news-details

الأحياء والأموات

 

في رواية الكاتب الروسي " قسطنطين سيمونوف" الأحياء والأموات، أحداث وتفاصيل كثيرة عن حكايات ومشاهد حقيقية، وقعت خلال الحرب العالمية الثانية، في ذروة اجتياح الجيوش النازية للأراضي السوفياتية والبلدان الأوروبية.

وأول ما يتوارد لذهن القارئ من العنوان، وقبل أن يستغرق في أجواء الحرب الصاخبة، أن المقصود هو الحياة والموت، وما تخلفه الحروب من ضحايا يسقطون في أتونها ، وناجين يفلتون من براثنها، لكن القارئ، يدرك خلال السياق، أن الرواية، وإن وثقت مشاهد النجاة والفناء، فإنها عُنيت بالأساس في تخليد مواقف البطولة والتضحية، لمن صمدوا وثبتوا، وافتدوا بلادهم و رفاقهم، بدمائهم وأرواحهم، و تسجيل مواقف الجُبن والهوان، لمن فرّوا أو تعاونوا مع أعدائهم، فإذا بالجبناء هم الأموات، وإن بلغو من العمر عتياً، وبالشهداء هم الأحياء، وإن قضوا نحبهم، لأن الحياة إما أن تكون حياةً للقيم والمثل التي يجسدها الإنسان وتمنحه كرامته وقيمته، وإلا فإن التردي والتهاوي في مهالك الذل والانحطاط هو الموت والاندثار.

تذكرت هذه المعاني، وهذه النظرة للعالم وللناس وللأشياء، وأنا أتابع مشاهد التطبيع الثلاثي الإسرائيلي – الإماراتي – البحريني، على شاشة التلفاز، وفي حمأة المشاعر المختلطة للغضب والقرف والأسى، أيقنت، أكثر مما أيقنت في أي وقت مضى، أن شعبنا الفلسطيني الصامد، المقاتل، هو الأكثر حيوية وحرية، وإن كان تحت الاحتلال، مقارنة بأولئك البؤساء الفاقدين لحريتهم، الراسفين بأصفاد الرق والعبودية.

وبالتضاد مع الصور الباهتة والهزيلة للبهلولين الجالسين على منصة التوقيع، باسم شعوبٍ لم يسألوها، وبلادٍ أطهر من أن يلوث تاريخها برعونة، اتقدت في ذهني صور الصبي فارس عودة وهو يتصدى لدبابة عملاقة بحجارته الصغيرة، والشهيدة آيات الأخرس،قبل أن تفجر حزامها الناسف، وهي تخاطب جنرالات جيوشٍ صدأت مدافعها، وتستصرخ فيهم نخوة ورجولة وا معتصماه، التي ذهبت أدراج الرياح، والشهيد المقعد "المنتصب القامة" إبراهيم أبو ثريا " وهو يبلغ السياج الفاصل، برجليه المبتورتين، ليرتقي شهيدا، شاهراً علم فلسطين، يكاد يشد عليه بعضديه، لا يلوي على شيء من الدنيا.

استذكرت قوافل الشهداء، وآلاف الصور والمشاهد الشامخة، لأبطال الثلاثاء الحمراء، و القسطل، والكرامة، وبيروت، ومخيم جنين، وتخوم غزة، والمحطات الحافلة والكثيرة في مشوار العزة والشرف، على درب الفدائيين والمناضلين، وانتفاضات الشعب الفلسطيني وثوراته المتعاقبة، وكل من وقف معنا وقاتل في صفوفنا والى جانبنا من شعوب أمتنا المجيدة، فلم تبد صور المطبعين والمهرولين الا ظلالا قاتمة لاحتلالٍ سينجلي، ورواسبَ ستستقُر في القاع، وأشباحاً لأمواتٍ ماتوا في دواخلهم، أقعدهم الخُنوعُ، ولم يعرفوا معنى الحياة.

*مسؤول الإعلام في سفارة دولة فلسطين بسلطنة عُمان

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب