إن ما يحتاجه الإنسان من بديهيات في مكان سكناه وفي قريته أو مدينته هو الأمن والنظافة والهدوء، هذه الأمور الأساسية التي يجب أن تكون معا هي الأساس المتين لمواطنة سليمة وإيجابية، وواعية ومنتجة. الأمان في معظم قرانا ومدننا أصبح معدوما، والعنف والقتل والتعدي على حياة الغير أصبح أمرا مستعصيا ومقلقا ووجوديا في آن واحد. الأسباب عديدة ومتشعبة، وأهم سبب هو الفشل التربوي في البيت وفي المدرسة، بعد أن تحولنا بسرعة خلال عقود من مجتمع فلاحي منتج يعتاش على ما ينتجه من الأرض، أي أن الأرض كانت تقريبا وسيلة الإنتاج الوحيدة، إلى مجتمع استهلاكي بامتياز عصبي المزاج، فظ ووصولي، ينظر إلى الأمور المادية لتحقيق الذات الاستهلاكية قبل كل شيء، وتحقيق الذات في هذا المفهوم يعني نهاية الأخلاق والقيم التربوية القيمة التي تحترم الآخر ورأيه وحياته. مثال شبابنا اليوم وللأسف هو تقليد لأخلاق الغرب، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، التي برهنت الأحداث الحاصلة هناك في السنوات القليلة، وخاصة في ظل وباء كوفيد 19، أنها تفتقد الأخلاق الحميدة التي نعرفها وتفتقد القيم التربوية واحترام القوانين الإنسانية، ومنها القوانين الدولية منذ شرائع حمورابي والديانات التوحيدية التي علمتنا كرم الأخلاق قبل أن تنعدم هذه الأخلاق وتتحول إلى أداة لتخريب الدول وتدمير بلاد الشعوب الآمنة، والاعتداء على القيم البشرية. حصل هذا بعد أن عرف الغرب نقطة ضعف الشعوب المتدينة، واستغلال دينها لخلق القلائل وتدمير البلاد والشعوب، فالقتل صار في نظر شبابنا سهلا، بعد فشل المجتمع المدني والسلطات المحلية والسلطة الحاكمة في إيجاد الحلول.
ما معنى أن يخسر المواطن أمنه الوجودي والخوف على حياته في بلدة وبيته وحارته ومسقط رأسه؟ مشاكلنا ليست العنف فحسب، بل هي كثيرة ومتشعبة. لنأخذ مثلا حال النظافة في شوارعنا وحاراتنا، وهنا لا نلوم السلطات المحلية فقط، بالنسبة لوضع النظافة المزري فعلا في مدننا وقرانا، بل نلوم سكان هذه المدن والقرى فردا فردا، صغيرا وكبيرا. يثبت الواقع الذي نعيشه أن ليس لبعضنا انتماء لا لبلد ولا لوطن ولا لمجتمع، يلقون نفاياتهم كيفما كان في الشارع أو في الحُرش أو على أطراف كروم الزيتون الجميلة التي تحيط بالقرى والمدن الصغيرة، دون خجل ولا وازع من ضمير. يكفي مشوار واحد سيرا على الأقدام، في حوافي وأطراف كل القرى والمدن العربية، وفي كروم الزيتون والاشجار المثمرة الأخرى التي تحيطها من كل جانب حتى نرى منجزات شعبنا وتعديه السافر على البيئة وعدم انتمائه لقرية أو مدينة أو وطن، من يملك ويعرف معنى الانتماء والإيمان لا يوسخ محيط عيشه ولا مدينته ولا وطنه. السطات المحلية في هذا المجال تعمل بمعظمها بكل طاقتها المتوفرة، ولكنها لا تستطيع أن تقرر وتعين وتوظف لكل مواطن عامل نظافة.
قالوا أن الديموقراطية إذا أعطيت لجاهل تصبح فوضى، وهذا ما نراه ونسمعه فعلا كل يوم وكل ليلة، من إطلاق المفرقعات والميكروفونات ومزامير السيارات حتى بعد منتصف الليل، وإغلاق الشوارع حتى الرئيسية منها، بسب عرس أو حتى عقيقة أو عيد ميلاد لطفل. سافرت وتعلمت وتخرجت وتزوجت، وكبر أولادي وتعلموا وتزوجوا وخلفوا أحفادي، ولم أستعمل مفرقعة واحدة، ولم أغلق باب دار أحد من الجيران، ولم أطلق العنان للفوضى الضاربة المزعجة حتى الصباح. ما يحدث عندنا هو مرض عصابي جماهيري فوضوي من السهل عليه أن يحول حياة جماهيرنا إلى جحيم إذا استمرت مفاهيمنا وتربيتنا لأجيالنا القادمة كما هي. لم أفهم بعد ما هو الرابط بين النجاح والسعادة والمفرقعات. الضجة بكل صورها ليست علامات عز وفرح، بل علامات فوضى فجة وبدائية لمجتمع جاهل يرقص على حبال الهوى، بعيدا عن أي انتماء حقيقي، وبعيدا عن حب بلد أو قرية أو طن أو جار. شفاعمرو بلدي، بلد عريق وجميل، قلعتها تحتاج إلى ترميم مع السوق القديم، لتكون هدفا لسياح الداخل والخارج، وهذا يعزز من مكانة وتاريخ البلد طبعا، بعد أن تتغلب البشرية على الكورونا ونعود معها إلى حياتنا الطبيعية، ولكنها تعاني من المشاكل التي يصنعها سكانها كبقية قرانا ومدننا. هدف كل سلطة محلية عربية يجب أن يكون بالأساس خلق الظروف المثالية الأخلاقية، لخلق مواطن صالح وأجيال تعتز بعيشها ببلدها. إن ما ينطبق على شفاعمرو ينطبق على كل مدننا وقرانا، لأننا نملك ذات المفاهيم والعقلية العربية. يجب تحقيق الأمن والأمان والنظافة، ومن ثم ترميم القلعة والآثار التاريخية التي أصبحت بعضها مواقع لكب النفايات، والسلطة المحلية الناجحة قادرة على ضبط أوضاع البلد من كل النواحي، إذا كانت هي ذاتها لا تعاني من الطائفية والحمائلية، والعائلية والمحسوبية.
القانون العام في أغلب حالاته وأجندته، وفي معظم دول العالم المتطورة، وضع لصالح السلطة المحلية. أي سلطة محلية ناجحة ومعها القانون العادل قادرة أن تخلق ظروف العيش الكريم الذي يستحقها الانسان المعاصر، فالمواطن المعاصر الواعي هو الأساس لبناء بلد عصري وجميل، خال من كل الموبقات والخلافات، محافظا على البيئة والأمن والأمان والجيرة الحسنة، وهو المسؤول عن أفعاله قبل السلطة المحلية.
على سبيل المثل، في أوروبا واليابان، عدد عمال النظافة أقل نسبيا مما هو عندنا، لأن كل مواطن هناك ومن جيل خمس سنين هو عامل نظافة وعامل محافظة، يحرس الأملاك العامة ولا يعتدي على حرية وأملاك الآخرين، وحقهم في العيش الكريم، لأنه بذاته يشعر بالانتماء إلى بلد ووطن يحبه ويعشقه ويدافع عنه. مع كل ما خلفته الكورونا من ألم وأسى، وحزن وموت وخوف، لكنها كانت الوحيدة القادرة على إسكات الأبواق الليلية وضجيج المفرقعات، وفتحت الشوارع وتنفست الطبيعة والبيئة قليلا على مستوى العالم، وفرضت قوانينها التي أجبرتنا أن نعيش بصورة طبيعية في بعض مناحي الحياة الأساسية الفطرية، التي عاشها بأمان وسلام آباؤنا وأجدادنا.
إضافة تعقيب