news-details

أنشهد انبعاث اليسار في الانتخابات الفلسطينية؟ | د. حسين علي شعبان

العنوان أعلاه أقتبسه من مقالة الأستاذ جواد بولص تحت عنوان "أنشهد نهاية اليسار في الانتخابات الفلسطينية؟"، التي نشرتها جريدة "القدس العربي" في عددها الصادر يوم الجمعة 18 شباط/فبراير 2021. لأسباب محض مهنية، لا أعتبر المقالة الحالية ردا، بل محاولة استشراق الجانب الإيجابي لظاهرة الانتخابات، كون الظواهر الطبيعية والبشرية لها مفاعيل مزدوجة؛ إيجابية وسلبية، منيرة ومظلمة، رابحة وخاسرة، خيرة وشريرة، نافعة وضارة، وهكذا دواليك. هذا وتأتي مقالة السيد بولص في وقت يحير تسارع الأحداث وتشابكها العقلاء، فإذ بالحكماء يبحثون عن المساواة في زمن تفشي العنصرية والحرية، في زمن فرض الهيمنة الأمريكية.

الكلمة في هذه الأيام يغمسها صاحبها بالأمل إذا توسل الخير والاستسلام، وإذا ألبسها رداء القنوط يدفع من حوله إلى لجة الإحباط والهلاك. لعلني أستعير من تجربة اليساريين الفلسطينيين الكفارسة، يني يني ونمر مرقس، البقاء فوق أرض الوطن عشية النكبة صيف 1948، وأكثر من ذلك لقد، ركب نمر مرقس مهاوي الردى ليسترد شقيقته من زلعوم اللجوء في لبنان، والعودة بها إلى حيث يجب أن تكون. لعل في حكاية النكبة دروس كثيرة، وهذه واحدة ربما تنشر تفاصيلها للمرة الأولى، وقد رواها للكاتب الحالي الأستاذ أحمد عطية من قرية علما الخيط الجليلية الملاصقة لقرية الريحانية؛ بداية أيام اللجوء إلى الجنوب اللبناني خريف 1948، خرج اللاجئان أحمد علي قاسم سعيد حجاوي وصديقه علي أسعد عباس المتزوج من السيدة حواء برازي المشهورة باسم مي، وكانا في ريعان الشباب، يتمشيان عصرا على أطراف قرية صديقين، حيث مرا بكرم تين في زمن النضوج، دخل الشابان أحد الكروم وانتخبا لأنفسهما بعض الثمار؛ صعق الشابان بصاحب الكرم يهاجمهما ويشتمهما، حتى أنه صفع أحدهما على وجهه. عاد الشابان إلى بيوت أهاليهم في القرية ثم قررا العودة إلى قريتهم علما، صعق الأهل بقرار الشابين، ولكن سيف الشابين سبق العذل، وفعلا عاد الشابان في اليوم التالي إلى قريتهما علما، ثم استقرا في قرية الريحانية. يومها كانت حجة الشباب هي: "نحن لن نعيش في بلد يضرب فيه المرء لقاء كوز تين". القصتان أعلاه رأى الكثيرون فيهما ضربا من الخيانة، أما أهل العقل فرأوا فيهما العكس تماما.

أما وأن الزميل بولص يتحدث عن الانتخابات في الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد فصل ثوب نتائجها "نهاية" فصائل اليسار، فلا بد أن نلفت إلى أن أدلة وحيثيات حكمه تقوم على أحداث معزولة وتجربة ذاتية، فربما استنجد الزميل بولص بنتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية عامي 2005 و2006 كما الانتخابات المحلية والنقابية الأخرى التي أثبتت وهن قيادة اليسار. لقد كانت قيادة اليسار اللبناني السباقة في تشخيص أزمة قيادة اليسار العربي منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، فأزمة قيادة فصائل اليسار في الضفة وغزة كما في الشتات ليست مستجدة أو طارئة بل تعود جذورها إلى حرب حزيران/يونيو 1982، لقد استحالت أزمة قيادة اليسار بركانا قذفت حممه بالمناضلين اليساريين إلى مناف وشتات تجاوزت حدود القارات القديمة، ليبلغوا آيسلاندا ونيوزيلاندا والبرازيل. وليس حال اليسار العالمي بأقل سوءا، بعد أن نحر رعاع جورباتشوف ويلتسين وطنا بحجم الاتحاد السوفياتي.

لمحبي التجربة "الديمقراطية" الأوروبية، نستعير تجربة حزب العمال البريطاني لما لها من صلة وربما ترابط بفلسطين بشكل خاص، وبالمعذبين في عالم. تأتي الديمقراطية بمريض مثل دونالد ترامب رئيسا لإدراتها، وجاء السيد جيرمي كوربن رئيسا للحزب عام 2015، بعد فوز ساحق على منافسية جميعا وبنسبة قاربت 60 %، وقبلها أقدم توني بلير خلال فترة توليه رئاسة حزب العمال 1994) ـ 2007(، والحكومة في عشرة داوننغ (2007-1997( بتدمير ممنهج لمبادئ الحزب وتراثه الاشتراكي والعمالي، ما دفع المختصين ورجال الإعلام لنعته بـ "الكذاب" و"كلب بوش"، وقدر للكاتب الحالي أن يستمتع بالفرحة والاغتباط على وجوه وكلمات مسؤولي النقابات العمالية يوم انقلاع بلير من رئاسة الحزب. لم ينجح أي من تلامذة "الايتون"، وهي مدارس ممنوعة حتى في الأحلام على أبناء الجراء ومتوسطي الحال الذين تولوا رئاسة حزب العمال بعد توني بلير، من استعادة هيبة ومكانة في الحياة الداخلية والأوساط الشعبية، حملات التشهير بالسيد جيرمي كوربين تزعمتها قيادة الحزب وممثليه في مجلس العموم مستعينة بجهات خارجية، وخاصة الرئيس دونالد ترامب وربيبه نتنياهو.

بدعم من الفئات الشابة وبدون عناء، هزم جيرمي كوربين خصومه الداخليين في الحزب، في حين ارتفع عدد أعضاء المنتسبين إلى الحزب ليقترب أو يتجاوز النصف مليون عضو. شهر أعداء جيرمي كوربون سلاحهم السحري، ألا وهو "اللاسامية"، ضمن تحالف رباعي غير مقدس تشكل من ترامب ـ نتياهو ـ جونسون ـ ابن سلمان. الهجوم الإعلامي في الصحف المجانية الممولة من الحكومة وتلك الرخيصة كان مؤشرا واضحا لكل ذي عقل أن السيد جيرمي كوربين بحاجة إلى معجزة للفوز بالانتخابات العامة في 12 كانون الاول/ديسمبر 2019، ولأن برنامج السيد كوربين الانتخابي كان نموذجيا ويخاطب مصالح المجتمع، عمد الخصوم إلى تضليل الرأي العام بالادعاء الباطل أن خسارة حزب العمال سببها "البريكزت"، أي الخروج من الاتحاد الاوروبي. الحقيقة أن الاستفتاء العام الذي أجري في أيار مايو 2016، يظهر أن الفرق بين المؤيدين والمعارضين لم تزد نسبته عن 1,9%، وقد خاض حزب المحافظين الاستفتاء منقسما بين ذاته، بين دافيد كامرون رئيس الحكومة آنذاك والطامع بسدتها بوريس جونسون الرئيس. في اسكتلندا فاز أنصار البقاء في الاتحاد الأوروبي بنسبة 62% مقابل 38% لصالح الخروج من الاتحاد الاوروبي، ومع ذلك، فقد خسرت ممثلة الحزب الليبرالي الديمقراطي المؤيدة للبقاء في الاتحاد الاوروبي أمام منافستها الداعمة للخروج منه. لم يتسرب التشاؤم قط إلى عقل وجسد جيرمي كوربين، ورفض دعوات الانشقاق عن الحزب بقيادة كير ستارمر، على الرغم من الصدمات والهزيمة والمؤامرات، فإن جيرمي كوربين يقبض على جمر التفاؤل والأمل، ويناضل بلا هوادة، كما داخل صفوف الحزب كذلك في البرلمان.   

في تصريح له لفضائية "فلسطين اليوم"، كشف الأمين العام لـ “حركة الجهاد الاسلامي" السيد زياد النخالة يوم 19 شباط/فبرير2021، عن ضغط حكومات خارجية وإقليمية تدخلت تحت طائلة التهديد والمقاطعة لمن يخرج عن الطاعة، وبالتأكيد فإن هذه الحكومات ليست إندونيسيا أو ماليزيا، أو الجزائر أو تونس! إذن اجتماعات جبريل الرجوب وصالح العاروري، ثم لقاء الأمناء العامين في بيروت ورام الله والقاهرة، لم تكن استجابة لمطلب شعبي داخلي فلسطيني، خاصة بعد ما تناقلته وسائل إعلام عن لقاء بين "الشيخ" خالد مشعل والسيد عباس منصور في الدوحة، إذن "المصالحة" والانتخابات مفروضتان على الفلسطينيين، مع استبعاد ستة ملايين فلسطيني في بلدان الشتات من هذه العملية.

إذا كانت جِمال "المقاومة" وأصحاب الصواريخ الدقيقة في غزة "المستقلة" قد ناخت أمام الضغوط الخارجية وعانقت جماعة "التنسيق الأمني المقدس" على طريقة "يا دار ما دخلك شر"، فماذا نتوقع من قيادة يسار تخلصت من سلاحها أثناء التحضير لعرس اتفاق أوسلو؟ نعم عشية اتفاق أوسلو اتفق "قادة" اليسار المتباغضون المتباعدون على "حل جيوشهم" لتحرير فلسطين، ولم يتورعوا عن التخلص من ضباط ورتباء وجنود أعدوا لتلك المهمة، ولم يخجل هؤلاء القادة من تلبية دعوات القيادة الإيرانية لزيارة طهران وطلب المساعدات المالية والتسليحية من قيادتها، مشهد "الرفيق" صاحب مقولة "فائض مرحلة" يعانق قائد "لواء القدس" في طهران يستدعي الاستهجان. في حالة "يسارية" أخرى، أصبح الجنرال الفار ابو أحمد فؤاد خبيرا عسكريا وإستراتيجيا لا تفوت فضائية "الميادين" مناسبة لاستضافته كمحلل وخبير إستراتيجي.

مختصر القول، إذا كان الزميل بولص قد انضم إلى جيش العرافين لينبئنا بنهاية اليسار الفلسطيني، فإنه بالتأكيد مخطئ، فليست المشكلة محصورة في ضعف أو انهيار قيادة، مع التشديد على عبارة قيادة اليسار دون سواها، فقيادة حركتي فتح وحماس في ورطة، والخروج منها ليس سهلا، فالشعب الفلسطيني اليوم في الضفة والقطاع والشتات يضج بالمتعلمين وأصحاب الكفاءات والمثقفين اليساريين الذين يرقبون تناحر الأخوة الأعداء وتسابقهم من أجل إرضاء من لا مصلحة لهم بوحدة وهناء شعب فلسطين. أتدرون لماذا أحييَت عظاما رميما، واستحضرَت على عجل جثث عجائز فصائل شبعت موتا من كهوفها إلى بيروت والقاهرة؟ الإجابة يقدمها مثل شعبي يقول "المفلس يفتش في دفاتره القديمة"؛ أي أن انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة ستأتي بقيادات شابة، كيف لا وحصاد عقدين من الزمن طعمه علقم؟ وهذا درس تعلمه المواطن الفلسطيني من كيسه مكتشفا الحقيقة منذ زمن بعيد، هذا الأمر يعرفه جيدا المشاركون في حوارات القاهرة وقبلها بيروت ـ رام الله، وإسطنبول وقطر ومكة، لكنهم للأسف يكابرون. الأكيد أن أهل اليسار الفلسطيني -وما أكثرهم- سيقولون كلمتهم في الانتخابات القادمة، وفي انتظار كلمة الشعب تعيش كافة القيادات التقليدية حالة خوف، وأكاد أقول رعب.  

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب