news-details

أي وطن نريد؟|  د. فؤاد خطيب‏

إن ما يحتاجه الإنسان من بديهيات في مكان سكناه وفي قريته أو مدينته هو الأمن ‏والنظافة والهدوء، هذه الأمور الأساسية التي يجب أن تكون معا هي الأساس المتين ‏لمواطنة سليمة وإيجابية، وواعية ومنتجة. الأمان في معظم قرانا ومدننا أصبح ‏معدوما، والعنف والقتل والتعدي على حياة الغير أصبح أمرا مستعصيا ومقلقا ‏ووجوديا في آن واحد. الأسباب عديدة ومتشعبة، وأهم سبب هو الفشل التربوي في ‏البيت وفي المدرسة، بعد أن تحولنا بسرعة خلال عقود من مجتمع فلاحي منتج ‏يعتاش على ما ينتجه من الأرض، أي أن الأرض كانت تقريبا وسيلة الإنتاج ‏الوحيدة، إلى مجتمع استهلاكي بامتياز عصبي المزاج، فظ ووصولي، ينظر إلى ‏الأمور المادية لتحقيق الذات الاستهلاكية قبل كل شيء، وتحقيق الذات في هذا ‏المفهوم يعني نهاية الأخلاق والقيم التربوية القيمة التي تحترم الآخر ورأيه وحياته. ‏مثال شبابنا اليوم وللأسف هو تقليد لأخلاق الغرب، خاصة الولايات المتحدة ‏الأمريكية، التي برهنت الأحداث الحاصلة هناك في السنوات القليلة، وخاصة في ‏ظل وباء كوفيد 19، أنها تفتقد الأخلاق الحميدة التي نعرفها وتفتقد القيم التربوية ‏واحترام القوانين الإنسانية، ومنها القوانين الدولية منذ شرائع حمورابي والديانات ‏التوحيدية التي علمتنا كرم الأخلاق قبل أن تنعدم هذه الأخلاق وتتحول إلى أداة ‏لتخريب الدول وتدمير بلاد الشعوب الآمنة، والاعتداء على القيم البشرية. حصل ‏هذا بعد أن عرف الغرب نقطة ضعف الشعوب المتدينة، واستغلال دينها لخلق ‏القلائل وتدمير البلاد والشعوب، فالقتل صار في نظر شبابنا سهلا، بعد فشل ‏المجتمع المدني والسلطات المحلية والسلطة الحاكمة في إيجاد الحلول.‏

ما معنى أن يخسر المواطن أمنه الوجودي والخوف على حياته في بلدة وبيته ‏وحارته ومسقط رأسه؟ مشاكلنا ليست العنف فحسب، بل هي كثيرة ومتشعبة. لنأخذ ‏مثلا حال النظافة في شوارعنا وحاراتنا، وهنا لا نلوم السلطات المحلية فقط، ‏بالنسبة لوضع النظافة المزري فعلا في مدننا وقرانا، بل نلوم سكان هذه المدن ‏والقرى فردا فردا، صغيرا وكبيرا. يثبت الواقع الذي نعيشه أن ليس لبعضنا انتماء ‏لا لبلد ولا لوطن ولا لمجتمع، يلقون نفاياتهم كيفما كان في الشارع أو في الحُرش أو ‏على أطراف كروم الزيتون الجميلة التي تحيط بالقرى والمدن الصغيرة، دون خجل ‏ولا وازع من ضمير. يكفي مشوار واحد سيرا على الأقدام، في حوافي وأطراف ‏كل القرى والمدن العربية، وفي كروم الزيتون والاشجار المثمرة الأخرى التي ‏تحيطها من كل جانب حتى نرى منجزات شعبنا وتعديه السافر على البيئة وعدم ‏انتمائه لقرية أو مدينة أو وطن، من يملك ويعرف معنى الانتماء والإيمان لا يوسخ ‏محيط عيشه ولا مدينته ولا وطنه. السطات المحلية في هذا المجال تعمل بمعظمها ‏بكل طاقتها المتوفرة، ولكنها لا تستطيع أن تقرر وتعين وتوظف لكل مواطن عامل ‏نظافة.‏

قالوا أن الديموقراطية إذا أعطيت لجاهل تصبح فوضى، وهذا ما نراه ونسمعه ‏فعلا كل يوم وكل ليلة، من إطلاق المفرقعات والميكروفونات ومزامير السيارات ‏حتى بعد منتصف الليل، وإغلاق الشوارع حتى الرئيسية منها، بسب عرس أو حتى ‏عقيقة أو عيد ميلاد لطفل. سافرت وتعلمت وتخرجت وتزوجت، وكبر أولادي ‏وتعلموا وتزوجوا وخلفوا أحفادي، ولم أستعمل مفرقعة واحدة، ولم أغلق باب دار ‏أحد من الجيران، ولم أطلق العنان للفوضى الضاربة المزعجة حتى الصباح. ما ‏يحدث عندنا هو مرض عصابي جماهيري فوضوي من السهل عليه أن يحول حياة ‏جماهيرنا إلى جحيم إذا استمرت مفاهيمنا وتربيتنا لأجيالنا القادمة كما هي. لم أفهم بعد ما هو الرابط بين ‏النجاح والسعادة والمفرقعات. الضجة بكل صورها ليست علامات عز وفرح، بل علامات فوضى فجة وبدائية ‏لمجتمع جاهل يرقص على حبال الهوى، بعيدا عن أي انتماء حقيقي، وبعيدا عن ‏حب بلد أو قرية أو طن أو جار. شفاعمرو بلدي، بلد عريق وجميل، قلعتها تحتاج ‏إلى ترميم مع السوق القديم، لتكون هدفا لسياح الداخل والخارج، وهذا يعزز من ‏مكانة وتاريخ البلد طبعا، بعد أن تتغلب البشرية على الكورونا ونعود معها إلى ‏حياتنا الطبيعية، ولكنها تعاني من المشاكل التي يصنعها سكانها كبقية قرانا ومدننا. ‏هدف كل سلطة محلية عربية يجب أن يكون بالأساس خلق الظروف المثالية ‏الأخلاقية، لخلق مواطن صالح وأجيال تعتز بعيشها ببلدها. إن ما ينطبق على ‏شفاعمرو ينطبق على كل مدننا وقرانا، لأننا نملك ذات المفاهيم والعقلية العربية. ‏يجب تحقيق الأمن والأمان والنظافة، ومن ثم ترميم القلعة والآثار التاريخية التي ‏أصبحت بعضها مواقع لكب النفايات، والسلطة المحلية الناجحة قادرة على ضبط ‏أوضاع البلد من كل النواحي، إذا كانت هي ذاتها لا تعاني من الطائفية والحمائلية، ‏والعائلية والمحسوبية. ‏

القانون العام في أغلب حالاته وأجندته، وفي معظم دول العالم المتطورة، وضع ‏لصالح السلطة المحلية. ‏أي سلطة محلية ناجحة ومعها القانون العادل قادرة أن تخلق ظروف العيش الكريم ‏الذي يستحقها الانسان المعاصر، فالمواطن المعاصر الواعي هو الأساس لبناء بلد ‏عصري وجميل، خال من كل الموبقات والخلافات، محافظا على البيئة والأمن ‏والأمان والجيرة الحسنة، وهو المسؤول عن أفعاله قبل السلطة المحلية. ‏

على سبيل المثل، في أوروبا واليابان، عدد عمال النظافة أقل نسبيا مما هو عندنا، ‏لأن كل مواطن هناك ومن جيل خمس سنين هو عامل نظافة وعامل محافظة، ‏يحرس الأملاك العامة ولا يعتدي على حرية وأملاك الآخرين، وحقهم في العيش ‏الكريم، لأنه بذاته يشعر بالانتماء إلى بلد ووطن يحبه ويعشقه ويدافع عنه. مع كل ‏ما خلفته الكورونا من ألم وأسى، وحزن وموت وخوف، لكنها كانت الوحيدة القادرة ‏على إسكات الأبواق الليلية وضجيج المفرقعات، وفتحت الشوارع وتنفست الطبيعة ‏والبيئة قليلا على مستوى العالم، وفرضت قوانينها التي أجبرتنا أن نعيش بصورة ‏طبيعية في بعض مناحي الحياة الأساسية الفطرية، التي عاشها بأمان وسلام آباؤنا ‏وأجدادنا.‏

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب