news-details

إلى الأم الفلسطينية في عيدها| د. حسين علي شعبان

حضرتني فجر اليوم صورة أمهات فلسطينيات كثيرات: من أم جبر وشاح في غزة، أم نبيل أبو الهيجا الشعبية في تل الزعتر، ونسة السويطية الحيفاوية الكاوية في السان سيمون، زهرة المولود أم أحمد في مخيم نهر البارد، زهرة عنان أم محمد سالم الديشومية من مخيم برج الشمالي وجوزيفين من ضبية أو جسر الباشا وأخريات من مخيم تل الزعتر ومخيم شاتيلا. لكن صورة واحدة لا زالت تصفعني. وقفت عصر أحد أيام أيلول/ سبتمبر 1985، عند المدخل الشمالى لمخيم شاتيلا على مقربة من سينما الشرق ومقهى علي هندر أراقب تحرشات أفراد الدرك اللبناني و قد نصبوا حاجزًا يفتشون الداخل والخارج من المخيم. أسندت ظهري إلى سيارة قديمة ورحت أتفحص عن بعد أداء أفراد الحاجز وقد أفرط بعضهم في إهانة الفلسطينيين أبناء المخيم. أوقف دركي صبية جاءت من صبرا تدخل المخيم. لم أسمع الحديث بين الدركي والصبية الأم التي اجزم انها ما جازفت بدخول المخيم مساء ذلك النهار لو لم يكن لها اطفال وأهل في المخيم. رأيت الدركي يفتش حقيبة يد الصبية. غادرت الصبية الحاجز وكان من الطبيعي أن تمر بجواري، لاحظت أن الصبية ذرفت دموعًا كثيرة فأدركت أن الدركي تحرش بها اثناء توقفها وتفتيش حقيبة يدها. الصبية تعرف من أنا ومن أكون وماذا أمثل والرجال في المخيم كانوا في ساعات النهار قلة كون المقاتلين ينامون نهارا ويستيقظون ليلا للسهر على أمن أهل مخيمهم من بطش وإجرام البرابرة.

توقفت الصبية أمامي وقد أحرقت قلبي دموعها وقالت بصوت نبرته مخنوقة "هل أعجبك العرض؟" أطرقت رأسي أرضًا لا أجرؤ على النظر اليها وقلت "الله بيفرجها يا أختي". كنت والمدافعين عن المخيم ندرك أن تلك المعركة لم تكن الا حنجلة لحرب طاحنة كانت الامهات الفلسطينيات بطلاتها، نهارًا يعددن الطعام في مطبخ اتحاد المرأة الفلسطينية ومساء يقمن ببناء المتاريس وتحصين الخطوط الدفاعية. ليلة الحادي والثلاثين من كانون الأوّل/ ديسمبر 1986، أمهات مخيم شاتيلا كن مشغولات بتحصين الدفاعات عندما باغتتهن دبابة للقتلة. حضر "العقيد" ابراهيم شعبان يحمل قاذف قاذفته الصاروخية ونفر مقاتلين. شعرت الصبايا بالأمان فواصلن عملهن في التدشيم والتحصين. ليلتها بكت الصبايا ابراهيم وقد سقط شهيدا يدافع عنهم وابنائهم.  ستبقى امنة الخطيب وخلدات حسين وأم علي النصراوية ودلال رمزًا للأم الفلسطينية التي وهبت شبابها وعنفوانها لكرامة شعبها.

كل صباح اعتادت زهرة أم محمد سالم أن تعد بقجة ملابس وبعض الطعام ثم تخرج من بيتها بعد أن تغافل زوجها طيب الذكر أبو محمد خالد سالم. تنطلق أم محمد من بيتها عند الطرف الغربي للمخيم وتتجه شرقًا الى وسطه او الى حيث يوقفها من يعرفها والكل يعرفها فيدعوها الى بيته بانتظار ان يأتي ابو محمد ليعيدها الى البيت. اعتادت ام احمد ان تنتظر ام محمد في كل مرة ترى ابي محمد متوجها الى المسجد لصلاة الظهر. السلام عليكم يا ام محمد؟ الى اين ان شاء الله؟ "والله يا حبيبتي رايحة ع فلسطين"، ليش يا ام محمد ان شاء الله خير؟ "ماخذة شوية اواعي واكل لمحمد بفلسطين". تفضلي يا ام محمد بدي البس أواعيي واروح معك ع فلسطين، ترد ام احمد. ما ان تنتهي ام محمد من تناول كوب شاي اعدته لها ام احمد حتى تتناهى الى سمعها طرقات ابو محمد على الباب. تخرج ام احمد لتستقبل ابي محمد. ما تاكل هم يا ابو محمد زوجتك عندنا تفضل. يعتذر ابو محمد وقد عادت اليه الروح ثم يحمل البقجة ويمسك ام محمد من يدها ويعود بها الى كوخهما. هكذا قضت ام محمد وابو محمد بقية حياتهما منذ ان قضى ابنهما البكر الاستاذ محمد شهيدًا.

سميرة قدورة، المشهورة باسم أم نبيل أبو الهيجا زوجة طيب الذكر محمود ابو الهيجا الشعبي هي واحدة من ملاحم الام الفلسطينية. في تل الزعتر قدمت ام نبيل أربعة شباب شهداء، هذا قبل ان يختطف المسلحون الفاشيون شرقي بيروت ابنها الخامس. لم تستسلم ام نبيل بل حملت البندقية وراحت تحرس أحد مقرات الثورة في الدامور. ذاع صيت ام نبيل فراحت القوات الفاشية ترسل لها المندوبين الواحد تلو الاخر حاملين لها الرسائل الشفهية واخرى مكتوبة من ابنها الاسير.  ربما كان السفاح اسعد الشفتري المرتزق في "القوات اللبنانية" المختص باختطاف وقتل الابرياء على الهوية وقد اعترف بعظمة لسانه قتله الالاف المتهم الرئيس باستدارج ام نبيل لمقابلة ابنها. ام نبيل حرقها غياب الابن وقهرها فراق فلذة الكبد. ركبت ام نبيل صهوة الامل مجازفة بحياتها على امل عناق ابنها.  غدر الفخ المنصوب كان بانتظارها، وقعت ام نبيل اسيرة مختطفي ابنها، لم يكتف المجرمون بقتلها بل قاموا بتقطيعها اربا انتقاميا لسادية مجرمين عنصريين.

تحملت الأم الفلسطينية كل عذابات الأرض عندما نقلت السلطات اللبنانية اللاجئين الفلسطينيين الى تلك المنطقة النائية المقطوعة الى الشمال من مدينة طرابلس والقريبة من منطقة عكار. قطعة ارض نصفها تراب والاخر رمل لقربها من الشاطئ جعلها الفلسطينيون أكثر بقاع الارض امنا وطمأنينة فأزاحوا رعب اساطير تطقطق لسريتها عظام سكان طرابلس واهل الشمال اللبنانيين.  هزمت الامهات الفلسطينيات وهن يخرجن الى الحقول عظام وحوش بحرية قيل انها تخرج من البحر الى الشاطئ ليلا لتلتهم من اضاعوا دربهم من البشر. لم تتوقع الام الفلسطينية حصار ضباط "الشقيقة" لمخيم نهر البارد صيف تموز/ يوليو 2007 وتدميره، لا بل تسوية بيوته بالأرض وازالة معالمه عن الجغرافيا. تحدت زهرة المولود ام احمد الحصار والدمار فانشغلت بتزويج اولادها وبناتها الواحدة تلو الاخرى. حرصت زهرة على مساعدة اولادها وبناتها دون كلل او ملل. تدمير المخيم وقلة البيوت الفارغة حير ام احمد في امر زواج ابنها الاصغر.  دون تردد وبعد ان ضاق بها الحال وعدمتها الحيلة قررت زهرة ان تقدم بيتها الذي تسكن فيه لابنها للزواج والاستقرار فيه مع زوجته.  انتقلت زهرة وزوجها الى الاقامة بشكل مؤقت في بيت ابنتها المقيمة في المانيا.  اصيبت زهرة مؤخرًا بأزمة قلبية اقعدتها عن الحركة لكنه ام احمد لم تفقد املها فسعادتها أن ترى بعض احفادها يرتعون ويلعبون حولها.  

توجهت صباح أحد الايام بمعية صديقي الاستاذ سليمان شمالي ابو علي الى مستشفى الساحل في ضاحية بيروت الجنوبية لعيادة الشيخ الجليل عبد الله الطايع ابو خالد الملقب بالسويطي نسبة الى قبيلة السويط. كالعادة مشدودين رحنا نستمتع ابو علي وانا بإجابات وحديث الشيخ ابي خالد، كيف لا وهو شيخ عرب واستاذ في علم الدبلوماسية وأدب الحديث والحوار وسيد المجالس واسياد اللياقة والتواضع وحسن المعاملة.  لفتنا ونحن مستغرقان في الاستماع الى الشيخ الجليل صوت سيدة ربما هي في منتصف العقد الرابع من عمرها وقد فاجأتنا تدخل الغرفة بلا استئذان وهي تصرخ وتولول "سلامتك يا بوي يا حبيبي". انكبت المرأة على قدمي والدها تقبلهما وتردد والدموع فوق خديها "سلامتك يا بوي يا حبيبي، سلامتك يا بوي يا حبيبي". كأنه النسر في سرعته سحب الشيخ الجليل قدميه وهو يقول مكررا "استغفر الله، استغفر الله" ويحتضن ابنته بين ذراعيه.  خرجنا ابو علي وانا مصعوقين نبحث عن اجابة لسؤال، ما الخطب الجلل، ما الامر العظيم الذي فعله الشيخ الجليل لابنته حتى تنكب بهذه الطريقة على قدميه تقبلهما؟ اما حكاية ونسة ام خالد زوجة ابو خالد فتلك مأثرة اخرى من مآثر الحيفاويات العكاويات الجليليات. ما ان يطرق زائر كوخ الشيخ الجليل في السان سيمون جنوب بيروت والشيخ غائب عن المكان حتى تخرج ونسة ام خالد بصوتها الجهوري وثوبها وعصبة رأسها البدويين مرحبة بالضيف داعية اياه الى دخول الديوان. يستحيل ان يتملص الزائر من ترحيب وأوامر الشيخة ونسة ام خالد، قبل ان يرتاح الضيف من عناء الطقس والدرب فاذا بالحجة ونسة تبادره والركوة في يدها اليسرى بفنجان قهوة عربية في يدها اليمنى. "هسع يجي ابو خالد، ما اظنه يطول"، تجلس ام خالد مقبل الضيف تقرأ وجهه لمعرفة غايته ومقصدة وهي خير من يعلم ان الكثير من قاصدي الشيخ لهم طلب او يبحثون عن تدخله في شأن شخصي او عائلي.

  في مخيم شاتيلا وصبرا والجوار تحمل الام الفلسطينية صباح يوم عيد الفطر، عيد الأضحى، العيد الكبير، عيد الميلاد، عيد الاسير، يوم الشهيد، عيد الثورة، عيد الانطلاقة وكل عيد صغر او عظم شأنه سعف النخيل والورود والماء والحلوى ويتوجهن الى مقبرة "شهداء فلسطين". بالمناسبة الثوار الشهداء جميعًا يرقدون هنا اشقاء واخوة وقد وحدتهم أفكار وأهداف ثورة استرداد الكرامة والارض. جثامين الشهداء في هذه المقبرة غسلت بدموع الامهات وجاءت المكان محمولة ومحاطة بالمؤمنين.  بدلاتهم العسكرية او ملابسهم التي ارتدوها لحظة الشهادة هي كفنهم. هنا يرقد الفلسطيني، اللبناني، السوري، الجزائري، السعودي، التونسي المصري معانقا الطلياني والفرنسي والياباني. الام الفلسطينية ترعاهم جميعا بلا استثناء ولا تميز فتغسل بمائها الطاهرة الغبار عن شواهد قبورهم وتزينها بالورود وسعف النخيل. لا تفارق فرحة العيد وجه الام فعودتها الى ابنائها واحفادها في المخيم صباح العيد له طعم ومذاق آخر.

لا أعتقد أن كاتبًا او مخلوقًا أيًا كان قادر على إعطاء الفلسطينية حقها، هي السماء، هي الأرض، هي التاج فوق الرأس، هي الغترة فوق الشماخ تحتها الهامة، هي راية فلسطين فوق الجبال الشاهقات، هي منارة الشواطئ في بحور الضياع، هي الملاذ، نظرتها الأمان، هي الأمل والرجاء، هي جنة الله فوق الأرض. نعم هذه أمي التي أقبل قدميها ... فكل عام وانت بألف خير يا أمي. 

    

    

 

     

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب