة من قبل مجموعة "علي طه" و "تريز هلسه" و "ريما عيسى" و "عبد الرؤوف الأطرش".

"علي طه" الذي سال دمه، الأب الذي رحل مكسرًا أغصان طفولتها، تركها هي تبني من بقايا خشب سيرته كوخًا، لعله يصبح عنوانًا لحياة جديدة له.

على المسرح وأمام المشاهدين، تقف الابنة "رائدة طه" لتروي قصة والدها، الذي كان مؤمنًا بقضية شعبه، تروي كيف كان القائد لمجموعة "وليم نصار" التي تنتمي لمنظمة أيلول الأسود، حيث كان الهدف من خطف الطائرة الافراج عن أسرى فلسطينيين، لكن انتهت العملية بمقتل علي ورفيقه عبد الرؤوف، واعتقال تريز هلسه وريما عيسى، تحكي رائدة قصة والدتها ومعاناتها وأيضًا معاناتها هي الابنة التي تيتمت باكرًا، وبقيت تحمل لقب "بنت الشهيد".

رائدة طه ممثلة منفردة، قامت لوحدها بجميع الشخصيات، تحدثت بلسان الجميع، وقد أبرزت معاناة قضية دفن والدها الذي دفع عمتها "سهيلة" الى التوسل كي يفرجوا عن جثمان شقيقها، لكن الرفض كان دائما هو الجواب الصادم.

وعندما علمت العمة سهيلة أن وزير خارجية أمريكا هنري كيسنجر يتواجد في مدينة القدس تبعته الى الفندق واستطاعت التسلل الى الغرف بعد ان منعها الحراس وأبت الا ان تسلم رسالتها الى كيسنجر باليد وتطلب الافراج عن جثة شقيقها من البراد، وفعلًا تمت الاستجابة، وفي اليوم التالي تم تسليم الجثة.

خلال المسرحية تم التكلم عن تفاصيل حياة "علي طه" حياة كانت نائمة في غيوم مختبئة، جاءت الابنة وثقبت تلك الغيوم فأمطرت حزنًا على مسرح ما زال هناك فيه مساحة لزيارة الذاكرة، ومشاهدة ماذا فعلت بصمات الفخر فوق جدران الضوء الخافت.

أطلقت رائدة على المسرحية العنوان الشعبي النابع من عمق اليتم ودلال ابنة ترى والدها بصورة حبيب "ألاقي زيك فين يا علي". اذا قالت العرب "كل فتاة بأبيها معجبة" فإن رائدة طه، غمست اعجابها في زيت العمر لتطلق صرخة، كأنها ابنة تقف وتنادي.. يا يابا.

يذكر أن المخرج الإسرائيلي راني ساعر قد قدم فلم "سابينا" عن قضية خطف الطائرة سابينا على يد منظمة أيلول الأسود، ودائمًا كما عهدنا السنيما الإسرائيلية، يستخدم  الفيلم لصالح وجهة النظر والرواية الصهيونية، لكن الممثل الذي قام بدور "علي طه" جورج إسكندر قد أثار غضب الكثير من الإسرائيليين عندما ذكر في احدى المقابلات التي أجريت معه بعد عرض الفلم في القدس وبحضور نتنياهو وزوجته وايهود براك أن خاطف  الطائرة ليس مخربًا أو ارهابيًا انما محاربًا، اذ أردف قائلًا أن خاطف الطائرة الحقيقي أبوسنيه هو شخص سُلب منه حقه وحارب لاسترداده. مع العلم أن ايهود براك قاد عملية اقتحام الطائرة، وبنيامين نتنياهو كان قائد الطاقم التابع للوحدة الخاصة باقتحام الطائرة.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب